اتجاه الغابة والصحراء، اتجاه أدبي ظهر في ستينيات القرن العشرين، وقد أثار جدلاً كبيراً، حيث تناوله الأدباء والكتاب من زوايا مختلفة ومتعددة، وكانوا يطلقون عليه «مدرسة الغابة والصحراء»، وقد اختلف الكتاب الذين تناولوه في تاريخ بدايته، وهل هو مدرسة أم اتجاه، ومن الذين بدأوه، فالدكتورة سلمى الخضراء الجيوسي في معرض دراستها لقصيدة محمد عبد الحي «العودة إلى سنار» تقول: عن بدايته: «تألفت في جامعة الخرطوم 1962م رابطة عرفت باسم مدرسة الغابة والصحراء مكونة من بعض طلاب الجامعة وخريجيها وفي طليعتهم النور عثمان أبكر، ومحمد المكي إبراهيم ومحمد عبد الحي وكانت غاية هذه المدرسة تكوين اتجاه في الأدب السوداني، يدعو للبحث عن الكيان القومي، والذاتية المتميزة، وكان من البدهي أن مسعى كهذا لا ينجح إلا بالعودة إلى الجذور الحضارية التي كونت خلفية الشعب السوداني، والتي تمثلها في رأيهم مملكة سنار القديمة». ولكن محمد عبد الحي أحد رموز هذه المدرسة يعلق على رأي الدكتورة سلمى بقوله: «لم توجد مدرسة للغابة والصحراء، والشعراء الذين ذكرتهم الدكتورة والشاعرة سلمي يختلفون اختلافاً بيناً في مناحيهم الشعرية والفكرية، ففي وقت واحد تقريباً بدأ محمد المكي والنور عثمان في ألمانيا، وصلاح احمد ابراهيم في غانا، ويوسف عايدابي في رفاعة، ومصطفى سند في أم درمان، ومحمد عبد الحي في الخرطوم، يكتبون شعراً فيه الملامح المشتركة التي لا تخفى الاختلاف العميق في العناصر المكونة لرؤاهم الشعرية، وفي التشكيل واللغة الشعرية في قصائدهم».. أما الناقد عبد الله محمد إبراهيم فيقول عن نشأة هذه المدرسة: «في ستينيات هذا القرن يقصد القرن العشرين والبلاد ترزح تحت نعال حكم عسكري متسلط، أخذت تشكيل بوادر مدرسة اصطلح على تسميتها بمدرسة الغابة والصحراء، فرسانها أربعة من الشعراء الشباب النابهين هم صلاح أحمد إبراهيم الذي كان له حق الريادة لهم، وهو الذي مهد السبيل وبذر البذور، والنور عثمان أبكر الذي كان أكثرهم فناً، ومحمد عبد الحي الذي كان اقواهم عقلاً، ومحمد المكي الذي لعله أرقهم شعراً». أما أنا فأرى أن الغابة والصحراء هو اتجاه أدبي، ولم يكن مدرسة باعتبار أن شروط المدرسة لا تتوافر فيها، فلم يجتمع لها شعراء ليضعوا لها دستوراً يتلزمون به، كما هو الحال في مدرسة الديوان أو ابولو أو الرابطة القلمية في امريكا الشمالية.. والحقيقة أن اتجاه الغابة والصحراء قد برز إلى الوجود بمقال كتبه الشاعر النور عثمان أبكر في صحيفة «الصحافة» يوم 19/9/1967م، وهذا المقال بعنوان:«لست عربياً ولكن..» جاء فيه: «شمال السودان أرض النوبة كان من قديم الأعصر لقاح الوادي.. اجتماع المنبع بالمصب.. الفن الفرعوني بمصر العليا هو استلهام لأعالي النيل على الدوام.. هو فن احترق بالشمس المحرقة في قلب القارة، حيث ينبع النيل فيجري عبر الصحراء فيطعمه العافية الخضراء والظلال اذن الزنجي الذي جمح به القارب حتى ابتنى لنفسه حرماً اشاد صرحاً جميلاً، ألوانه عاج ومرجان. نوبي شمال السودان عشبه أزهر بعيداً عن الغاب». وأول ورود للفظة «الغابة والصحراء» في الشعر السوداني كان في قصيدة النور «صحو الكلمات المنسية» عندما قال: من يضرب بعصاه الصخر فتنبجس الأعينْ يعلم كل مشربه نسقي نرعى موالود الغابة والصحراء واعتقد أن هذه القصيدة قد وضعت المرتكزات الأساسية لفكرة الغابة والصحراء، حيث النبض الأول لتشكيل ثقافة العقل الأول في رحم الغابة، واستطاع النور أن يجمع عناصر الفكرة في أسطره الشعرية التي تقول: من قبل بلوغ العالم هذا العصر السامق كان النبض الأول في الغابات وفي الكهف العاري جرس التسبيح لطقس ما برحا في زمن الطفل الأولي في الصحراء ففي رأيي أن «الغابة والصحراء» هي محاولة لاختلاط الزنوج والعرب بتحديد هوية سودانية، فالغابة ترمز إلى الإفريقية، والصحراء ترمز للعروبة، واكثر من اهتم وناقش هذا المفهوم بصورة جرئية النور عثمان ابكر في جميع دواوينه، فكان أول من جأر بهذه الفكرة ووضع لها الأسس