اليوم مكتوب عليها: «مستشفى التوليد ام درمان». تجد ذلك بلافتاتها الثلاث عند مداخلها بالشوارع الرئيسة: الجنوبية والشمالية والشرقية. لكن الذي هو مكتوب بأذهان وقلوب الناس هو: «مستشفى الدايات» أو «الدايات». فتدخلها من تريد الولادة، ويدخلها المرافقون لها، ومن يريد الزيارة، ومن قبل ذلك يدخلها العاملون بها. لكن ثمة شيء آخر يدخلها، هو ما نبحث عنه اليوم متفكرين متدبرين ومتوجعين!! ذلك هو الذي نشعر به جميعاً ونتفاداه وهنالك من تطلبه وتكابده فهو بالضرورة ما يعني عندها الحل.. إنه «الوجع»!! نعم. هي كلمة «موجعة» ومن الوجع ما هو «منتج» .. وما هو ضار!! الوجع الذي تعانيه انت الرجل، الذي يتحمل الشدائد والمصائب، أو يفترض أن يكون كذلك، غير ذلك الذي تتحملته بنات حواء. فأنت تتوجع في همومك ومشكلاتك المادية والاسرية وضائقة المعيشة أو تعسف المهنة. ولقد قال الشاعر الذي غنى له الفنان «متوجعاً» «بتقلى فوق أحيَّ»، غير أن هذا يعاني من اوجاع الحب و «شواكيش» المحبوبة!! لكن المرأة الصبورة منذ أمنا «حواء» «توجعت» كثيراً وهي «تبث» لهذه الحياة الدنيا أناساً كثيرين.. انظر كم عددهم يا ترى على ظهر هذه «الفانية» وجميعهم جاءوا بعد «وجع»!! ثم من بعد ذلك خرجوا للدنيا «يوجعون بعضهم بعضاً»!! دخلت «الدايات» من بابها الشمالي في وقت الزيارة.. كان الناس يتدافعون لكثرتهم واكثرهم معشر النساء. وفي الداخل سمعت رجلاً يؤنب زوجته «الحامل» وهو يطوف بها داخل فناء المستشفى ويقول لها: «جبتينا المستشفي قبال ما الوجع يحر عليك ليه»؟ وعجبت للزوج الذي يطلب «الوجع الحار» لزوجته!! وسألت نفسي: يا ربي إمكن في البيت تكون «موجعاهو»؟! طبعاً مطلوبات الولادة اصبحت «وجع * وجع» .. ده غير اوجاع المعيشة العادية.. واحصائية اخيرة تفيد بأن نسبة «الطلاقات» اصبحت في تزايد مزعج.. وهذا هو الوجع الاكبر الذي يضاف لاوجاع المجتمع. لكن وجع المرأة الكبير الذي يزيد من معاناتها يأتي بوجع آخر غريب اسمه «الوجع الصناعي» نحدث عنه هنا وهو غير «الوجع الصناعي» بفعل زيادة الاسعار!! ذلك أخف وجعاً. قد يكون حبة توضع تحت اللسان أو «دربات» أو حقنة ذلك ما يعرفه «الدكاترة». إذن المرأة التي لا تتوجع.. حتتوجع يعني حتتوجع . ولو صناعي.. هنالك علماء وفلاسفة تحدثوا وكتبوا عن «الألم» هل هو نعمة أم نقمة؟! الألم انذار ايجابي وكذلك «الوجع». الحبوبات بقولوا «الجنا سيل».. وبقولوا أيضاً «الجنا شالا»: يعني عاوز يطلع لوحده. وكم من حالات ولادة حدثت في الطريق. لكن «الوجع الصناعي» الذي عايشته أسرة أحضرت ابنتها الحامل لتولد في الدايات باعتبارها افضل خيارات التوليد في السودان، فكان لزاماً عليها الا تكثر الاسئلة للدكتور وتذكره بأن السيدة تلك سبق لها في ولادتها «الأولى» أو «البكر» ان وضعوا