بمراجعة سريعة للسجل السياسي فيما بعد الاستقلال مع عدم إهمال المراحل السابقة عليه، نجد أن الأنظمة السياسية الحزبية منها والعسكرية التي سنحت لها الفرصة بأن تدير أمر شعب السودان، لم يكتب لها جميعاً الدوام، حيث كانت البداية وحدثت النهاية، والعبرة في هذا المقام ليس بالبدايات ولكن بالنهايات. فالحكومة الحزبية الأولى، جاءت بموجب عملية انتخابية وسط أجواء شعبية كانت لتوها قد خرجت من عباءة المستعمر، ولم يكن بالإمكان وقتها أن ينحاز الشعب إلا لقواه التقليدية وزعاماته التي شكلها ذلك الواقع، حيث كان الإيمان بالقيادات بعلاَّتها بمثل القبول الذي صاحب الرضى بالاستعمار برغم الكراهية والمضض مما يولده دائماً الضيق الاستعماري لمن يتوقون للحرية ومتعة التحرير. ومضت تلك الحقبة التي لم يُكتب لها الدوام، وحسب حقائق التاريخ فإن عسكر 1958 قد سُلِّموا السلطة من قبل قيادة حزب الأمة دون أن يحدث انقلاب حقيقي، وهذا الأسلوب مؤداه أن من كانوا على دسة السلطة برغم انحياز الشعب لهم، قد فشلوا لعدم استيعابهم لمطلوبات الشعب في الحرية والكرامة فكان الانسحاب هكذا بالتسليم والتسلم وليس عن طريق الانقلاب. أما عساكر نوفمبر 58 بقيادة الفريق إبراهيم عبود، فكانت تلك هي بدايتهم، وهي بداية سلمية لم تزهق فيها أرواح، ولم يواجه فريق فريقاً آخر، ولكن حدثت في الفترة من 58 حتى 64، محاولات للانقلاب، ويذكر الذين هم أحياء بيننا الآن، وشهدوا أحداث تلك الفترة أن عدداً من الانقلابات قد تم إحباطها، وجرت إعدامات لمنفذيها، وانقلاباً واحداً تمت فيه تسوية بعد أن استيقظ أهل الخرطوم ووجدوا أنها محاصرة بالجنود بعد تحرك قاده ضابط عظيم بدأ تحركه من قيادة الجيش التي كانت متمركزة فيما يسمى بالقيادة الشمالية. وبرغم التنمية والمشروعات التي تبناها نظام عبود من مصانع وطرق، لم يهنأ النظام بالرضى، فكانت مشكلة الجنوب قاصمة للظهر، بالإضافة إلى إخفاقات وتقديرات أخرى لم تكن صائبة بشأن ترحيل سكان وادي حلفا لمصلحة السد العالي، التي أخطأوا فيها النظر بحكم ما ارتضوه من ثمن بخس لتنفيذ هذا المشروع، وكان فيه الإجحاف والقسمة الضيزى. وعموماً بدأ نظام عبود ثم سقط، فكانت البداية وكانت النهاية بعد أن تهيأت الأسباب ثم قُضي الأمر، وكان أمر الله مفعولاً. وفي مرحلة ما بعد أكتوبر 64، حتى 69، كررت الأحزاب تجربتها التي لم يتم خلالها تطور بل كان الصراع والمزايدة، ولعبة الكراسي، وإهمال تطلعات الجماهير، فوقعت الواقعة وحدث انقلاب مايو 69. وبشأن ثورة مايو وما أدراك ما ثورة مايو، كان النميري طيب الله ثراه، في مقدمة الانقلابين من شيوعيين وعروبيين وغيرهم من ذوي اتجاهات اليسار، وشهدت تلك المرحلة مواجهات وانقلابات وتكتلات، ثم أخيراً مصالحات، ولم يثبت نميري في سياسته الداخلية والخارجية على نسق واحد، فكان مجرباً ومواجهاً ومستخدماً للسلاح لقمع المعارضين الذين كانوا حلفاء له أو الذين لم يلتقوا معه لا في البدء ولا في الختام، وشهد السودان في حقبة ما بعد مايو 69 حالة للاضطراب، وعدم الاستقرار، والانهيار الاقتصادي لم تسبقها أمثلة شبيهة منذ أن نال هذا البلد الاستقلال. وبدأ نميري الانقلاب بوجه، واستمر بعدة وجوه مختلفة ولكنه واجه النهاية، وليس موضوعنا أن نشرح كيف كانت النهاية ولكنها نهاية من قبيل النهايات. ثم حدثت انتفاضة 86 وانتهت بفعل الهرجلة والغيرة ووضع الهدف الخاص محل العام، ثم جاءت الإنقاذ وأحدثت الإعجاز، وطورت البلاد، وواجهت التحديات، وجربت السلاح في وجه الأعداء، والمصالحات مع متمردي جنوب السودان فيما يسمى باتفاق السلام الذي آل إلى نتيجة حققت الانفصال، والإنقاذ اليوم تجابه جهوية وعنصرية الداخل، وعملاء الداخل والخارج، وكل الذي نرجوه أن تكون النهاية سعيدة وسلسة بنهاية فترة جيل وتسلم جيل آخر، كما نأمل أن تكون نهاية لجيل وليست نهاية لنظام حكم كما حدث من نهايات وهكذا تدور الأيام ويتم تداولها بين النَّاس.