عندما كان جواهر لال نهرو رئيساً لوزراء الهند وقطباً بارزاً في مجموعة دول عدم الانحياز ألقى في عام 1955م خطاباً شهيراً في مؤتمر باندونق الذي شهده عدد مقدر من رؤساء وزعماء دول عدم الانحياز، وبحدسه ونظرته الثاقبة البعيدة وقراءته لمآلات الأمور ذكر نهرو أن الاستعمار سيخرج بالأبواب من الدول التي يستعمرها وستفرح شعوب هذه الدول بنيلها لاستقلالها ولكنها إذا لم تبرح محطة الزهو والخيلاء بما حققته في مرحلة التحرر الوطني وأخذت تتغنى بنيل استقلالها مع إهمالها لإرساء دعائم الحكم والدولة وعدم الاهتمام بالتنمية والبناء والتعمير مع الانشغال بصراعاتها حول السلطة، فإن الاستعمار بخبثه سيمزق وحدتها الوطنية شذر مذر ويعود مرة أخرى ليس غازياً بجيوشه، ولكنه سيعود عبر النوافذ بوجوه أخرى تتمثل في الاستعمار الثقافي والاستعمار الاقتصادي... ألخ ومن ثم يلوي أيدي تلك الدول لتدور في فلكه وتكون خاضعة له وقد صدقت نبوءة نهرو إذ عاد الاستعمار الحديث عبر النوافذ، والشواهد كثيرة في دول العالم الثالث لا سيما في إفريقيا. والسودان قطر شائع واسع مترامي الأطراف وموقعه الإستراتيجي بين العالمين العربي والإفريقي وبين إفريقيا شمال الصحراء وإفريقيا جنوبها يجعله قنطرة التقاء وبوتقة تلاقي وأن موارده الهائلة الضخمة اذا تم استثمارها فإنه مؤهل ليكون مارداً اقتصادياً ورقماً إقليمياً مرموقاً، ولذلك فإن القوى الاستعمارية تسعى لتقسيمه لخمس دول وظلت تدعم الحركات المتمردة الحاملة للسلاح بالعتاد والمؤن والسلاح والذخيرة والعربات ذات الدفع الرباعي والمال مع تشجيعها للصراعات حول السلطة بين بنيه وهدفها أن يظل هذا الوطن قعيداً كسيحاً وفي حالة عدم استقرار وعدم توازن وأن البنك الدولي وفاتورة صندوق النقد الدولي التي فرض على السودان تطبيقها قد أدت لنتائج وخيمة، وعلى سبيل المثال فقد ظهر في عام 1978م ما عرف لأول مرة في السودان بالسوق الموازي وأصبح للدولار سعران وأن قيمة الجنيه السوداني التي كانت تساوي ثلاثة دولارات وثلثاً أخذت تنخفض بالتدريج حتى أتى زمان أصبح الدولار الواحد يساوي ثمانية آلاف «بالقديم» جنيه سوداني في السوق الأسود وأدت هذه الحرب الاقتصادية في السنوات الأخيرة لتدمير القطاع الزراعي والمشروعات الكبرى وهدمت الصناعة وفي سنوات الإنقاذ شنت القوى الأجنبية حرباً اقتصادية وحصاراً على السودان ولولا مرور مرحلة التدفقات النقدية الدولارية البترولية لسقط النظام الذي استقوى مالياً في تلك الفترة ولكنه أهمل القطاعات الإنتاجية ولما انحسرت تلك التدفقات النقدية التي لم تستثمر على الوجه الأمثل أطلت المعاناة وما صحبها من قرارات اقتصادية ضيقت الخناق على المواطنين. وأن القوى الاستعمارية الأجنبية أعلنت أنها ضد توجه الدولة الإسلامي ولا يهمها إذا طبق ما طرح أو كان مجرد شعارات مرفوعة والشواهد على محاربتهم لهذا التوجه لا حصر لها واذكر منها على سبيل المثال أن الممرضة البارونة كوكس دغدغت عواطف القوى الكنسية واليهودية بدعوى أن السودان يشهد اضطهاداً دينياً ضد غير المسلمين وجمعت أموالاً طائلة تحت مظلة هذا الزعم الكاذب وكانت تمنح بعض الفتات لبعض عملائها السودانيين هنا وهناك وصار بعضهم من حوارييها ثم صمتت، ومن الواضح أنها لم تكن صاحبة قضية ولكنها كانت صاحبة مصلحة. أما وزيرة الخارجية الأمريكية في مرحلة سابقة ما دلين أولبرايت فقد كانت شديدة العداء لوطننا العزيز وطيلة شغلها لمواقعها ذاك كانت تهدد السودان بالثبور وعظائم الأمور وفي إحدى المرات قامت بجولة في بعض الدول الإفريقية المجاورة وأكثرت من تصريحاتها المسيئة للسودان وصحبت في الطائرة المقلة لها في تلك الرحلة عدداً من المعارضين السودانيين وكانت تريد استغلالهم واستعمالهم كعصاة تهز بها وتهدد النظام الحاكم في السودان ولعل بعضهم كان يدل تيهاً وحسب أنه أضحى رقماً مهماً عند الأمريكان ولكن مهمتهم انتهت بانتهاء تلك الرحلة وانزلوا