لها وجعاً صناعياً وأخيراً وبعد وجع ومعاناة أليمة وطويلة وضعت في مستشفى «خاص» بعملية قيصرية!! هنا انتظر معشر الأهل في فناء الحوش داخل الدايات وتحت تعريشة القطاطي ينتظرون مفعول حبة «الوجع الصناعي» الغالية الثمن.. وتحت ألسنتهم «حبوب صناعية» لكنها معنوية قلق وترقب وانتظار. ولم تطل على الحامل بارقة أمل من وجع إلا بعد ان غادر الاختصاصي الكبير المستشفى، وبعد ان انتهت «ورديته».. ومن بعد ذلك بدأ «الوجع» الصناعي يتنامي حتى بلغ ذروته في صباح اليوم التالي وحتى ضحاه وهو ميعاد معاودة الاختصاصي الذي توصل اخيراً لخطورة الحامل التي توجعت كما لم تتوجع من قبل، ولدرجة الخطورة ثم أخيراً.. ولادة بالعملية !! الوجع تحسه أنت في داخل هذا المستشفى العريق في مثل تلك الحالة.. فتسمع حالة الحركة للجيش الكبير من موظفي النظام داخل المستشفى «أسوار» وهم يلبسون زياً «بمبي وأسود» فينظمون عملية الزيارة في مشقة. فلا تلتفت لهم لأنك في انتظار تكملة اجراءات الحجز «للوالدة والمولود» بالدرجة أن لم تكن قد فعلت ذلك مسبقاً. لأن حالة الولادة بالعملية تختلف. وانت تجري ين الصيدلية وقسم العمليات عبر كل موظفات النظام ومجموعة اخرى تلبس زياً مختلفاً من الاجانب للعمليات والنظافة من الجنسين واختصاصيين ونوابهم واقسام متكاملة داخل المستشفى تعني بكل تفاصيل الولادات المستعجلة والاسعافات.. فالمستشفى هذا ولد مع ميلاد استقلال السودان او ما يقارب ذلك، فلقد انشئ عام 1957م. جيش عرمرم من العاملين ناس المطبخ والممرضات واقسام الحضانات.. البوابات الكثيرة ناس الترحيلات والنقل مستشفى يعمل «24» ساعة، وفي رأس كل دقيقة يستقبلون حالة أو حالات ولادة ووجع وصراخ اطفال يطلون على السودان لأول مرة وهم لا يعلمون ما يدور به من وجع أو ينتظرهم من مستقبل.. ثم تسمع من بعد كل المعاناة.. صراخ وزغاريد وفرحة وننسى الوجع. إنها الدايات. سألت امرأة مسنة «مشلخة» كانت تنتظر عملية ولادة لحفيدتها .. هل جئتي وانتي شابة للدايات؟ قالت: «بري»!! بري تعني انها لم تأتِ في عمرها ذلك للدايات بالرغم من انها سمعت به، لانه لم تكن هناك حاجة لذلك. قالت العجوز: كل الولادة كانت تتم في البيت.. الدايات كانت هي مدرسة الدايات أو مدرسة القابلات .. تخرج الداية داية قانونية.. وكانت بارعة وقالت: يا ولدي كل الدكاترة الكبار الحايمين ديل ولدوهم دايات. واضافت: «نحن ما سمعنا بالوجع الصناعي زمان كثير وحالات الوفيات للأطفال كانت قليلة وحتى وفيات الامهات. الأم الحامل يا ولدي كانت متحركة.. كانت تعوس الكسرة وتفرك الملاح وتكنس البيت وتغسل الهدوم والعدة وتتحرك.. وواحدات كانن شغالات.. لمن تجيء مواعيد الولادة يجيبوا ليها الداية في البيت وتلد في امان الله. اسع يا ولدي الدلع بقي كتير كتير كتير.