والمعالم، وقد تكون هذه الفكرة معتملة في أذهان كثير من المثقفين، ولكن الذي فجر ينبوعها هو النور بمقالاته في الصحف وتطبيقها في دواوينه بالذات الديوان الأول« صحو الكلمات المنسية» والثاني «غناء للعشب والزهرة». صحيح أن النور هو أول من راد هذا الاتجاه، إلا أن كثيراً من الشعراء قد ساهموا في وضع ملامح رئيسة لهذا الاتجاه الأدبي، ومنهم صلاح أحمد إبراهيم الذي حاول أن يدلف إلى تلافيف الهوية السودانية على ضوء المكون العرب الزنجي، فقال عنه عبد الله محمد ابراهيم: «طرح هذه القضية طرحاً فيه كثير من الاتساق والفهم والوعي بكل أبعادها التاريخية وتأثيراتها الثقافية والدينية والحضارية. وقد أدرك صلاح ببصيرته النافذة أن شعب السودان مزاج رائع وأصيل للعرب والزنج، وهو لا يحسب في ذلك عاراً فهو عربي ثقافة ولغة وديناً وإفريقي مكاناً وأصلاً». ففي ديوانه «غضبة الهبباي» يلخص لنا ملامح لهذه الفكرة حين قال: العربي صاحب السوط المشلّ للجمال شكال كل قادح ملاعبُ السيوف والحراب على بادية السودان كالخريف بالسُّنةِ والكتاب تفتحت حقيقة سمراء في أحشاء كل أم ولد من بنات جدك الأكبر كما بذرته نطفُ الأعراب حقيقة كبيرة عارية كالفيل كذاب الذي يقول في السودان انني الصريح، إنني النقي العرق انني المحض أجل كذاب ومحمد المكي إبراهيم من الشعراء الذين استهوتهم هذه الدعوة فأصاب منها بسهم، فاستطاع أن يرسم ملامح هذا الاتجاه بصورة مباشرة في قصيدته «بعض الرحيق أنا والبرتقالة أنت» التي يقول فيها: بعض الرحيق أنا والبرتقالة أنت يا مملوءة الساقين أطفالاً خلاسيين يا بعض زنجية وبعض عربية وبعض أقوالى أمام الله ومن الشعراء الذين استجابوا لدعوة الغابة والصحراء، الشاعر محمد عبد الحي، حيث وجدت صدىً وجدانياً في نفسه، فبلورها وأحاطها بكثير من العمق والاتساق والفهم، حيث رجع بها إلى دولة الفونج، على أساس أن سنار الفونج هي التي وضعت المرتكزات الفكرية، والأرضية الحضارية للشخصية والقومية السودانية، وهو يميل إلى تغليب العربية على الزنجية. وخير مثال لاستنكاه هذا الاتجاه في شعر محمد عبد الحي قصيدته «العودة إلى سنار» التي جمع فيها الرموز العربية كالمسبحة والإبريق والنخلة والمصلى مع الرموز الافريقية الوثنية والطوطمية كجلد الفهد، والجمجمة، وأسنان الموتى والأبنوس فيقول: أهدوني مسبحة من أسنان الموتى إبريقاً جمجمة ومصلى من جلد الجاموس رمزاً يلمع بين النخلة والأبنوس وقد رسخ هذه الفكرة في دواوينه بعد «العودة إلى سنار» في ديوانه الثاني «السمندل يغني» وديوانه الثالث «حديقة الوردة الأخيرة». وفكرة الغابة والصحراء استهوت كثيراً من الشعراء الشباب وقتها، فاستلهموها في اشعارهم باعتبارها دعوة للإلفة والتحابب بين العناصر المختلفة، ومن هؤلاء الشباب مرتضى الغالي في قصيدته «الغابة والصحراء والساحل» التي يجمع فيها الرموز الإفريقية والعربية في تناغم بديع فيقول: ألا يا ساحل الأشواق أتيت إليك مشتاقاً وملتاعاً تطوف بمواكبي الآمال لأشهد فرحة الغابات حين تحاصر الصحراء وفيها يقول: رأينا ها هنا «المختار» يعانق ضحاكاً «كابرال» وفي تقديري أن التقويم الصحيح لظاهرة الغابة والصحراء لا بد أن يتم في اطار الظروف الموضوعية التي انتجتها، فالمدارس الفكرية والادبية تنشأ لتلبي حاجة مجتمعية وتبشر بنهج جديد في الحياة، وأكثر ما تنشأ هذه الظواهر في أعقاب تحولات اجتماعية حادة، فاتجاه الغابة والصحراء نشأ في كنف الحكم العسكري 1959م 1964م، وبالتالي نشأ في ظروف تاريخية يقول عنها الناقد عبد الهادي الصديق: «كانت تدفع بالشاعر إلى الهروب والاحتماء بزمن البراءة وحضارة التكوين». وعليه أرى أن اتجاه الغابة والصحراء ساهم في رفد حركة الشعر الحديث في السودان، برافد جديد، وهو الدعوة للتجديد من خلال ما سماه النور عثمان أبكر الشعر الحضاري، كما أنه استطاع أن يفجر في الوجدان الجمعي عنصر المكان، وأن هذه الدعوة قد أتاحت الفرصة للتعرف على الثقافة الإفريقية من خلال البحث عن الأصول.