كنت في زيارة للعم ناصر رحمه الله وهو أحد أقاربنا في مدينة جدة من الذين قدموا في أربعينات القرن الماضي وتحصلو علي الجنسية أو التابعية السعودية . وكان رجلاً لم تغيره السنين . تجلس معه فتحس كأنه رجل قد جيء به الآن من بادية كردفان . كانت له علاقه قوية بأبناء الملك عبد العزيز. إذ كان سواقاً خاصاً للأسرة لأكثر من ثلاثين سنة . وكان مؤتمناً على الأسرة كعادة الرعيل الأول من المغتربين السودانيين الذين أسسوا لسمعة السودان صرحاً ما زال السودانيون يقطفون ثماره حتي الآن رغم الإنتكاسة التي تسبب فيها ضعاف النفوس من الأجيال الجديدة الذين كان همهم أن يغتنوا بأي سبيل وبأسهل الدروب وأقصرها فنهبوا واختلسوا وفعلوا الأفاعيل التي يندى لها الجبين فخربوا وشوهوا سمعة السودان ولطخوها بالوحل . كان يأخذ الأمراء والأميرات من البيت إلى المدرسة ويشرف على شئونهم الخاصة ولما أصبح هؤلاء الأطفال ملوكاً ووزراء وأصبح هو شيخاً كبيراً ظلت قصورهم ومكاتبهم ومجالسهم مفتوحة في وجهه يدخل عليهم وقت ما شاء ويأخذ منهم كل ما يشاء . وهذه أكبر ميزة تميزت بها العائلة المالكة في السعودية، التواضع الجم والكرم وحسن الضيافة وحفظ الجميل وسهولة الوصول إلى مجالسهم في أي وقت فلا حجاب بين الراعي والرعية علي الإطلاق . وهذا من أحد الأسباب الكثيرة التي ألفت إليهم القلوب وحببت فيهم الرعية ،خاصة أن نظام المملكة نظام يقوم على العلاقات القبلية والعشائرية . ويستمد من الآية الكريمة (ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك) . طلب منهم منزلاً فأعطوه عمارة وطلب السيارة فكان كل سنة يركب موديلاً جديدا . طلب الزواج فيسروه له فكان كل سنة يأتي للسودان بالعروسة القديمة ويأخذ مكانها واحدة أخرى جديدة لنج . طلب أن يعمل مؤسسة خاصة به فأعطوه السجل التجاري وصدقوا له بكمية من تأشيرات العمل فكان أن خصصها كلها للأهل والعشيرة من السودان .وعندما أكمل إبنه الثانوية العامة ورفض أن يواصل الدراسة الجامعية ذهب به إلى الوزير شخصياً فعينه وزيرا في معيته . أو خوياً كما يقولون وهم أصدقاء الأمير الذين يعمرون مجلسه ويكلفهم بالمهام الخاصة والصعبة. كنت أشفق عليه كلما ركبت بقربه في السيارة لأنه يكون في حالة هياج وتوتر مستمر مع السائقين والشباب المستهترين ممن لا يعرفون قواعد المرور . وكان لا يفوت أي خطأ حتي يسمع صاحبه سيلاً من الشتائم والسباب ودرساً في الأدب والأخلاق وقيادة السيارات .وأحيانا يتوقف في الطريق لمواصلة الشكل وليس لديه أي مانع رغم كبر سنه أن يخوض معركة بالأيدي إذا اقتضي الأمر . كنت معه ذات مرة في صالونه وكان ممتلئاً بالضيوف كعادته فأراني عدداً كبيراً من العقود لعمال إستقدمهم حديثاً من السودان على كفالته . وبينما أنا أتفرج على صور العمال لفت نظري صورة لأحدهم وهو بعين واحدة فقط بينما كان مكان الأخرى عبارة عن أخدود فقلت مستفسرا : هسي دا كيف سمحوا ليك بإستقدامو يا عم ناصر وهو ليس له سوى عين واحدة . ضحك وقال ناس الجوازات ديل ما بهمهم عامل بعين واحدة ولا اتنين طالما بشتغل كويس وبأدي عمله بصورة ترضي الكفيل . في نهاية الجلسة وبعد أن إنفض سامرهم جاء شخص غريب وجلس بجانبي وسلم علي سلاماً بمعرفة فسلمت عليه ورردت عليه التحية بأفضل منها. ثم همس في أذني بصوت هادئ . إنت يا أستاذ سمعتك قبيل بتتكلم عن الناس العور إنت الناس العور ديل طردوهم من البلد ولا شنو.؟؟ شعرت بخجل شديد واحتقرت نفسي في تلك اللحظه وتمنيت لو إنشقت الأرض وابتلعتني ولم أدري ماذا أقول له ... ولكنني في نهاية المطاف إعتذرت له إعتذارا شديدا وقلت له أعف مني والله دي غلطة كبيرة وأعاهدك تاني مش حأكررها في حياتي مرة أخرى بإذن الله .