كما يتم انزال طرد بضاعة انتهت صلاحيته وأصبح غير مرغوب فيه. أما هيلاري كلنتون فقد زارت بعض الدول الإفريقية عندما كان زوجها رئيساً وسكتت دهراً ونطقت كفراً بحديث خبيث فيه إساءة للعقيدة الإسلامية إذ طالبت بإلغاء تطبيق الحدود في السودان لأنها منافية لحقوق الإنسان وفي هذا تطاول ما بعده تطاول على شرع الله وعقيدة المسلمين. ولا ينكر أحد أن المساجد مليئة بحمد الله بالمصلين في كل الأوقات وما زالت كفة الخير راجحة ولكن الخير والشر دائماً في حالة اصطراع وبإذن الله سبحانه وتعالى ينتصر الخير على الشر، والمؤسف أن كفة الشر تشهد انتشار المخدرات بكميات مخيفة ونشر الموبقات وما يتبعها من أمراض الإيدز ونقص المناعة مع ظهور جرائم دخيلة لم يشهد لها السودان مثيلاً من قبل ولا ريب أن بعض القوى المعادية تسعى لهدم المجتمع وتفتيت نسيجه وأن القوى الأجنبية لا تعول كثيراً على قوى المعارضة الشمالية وقد استنفدت أغراضها بالنسبة لها وتحسب أن هذه القوى السياسية قد خذلتها ولم تقم بإلغاء ما كانت تسميه قوانين سبتمبر بعد انتفاضة رجب أبريل بل أنها حصدت أصوات الناخبين بتقديمها لبرامج ورفعها لشعارات إسلامية ولذلك فإن القوى الاستعمارية تعول على قطاع الشمال وتقف من خلفه مؤازرة وقد قام بدور تنسيقي جمع بموجبه كل الحركات المتمردة في ما يسمى الجبهة الثورية وتسعى القوى الأجنبية وتضغط ليبرم معه النظام اتفاقية مماثلة لاتفاقية نيفاشا ليكون بموجبها لهذا القطاع وجود معتبر في السلطة في كل مستوياتها السيادية والتنفيذية والتشريعية وعلى كل المستويات الاتحادية والولائية والمحلية وتريد هذه القوى دعم هذا القطاع لفرض برنامج السودان الجديد العلماني، ولذلك فإنه يتنمر في مفاوضات أديس أبابا ويحاول أن يستأسد وأن قادة هذا القطاع يتخذون من أبناء النوبة وجنوب النيل الأزرق أدوات ضغط ومحرقة ولا يهمهم حتى إذا أبيدوا جميعاً فالمهم هو تحقيق نزواتهم والوصول عبرهم للسلطة والجاه، وهذا القطاع الذي يريد أن يصبح وصياً على الشعب السوداني دون وجه حق لا نعرف له وجوداً يذكر في الشارع السوداني الذي نعيش وسطه ولا ندرى ربما تكون لهم قواعد جماهيرية في جزر واق الواق أو في كوكب آخر في المريخ أو في زحل، ومهما يكن فالمؤكد أن القوى الأجنبية ستضغط اقتصادياً على السودان وبدأت في استصدار بعض القرارات الصعبة وعلى مسؤولينا الاقتصاديين والماليين ألا يستخفوا بها وعليهم أيضاً أن يقفوا ملياً عند بعض الاضرابات المحدودة الجزئية التي بدأت تطبق هنا وهناك نتيجة لتأخر صرف المرتبات والحقوق والنار من مستصغر الشرر. وعلى النظام الحاكم أن يأخذ المسألة مأخذ الجد وأن الأحوال الداخلية آخذة في التردي أكثر وأن الضغوط الأجنبية ستكون أكثر شراسة وعلى النظام أن يصلح الأمور بيده لا بيد عمرو وأيدي القوى الأجنبية ونأمل أن يبدأ الحوار الوطني المسؤول على جناح السرعة بلا إبطاء أو تأخير وبلا مناورة فقد ولى زمن المناورات وعلى الأقل يمكن أن تجتمع كل القوى السياسية بلا عزل لأحد، ونأمل أن يحدث فرز للألوان الفكرية وكل نظام يقوم على عامودين وينهض على ساقين هما الحكومة والمعارضة وعلى الأقل يمكن أن تتحالف قوى وأحزاب الجبهة الوطنية المتقاربة فكرياً في كفة وتكون قوى اليسار والقوى العلمانية الأخرى في الكفة الأخرى مع الوصول لتسويات مع حملة السلاح والاتفاق على إجراء انتخابات حرة نزيهة والضرورة تقتضي إجراء إصلاحات بنيوية في السياسة الداخلية بكل مناحيها وفي السياسة الخارجية والضرورة تقتضي مد جسور الوصل والتعاون والعلاقات المتينة القوية مع المملكة العربية السعودية وكل دول الخليج مع فتح أبواب السودان على مصاريعها للمستثمرين العرب من تلك الدول، والسودان مؤهل ليكون سلة غذاء له وللعالم العربي، ولذلك تسعى القوى الاستعمارية لمحاربته ودعونا من الصراعات الحزبية والطموحات الذاتية والتشبث أو التكالب على المواقع على حساب الوطن الغالي .