ما يحدث عندنا في بيوت العزاء يحتاج إلى عزاء، وينطبق عليه القول ميتة وخراب ديار. وتتساوى في ذلك الأسر الفقيرة والأسر الغنية.. فالكل يريد أن يكرم المعزين بثلاث وجبات يتخللها نهر من الشاي المستمر من السابعة صباحاً حتى منتصف الليل وكذلك أكواب الماء الرقراق المثلج. وليت الحال تقف هنا .. فعزاء النساء تستمر سرادقه أسابيع وشهوراً. تكلفة وإرهاق ليس له معنى تحت ظل ظروف تجبر معظم الناس على أن يرفعوا الفراش في المقابر. لكن القلة هي التي تفعل ذلك. وقد لفتت نظري ذات يوم لافتة مكتوب عليها «مقابر أمبدة النموذجية» وكنا في يوم للتشجير برفقة وزير التربية والتعليم الولائي الدكتور المعتصم عبد الرحيم فقلت له: تفتكر الواحد لازم يجيب بوكسنق قدر شنو عشان يخش هنا؟! في بعض الدول الإفريقية لا تكمن المسألة في الموت.. فالموت حق والجميع يموتون. وإذا فقدت عزيزاً لديكم صحيح أن الأمر محزن، إلا أن الإنسان بطبعه يتغلب على الحزن. ولكن كيف تتغلب على الديون التي تتراكم عليك وأنت تقوم بدفن عزيزكم؟ والمثال الذي نأتي به من إفريقيا والإسلام دين رحمة وبساطة يقضي بأن يدفن الميت بعد أن يصلي عليه ويحزن القلب وتدمع العين ولا نقول إلا ما يرضي ربنا. ولكن التقاليد الاجتماعية التي تطغي في كثير من الأحيان على البساطة هي التي تجلب المتاعب وتراكم الديون في حالة دفن الميت عندنا وفي بعض الدول الإفريقية بصورة متفاقمة. وقد يكون الشخص طيلة حياته غير ذي أهمية من أي نوع.. إنه أحد أفراد العائلة، ولكن في بعض الدول الإفريقية تقتضي التقاليد أن تجرى له طقوس ومراسم دفن قد تكلف أهله أكثر مما كلفه هو طيلة حياته. ولهذا أعتاد الناس أن يتركوا جثث أقربائهم في ثلاجة المستشفى حتى يدبروا تكاليف نفقات الدفن. قرأت خبراً في إحدى المجلات الإفريقية قبل مدة يقول إنه قبل عامين عندما توفيت والدة أحد موظفي بنك من البنوك المشهورة في دولة إفريقية، تركت الجثة في المستشفى لمدة تسعة أشهر حتى يتمكن ذلك الموظف من بناء منزل فخم في قريته لاستقبال المعزين وعلى رأسهم مدير البنك. وعندما مات المستر جودين جيكيلوبا متأثراً بجراحه عندما أطلقت عليه النار من أحد الأشخاص وكان مديراً لمجموعة من الشركات في ليجوس بنيجيريا في فبراير من عام 1991م، تكبدت تلك الشركات ما قيمته «3» ملايين نايرا من العملة النيجيرية لدفنه «حوالى ربع مليون دولار». وقد لجأت بعض السلطات المحلية في بعض الدول الإفريقية لوضع رسوم على كل يوم يمر على الجثة وهي في المستشفى بعد الأسبوع الأول، إلا أن ذلك لم يجعل الناس يعجلون باستلام جثث ذويهم من المشرحة، فهم بكل بساطة يضيفون تلك الرسوم والغرامات إلى ما يقومون بجمعه من أفراد العشيرة أو القبيلة لمقابلة تكاليف الدفن. وبما أن مصائب قوم عند قوم فوائد، فإن الصحف المحلية هي المستفيد الأكبر من إعلانات الوفاة، فقد تأصلت هذه العادة الاجتماعية الجديدة حتى أصبحت ملازمة لعملية الدفن. وتكلف تلك الإعلانات كثيراً وتعتمد عليها الصحف كثيراً في زيادة إيراداتها، فتلك أخبار مضمونة، إذ أن الناس لا محالة سيظلون يموتون كل يوم، وسيظل ذووهم يدفعون تكاليف إعلانات الوفاة. وكأية مراسم دفن عادية في دولة إفريقية، أن يقوم أهل المتوفى بذبح الأغنام والأبقار وإطعام المعزين لعدة أيام، كما أن هناك فرقاً موسيقية تشترك في تلك المراسم، وعلي أهل المتوفى أن يظهروا حزنهم على فقيدهم بنثر الأوراق المالية على أفراد تلك الجوقات الموسيقية الذين تكبدوا المشاق وجاءوا معبرين عن حزنهم وألمهم بدق الطبول وعزف الألحان الموسيقية الشجية.. وفوائد قوم عند قوم مصائب أيضاً.. وميتة وخراب ديار.