مستقبل الحوار الوطني يظل ويبقى مرهوناً بمدى ما لدى السيد رئيس الجمهورية المشير عمر البشير بشأنه، وذلك بناءً على الخبرة المستفادة من الدور المحوري الذي قام به في التجربة السابقة في ما يتعلق بالتأثير في تقرير المصير بالنسبة للعلاقة بين شمال وجنوب السودان. وبناءً على هذا فإن السؤال هو كيف إذن تمكن الرئيس البشير من التأثير في مصير العلاقة بين شمال وجنوب السودان، كما جرى أثناء المفاوضات الماراثونية والوعرة والمعقدة مع الحركة الشعبية المتمردة بقيادة زعيمها وملهمها ومرشدها السابق الراحل جون قرنق، حتى أسفر عن النتيجة المتمثلة في اتفاقية السلام الشامل المبرمة عام 2005م بين السلطة الحاكمة القائمة والحركة الشعبية بشأن العلاقة بين شمال وجنوب السودان، اضافة الى الترتيبات المتعلقة بمناطق أبيي وجبال النوبة في جنوب كردفان وجبال الانقسنا في النيل الأزرق، وذلك على النحو الذي أفضى الى الاقرار بانفصال الجنوب عن الشمال، مثلما أدى لاستمرار المفاوضات بل المماحكات التي مازالت متواصلة حول كل من منطقة أبيي ومنطقتي جبال النوبة وجبال الإنقسنا.. في جنوب كردفان والنيل الأزرق. وفي معرض الإجابة عن مثل هذا السؤال تجدر الإشارة إلى أن الرؤية التي عبّر عنها الرئيس البشير بشأن طبيعة العلاقة السابقة بين شمال وجنوب السودان كانت واضحة منذ المرحلة المبكرة عقب وصول سلطة الإنقاذ الوطني إلى سدة مقاليد الحكم بانقلاب ثوري مدني وعسكري أقدمت عليه، ونجحت في القيام به عام 1989م الحركة الإسلامية للنخبة السودانية الحديثة والمعاصرة، ففي الإفادات التي أدلى بها منذ تلك الفترة في سنوات النصف الأول من تسعينيات القرن الميلادي العشرين الماضي، أكد الرئيس البشير أكثر من مرة حينها انه يرى أن مستقبل العلاقة بين شمال وجنوب السودان قد جرى وضع جذوره وغرس بذوره، التي كان من الطبيعي ان تفضي الى الانفصال بينهما، وذلك منذ إصدارالسلطة الاستعمارية البريطانية السابقة بالسودان لقانون ما يسمى المناطق المغلقة أو المقفولة التي تم تحديدها منذ عشرينيات القرن الميلادي المنصرم، واتخاذ العديد من الترتيبات الخاصة بها والهادفة لعزلها عن المناطق السودانية الاخرى، وفي مقدمتها او في الصدارة منها جنوب السودان، اضافة الى جبال النوبة وجبال الإنقسنا في جنوب كردفان والنيل الأزرق، وذلك الى جانب دارفور الى حد ما ودرجة اقل حدة في تحقيق العزلة المنفرة. وربما قد يمكن ويجوز القول بناءً على مثل هذه الرؤية الدافعة للرئيس البشير في التأثير والتأطير لمستقبل العلاقة بين شمال وجنوب السودان، إن هذا هو الذي انطلق منه عندما أقدم على القبول بالموافقة على مبادرة «إيقاد» لدى طرحها بصورة مفاجئة عام 1994م من قبل كل من إثيوبيا وإرتيريا وكينيا ويوغندا، بهدف المساعدة في إقرار تسوية للعلاقة بين شمال وجنوب السودان. وكما هو معلوم فقد أدت تلك الموافقة على مبادرة دول «إيقاد»، التي قامت أي المبادرة وتم طرحها أصلاً على أساس حق الجنوب السوداني في تقرير مصيره الوطني، أدت إلى حدوث قدر من الاضطراب والارتباك في الموقف الداخلي لسلطة حكم الإنقاذ الوطني الحالي آنذاك. وقد كان التعبير عن ذلك الاضطراب والارتباك قد جاء واضحاً عندما سعى وفد الحكومة لجولة المفاوضات الاولى مع الحركة الشعبية في تلك الفترة الى إجهاض المبادرة ووأدها في مهدها ولكن دون جدوى، حيث ذكر رئيس الوفد الحكومي حينها د. غازي صلاح الدين ان السلطة الحاكمة القائمة في السودان لن تقبل مطلقاً بأية محاولة لفصل الدين عن الدولة، بل وستسعى، بدلاً من ذلك، الى نشر الاسلام في الدول الافريقية المجاورة وهي الدول الاعضاء في مبادرة ومنظمة «إيقاد» بشرق إفريقيا والقرن الافريقي. وبالطبع وكما هو متوقع، فقد أدى ذلك الموقف الى تعثر المفاوضات بين الحكومة والحركة الشعبية في إطار مبادرة «إيقاد»، بل وتوقفها تماماً، ودخولها في حالة جمود ظلت ممتدة حتى عام 1997م عندما وافقت الحكومة على العودة الى المفاوضات مرة أخرى وتراجعت عن مواقفها المتشددة السابقة التي كانت رافضة لفصل الدين عن الدولة أو الموافقة على حق الجنوب السوداني في تقرير مصيره الوطني. وكما هو معلوم كذلك فقد جاءت الموافقة على العودة الى المفاوضات مع الحركة الشعبية في اطار مبادرة «إيقاد» عام 1997م في سياق تحركات وتفاعلات اقليمية ودولية ضاغطة ومكثفة قادتها السلطة الحاكمة في الولاياتالامريكيةالمتحدة، وادت في خاتمة المطاف ونهاية الطواف الى الوصول لجولات المفاوضات الماراثونية التي قادها كل من النائب الأول لرئيس الجمهورية في تلك الفترة الاستاذ علي عثمان محمد طه ممثلاً للحكومة من جهة، وزعيم الحركة الشعبية وملهمها ومرشدها الراحل د. جون قرنق ممثلاً لها من الجهة الأخرى، مما أسفر عن ابرام اتفاقية السلام الشامل ين الطرفين في عام 2005م، ثم اجراء الاستفتاء على حق الجنوب في تقرير المصير واقرار الانفصال عن الشمال عام 2011م. وكما قال الأستاذ علي عثمان أكثر من مرة في معرض الاشارة الى التأثير الكبير للرئيس البشير في ما جرى، فإنه لولا موافقته بصفته رئيساً للجمهورية وقائداً أعلى للقوات المسلحة، لما كان بامكان أحد غيره أن يفعل ما فعل، فهل يفعلها مرة أخرى في الحوار الوطني والوثبة المزمعة والمنتظرة؟!.. سنرى.