ذكرت في المقال السابق أن الاستعمار حين دخل السودان دخله بقطار، وكان الجيش البريطاني بدأ في إنشاء أول خط حديدي في العام 1897 ووصل إلى مدينة أبي حمد في العام 1898 ثم عطبرة في العام 1899 وفي الأول من يناير 1900 كان الخط الحديدي وصل إلى مدينة الخرطوم. وقد ذكرت أن من حكم السودان كان من التكنوقراط.. بعض القُراء الكرام كان لهم رأي غير ذلك. ولكن طبيعة الجيوش: ما عدا جيوش العالم الثالث وبالذات إفريقيا لا تضم في الغالب تكنوقراط معسكرين، فالجيوش التي دخلت السودان كانت جيوش لها مقدرة هندسية كبيرة، وإلا ما استطاعوا بناء خط حديدي وكباري بقي معظمها حتى اليوم دون أن تجري عليه صيانات تذكر. وقد كان مدير السكة حديد مهندس ذو رتبة عسكرية لم تقل عن رتبة جنرال إلا آخر مدير عام للسكة حديد فقد كان في رتبة بريقادير أي عميد. مدير السكة حديد كان أعلى درجة من مدير المديرية، كما كان أعلى درجة من القائد العسكري، وكان مدير المديرية قبل أن يدخل مدينة عطبرة، كان يقف بعربته عند مدخل الكبري من الجهة الجنوبية وينزل سائق العربة ويطوي علم مدير المديرية، ولكن عندما يذهب مدير السكة حديد إلى الدامر كان علمه يرفرف في مقدمة عربته فهو الأعلى درجة سياسية كانت أم عسكرية، وكذلك الأمر سرى على مدير مشروع الجزيرة. فالسودان دخله التكنوقراط في زي عسكري حتى ضباط ومفتشي المجالس المحلية كانوا مهندسي طرق وتخطيط مدن. الجيوش الحديثة تعتمد اعتماداً كلياً على التكنوقراط العسكريين، واليوم تتم الترقيات في جيوش الدول الكبرى بالإنجازات العلمية وبالحصول على الدرجات العلمية في شتى العلوم طب هندسة زراعة طيران وخلافه فلا يترقى الضابط من رتبة رائد إلى مقدم مثلاً إلا إذا أحرز شهادة ماجستير ومن مقدم إلى عقيد إلا بإحراز درجة دكتوراه الفلسفة «PHD». وأذكر أن المشرف على رسالتي في جامعة هندسة السكة حديد بمدينة لينجراد كان حاملاً للدكتوراه العلوم وفي درجة بروفيسور ورغم كل هذا كان في رتبة عميد وقد نال المعاش من الاكاديمية العسكرية للسكك الحديدية وتلقته جامعة السكة حديد المدنية وعمل في درجة رئيس شعبة آليات ازاحة التربة..! وقد ذكرت في مقال سابق بعنوان حُسن الاختيار قصة ذلك المهندس الشاب الذي رافق ستالين في زيارته لأحد مصانع النسيج وقام بشرح عمليات النسيج بطريقة واضحة، وقد أعجبت ستالين وحين عاد إلى موسكو أصدر قراراً بتعيين ذلك المهندس الشاب وزيرًا لصناعة النسيج، وكان هذا المهندس الشاب هو اليكسي كوسجين أشهر وأقدر رئيس وزراء عرفه الاتحاد السوفيتي، ولعلي لا أذيع سراً إذا قلت أن وزير السكك الحديدية كان أحد خريجي الجامعة التي كنت أدرس فيها كما كان وزير الطرق كذلك مهندساً مختصاً بالطرق وكذلك الزراعة والثروة السمكية وعلى ذلك قس، وكانت معظم وزارات كوسجين التخصصية من التكنوقراط. فالدول تبنى بالتكنوقراط وأذكر أيضاً مثالاً آخر ذكرته من المقال السابق أن هتلر حين أدرك أن ألمانيا ستخسر الحرب طلب من أحد كبار مهندسيه أن يُعد قائمة من أميز المهندسين من مختلف التخصصات الهندسية، وعندما أعد المهندس القائمة وكانت طويلة جداً أمره هتلر بأخذهم إلى مكان آمن حدده هو والبقاء فيه حتى إشعار آخر منه شخصياً، وحين احتج أعوان هتلر وقالوا نحن في أمس الحاجة لهم قال لهم إن المانيا ستتدمر وهؤلاء من سيقوموا ببنائها وإعادتها إلى الحياة مرة أخرى.. وقد حدث ذلك بعد الحرب حيث قام هؤلاء بقيادة المستشار أديناور بإعادة ألمانيا بعد أقل من ربع قرن أكبر اقتصاد اوروبي واحد أكبر اقتصاديات العالم. هؤلاء أعادوا البنية التحتية لألمانيا وهي التي أتاحت لبروز البنية الفوقية لتحكم. التكنوقراط يعتمدون على الأبحاث العلمية والعملية وليسوا كالساسة الذين يضعون أنفسهم موضع العلماء وما هم بذلك، ليس في مفهوم الساسة مراكز علمية أو بحثية، إنما مراكزهم تملأ البلدان ضجيجاً بلا طحين، كم مركز دراسات في الخرطوم وحدها وكم من الأموال تنفق على تلك المراكز وهي لا تقدم شيئاً بينما مراكز الأبحاث الزراعية لا تجد لها قسطاً ولو يسيراً في الموازنة العامة، وحتى مراكز الأبحاث الطبية كالملاريا مثلاً والتي تحصد الارواح في السودان هي مجرد اسم بلا نتائج تذكر. التدهور المريع في الخدمات في السكة حديد والصحة والتعليم والزراعة سببه تسييس الوظائف القيادية وحتى ان كانوا تكنوقراط فإنهم ينفذون ما يمليه عليهم النظام الحاكم وقد ترى أحدهم مديراً لسودانير ثم مديرًا للسكة حديد أو الموانئ البحرية في حين أنها تخصصات تختلف عن بعضها البعض حتى في لغتها الهندسية. ومن يعين من التكنوقراط لا يعين لصفته الهندسية وإجادته لمهنته بل يعين لأنه منتمي إلى حزب النظام، وتملى عليه سياسات النظام حتى وإن تعارضت مع علمه الذي تخصص فيه. وكل الأمثلة التي ذكرها بعض القراء الكرام امثلة حقيقية ولكن التعيين في المجال لم يكن كخبير في المجال إنما تم تعيينه لولائه للنظام الحاكم، وأمثال هؤلاء التكنوقراط يجب اجتنابهم لأنهم رجس من عمل شيطان النظام الحاكم. أذكر على سبيل المثال سد هوڤر في الولاياتالمتحدة الذي شيد خلال الفترة 1931 1936 خلال فترة الكساد وفي الفترة التي حكمت فيها امريكا حكومة تكنوقراط وكانت الانطلاقة الامريكية فولد السد الفي ميقاوات بتكلفة قدرها تسعة واربعين مليون دولار تعادل في 2005 ستمائة وستة وسبعين مليون دولار «الفترة الزمنية تقريباً لإنشاء سد مروي الذي كلف ثلاثة مليار دولار حسبما ذكر أحد وزراء المالية السابقين أن الكهرباء المائية والحرارية كلفت ستة مليار مناصفة وكان وقتها سد مروي قد تم تشييده، فالذي بني سد هوڤر كان التنكوقراط أما ما حدث عندنا فكان من تنفيد الفشلوقراط من السياسيين..