ذكرت في الحلقة الماضية أن السودان غني بموارده الهائلة وثرواته الضخمة التي تؤهله لو استقرت الأوضاع فيه أن يصبح مارداً اقتصاديًا جباراً ورقماً لا يُستهان به على المستويين الدولي والإقليمي ويغدو من سلال الغذاء في العالم. وان السودان من أوائل الدول الإفريقية التي نالت استقلالها وقد شارك في مؤتمر باندونق في عام 1955م قبل اعلان استقلاله وهو من مؤسسي كتلة دول عدم الانحياز ومن مؤسسي منظمة الوحدة الإفريقية وكان اول رئيس مؤسس لاتحاد كرة القدم الافريقي هو دكتور عبد الحليم محمد. وشهد السودان انعقاد انجح مؤتمر قمة عربي منذ قيام الجامعة العربية وحتى الآن وهو مؤتمر الخرطوم الشهير الذي عقد في عام 1967م وعرف بمؤتمر اللاءات الثلاث. وان النهضة قوامها كافة المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية والدعوية والأدبية والفنية والرياضية .. و و الخ، واي ضعف في مجال هو مؤشر للضعف العام واذا كثرت الاغاني الساقطة الهابطة فان هذا الانحطاط دليل على الضعف العام. والسودان في ماضيه القريب المعاصر شهد سمواً وريادة في مختلف المجالات وفي مجال الدعوة الإسلامية، هناك عدد من العلماء السودانيين الأجلاء كانوا يدرسون في الحرم المكي الشريف وفي الأزهر الشريف. وفي مجال الفكر فإن جماع المقالات التي كتبت بمجلة النهضة ومجلة الفجر على سبيل المثال تشهد على علو كعب أولئك الكتاب والمفكرين السودانيين وان الذين كتبوا مذكراتهم أرخوا للحقب التي عاصروها وكانت مؤلفاتهم إضافات طيبة للتاريخ الاجتماعي وأذكر منها مذكرات خضر حمد وكتاب المسيرة للأستاذ أمين التوم والديمقراطية في الميزان الذي كتبه المحجوب ومن قبلهم صدر كتاب الشيخ بابكر بدري بعنوان حياتي بأجزائه الثلاثة وسبقهم ود ضيف الله الذي كتب طبقاته التي ارخت لفترة هامة في السلطنة الزرقاء ثم جاء ذيل الطبقات و كتاب الشونة وما كتبه ماكمايكل عن القبائل في السودان يعتبر من المصادر الهامة في علم الأجناس والقوائم طويلة وذكرت هذه على سبيل المثال وكلها تؤكد عظمة هذا الوطن الشامخ الذي يملك كل مقومات النهضة وبلوغ الذرى الشامخات ولكن قعدت به الحروب والصراعات حول السلطة. وعلى مدى خمسين عاماً ونيف ظل في حالة حرب تخمد هنا لتندلع هناك. ومنذ فترة تدور مفاوضات في اديس ابابا بين ممثلين للدولتين وظلت في كل جولة تصل لطريق مسدود ويدرك حتى الاطفال الصغار ان القوى الاجنبية تتعاطف مع الجنوب وتتحامل على الشمال وان الادارة الامريكية مقبلة على الانتخابات الرئاسية في شهر نوفمبر القادم وتسعى لاحراز نصر بتركيع السودان ليجثو على ركبتيه بتقديم تنازلات كثيرة للجنوب أو توعده بالثبور وعظائم الامور وهي تفعل ذلك لنيل أصوات ذوي الجذور الافريقية بأمريكا وقد اشتدت المنافسة بين مرشحي الحزب الديمقراطي والحزب الجمهوري لكسب أصوات اليهود والزنوج وغيرهما من اللوبيات الضاغطة. وفي هذه الجولة من المفاوضات ارادت تلك القوى الاجنبية ان تنفخ الروح في تنظيم غير معتمد عند مفوضية تسجيل الاحزاب وكان رافداً لحزب اضحت قيادته الآن في بلد أجنبي، وهدفهم اقامة معسكرات في النيل الازرق وجنوب كردفان اشبه بالمعسكرات المقامة في دارفور لمدهم بالمؤن والسلاح توطئة لفصل تلك المناطق والاوفق والاسلم هو مفاوضة رموز المنطقتين وعقلائهم لدمج تلك القوات المتمردة في القوات المسلحة او ايجاد البدائل لمن لا يتم استيعابهم ليعيشوا مكرمين معززين في وطنهم ولكن هدف المفاوضين الحاليين باسمهم زوراً وبهتاناً هو عقد اتفاقية مماثلة لاتفاقية نيفاشا يقتسمون بموجبها السلطة مع النظام الحاكم بلا وجه حق وبلا تفويض وقد اتخذوا من انفسهم اوصياء على الشعب السوداني دون تفويض منه واخذوا يتحدثون باسم جنوبهم الجديد المزعوم عن قضايا الشرق ودارفور والسدود والجزيرة ... الخ ولا ينكر احد ان لهذه المناطق وغيرها قضايا حيوية ولكنها لا يمكن ان تطرح بهذه الطريقة الفطيرة الضحلة بغرض دغدغة العواطف وان سكان تلك المناطق يمكن ان يعرض اي واحد منهم هذه القضايا بصورة افضل من ادعياء الوصاية وان اي حكامة من عرب البقارة يمكن اذا طلب منها وصف تلك المناطق ان تقدم وصفاً بلسان طلق مبين افضل منهم وعليهم الا يقوموا بدور الحكامة ولم يطلب منهم احد ان يكونوا اوصياء يتحدثون باسمه دون تفويض منه. ومن الاوفق للبلدين ان يصلا لاتفاقيات مُرضية للطرفين حول القضايا العالقة واذا استمرت الاوضاع كما هي عليه الآن فان الجنوب سيتضرر اكثر اذ ان الشمال هو الشريان الذي يمكن ان يمده باحتياجاته في غذائه وكسائه ... الخ. اما بعض دول الجوار الافريقي فانها تريد ان تستنزف موارده بتصدير الخمور اليه مع المفاسد الاخرى والايدز. ومن الخير للبلدين ان يصلا لسلام وجوار آمن يعقبه تعاون. لقد فرضت أمريكا ومجلس الامن في العشرين عاماً الماضية عقوبات كثيرة على السودان الذي لم يجد منهما الا الأذى والقبح في التعامل وكما يقولون فان «الممطورة لاتبالي من الرش» وان هذه القوى الاجنبية تقف خلف الفتن والبؤر الملتهبة في دارفور وفي المناطق الثلاث وغيرها. وعلى أسوأ الفروض اذا تخيلنا أن مجلس الامن اصدر عقوبات ضد السودان فما هو رد الفعل المتوقع هنا وبالطبع ان اطرافًا من السلطة سترتعد فرائصها فرقاً وخوفًا من اهتزاز كراسي سلطتهم وبعضهم قد يعنيه الوطن اكثر مما تعنيه كراسيهم لانها الى زوال طال الزمن او قصر لانهم ليسوا مخلدين فيها الى الابد وان الحاكمين في امريكا لم يعكس لهم مبعوثوهم وجواسيسهم معلومات حقيقية صحيحة عن طبيعة هذا الشعب ولذلك فإن معرفة كل اولئك عنه معرفة سطحية خاطئة. وليست لديّ ذرة من المعلومات المؤكدة عما سيحدث ولكني بالاستقراء ومحاولة قراءة الواقع على الطبيعة اتوقع ان تهب فئة قليلة العدد ولكن دائرتها الضيقة ستنداح وتتسع وان هذه القلة لا تأتمر بأمر السلطة الحاكمة ولا تأتمر بأمر المعارضة الضعيفة المهلهلة ولكنها تنطلق من قناعات مبدئية وستعتبر ان هذا استعمار اجنبي يجب محاربته وستقدم أرواحها فداءً للعقيدة والوطن ويمكن ان تهاجم مصالح تلك القوى الاستعمارية وتفجرها ويفجر كل منهم نفسه بعد ذلك اي ان القراءة الصحيحة تشير لان رد الفعل سيتمثل في قيام جماعات فدائية شرسة يكون تنظيم القاعدة بالنسبة لها من الحمائم والعصافير.. ووقتها ربما تردد أمريكا «ياحليل بن لادن» وان الاستبداد والغطرسة الاستعمارية والغرور الفائت لكل الحدود هو الذي يولد مثل هذه الجماعات المتطرفة وعلى امريكا ان تستفيد من تجاربها الماضية ولتعد قراءة تجربتها في فيتنام وان كوبا الدولة الصغيرة ظلت شوكة حوت في حلقها منذ ان تولى فيها كاسترو السلطة في عام 1959م وفشلت كل محاولاتهم لإسقاطه وكادت أزمة خليج الخنازير في كوبا ان تحدث مواجهة نووية بين امريكا والاتحاد السوفييتي ربما تؤدي لحرب عالمية ثالثة لولا ان خرتشوف سارع لاخذ صواريخه واعادتها من كوبا للاتحاد السوفييتي. ولن يقف اخوان الشهيد علي عبد الفتاح وسكران الجنة مكتوفي الأيدي اذا صدرت عقوبات عدائية ظالمة ضد السودان. ونأمل أن تعود تلك القوى الاستعمارية لرشدها قبل فوات الأوان.