حرب دارفور مطلع العقد الحالي والتي لحقت بها حرب جنوب كردفان والنيل الأزرق بين يدي انفصال الجنوب، كانت هي محور هذا اللقاء الذي أجرته الصحيفة مع رئيس مركز تحليل النزاعات ودراسات السلام بجامعة أمدرمان الإسلامية راشد التجاني، وبطبيعة الحال لم يكن وارداً إغفال جائحة الحروب القبلية التي أدمت وجه وضمير دارفور على نحو أبشع مما فعل التمرد، أما المفارقة التي لم أتمالك معها نفسي من الضحك دهشة وحيرة ربما، عندما أخبرني ضيفي أن الأكاديميين أنفسهم لم يكونوا بمنجاة من داء القبلية الوبيل، معوِّلاً على الأكاديميين أنفسهم لمواجهة هذا الخلل فيما بينهم.. ما هي مهام مركز تحليل النزاعات؟ النظرفي قضايا النزاعات ودراستها وتحليلها، ومعرفة اسبابها ونتائجها واثارها، ثم الانتقال للعمل على فضها وايجاد حل لها للوصول للسلام، المركز تأسس في العام 2008، لكن ادارة المركز تشكلت العام 2012. ماهي أسباب النزاعات في دارفور والمنطقتين؟ النزاعات اصبحت ظاهرة عالمية وليست خاصة بالسودان فقط، فالعالم اصبح يحتمل ثورة نزاعات تماماً كثورة المعلومات، في اي مكان في العالم هناك نزاع، والسودان ليس بعيداً عن هذه الظاهرة العالمية ولكن هناك عوامل داخلية فاقمت من شكل النزاعات في البلاد، منها عوامل سياسية واجتماعية واقتصادية. لنتناولها بالتفصيل بدءاً بالعوامل السياسية تتمثل في الصراع على السلطة، فالسلطة وسيلة للسيطرة وللحصول على الموارد، لذا اصبحت احد اسباب النزاعات كما ان ممارسة السلطة تكون احياناً سبباً في وقوع النزاع، قد يكون هناك خطأ سياسات لحكومة او لمسؤول سياسي تؤدي لنشوب نزاع حول هذه السياسة او التوجه. ودور الاقتصاد التدهور الاقتصادي العام ومشقة الظروف المعيشية وضعف التنمية وسوء توزيعها عوامل تؤدي للنزاع، ومن يبحث عن وضع اقتصادي أفضل وتنمية اجتماعية افضل لمجتمعه استخدم السلاح كوسيلة لتحقيق هذه المنافع. والأسباب الاجتماعية منها الأسباب العرقية والخلافات بين الاعراق والتنافر بين القبائل. سياسية واقتصادية واجتماعية من المسؤول عن تهيئة مناخ الحرب من خلال تلك المسوغات؟ الجميع مسؤول، السلطة مسؤولة في الجوانب السياسية والمنظمون للعمل الاقتصادي وكذلك المنظرون للتنمية الاقتصادية، والمجتمع كله مسؤول اجتماعياً من حيث اثارة النعرة القبلية بين المجتمعات، حتى المؤسسات التربوية مسؤولة باعتبارها لم تستطع خلق بيئة تربوية تعالج الاسباب التي تؤدي للنزاع ليعيش الناس في سلام ويقبل كل إنسان الآخر. تلك المسؤولية السالبة ناتجة عن غفلة أم عدم اهتمام أم ماذا؟ في الغالب هناك غفلة، كما تدخل فيها الاهتمام بجوانب غير الجوانب الكلية التي تهم المجتمع كله، وذلك في الجانب السياسي والاقتصادي، فالنظرة الذاتية اصبحت غالبة، فكل مسؤول ينظر للمصالح التي تفيده كشخص في المنصب او كحزب او جهة ينتمي اليها، هذه النظرة الضيقة تنتج لغياب النظرة الكلية ما يؤدي للتدهور العام في موضوع النزاعات، مثلاً ما يحدث في توزيع المناصب السياسية بناءً على الانتماء القبلي، بمنظور الترضيات السياسية، يترتب عليها اثر كبير جداً على التركيبة الاجتماعية والنزاع القبلي ويفاقم النزاع فيما بين القبائل، فضيق النظرة هو السبب الاساسي للنزاعات. لنأتي لقضية الحروبات القبلية الحالية والتي وصفت بأنها أخطر من التمرد نفسه.. ما تفسيرك للأمر؟ للسياسة دورها في هذا الجانب، لان هناك قبائل وجدت نفسها بعيداً عن السلطة والثروة ما اشعرها بالتهميش بينما هناك قبائل اخرى مقربة من السلطة والثروة، وكما ذكرت فان توزيع المناصب قبلياً يؤدي الى ان كل قبيلة اذا زاد وزنها من حيث القوة قد تحصل على مناصب اكثر، ما جعل قوة القبيلة من خلال السلاح وسيلة مؤهلة للحصول على مناصب وتنمية في مناطقها فتزيد من النزاعات، ما يزيد من المشكلة القبلية التي عادة ما تصعب السيطرة عليها بخلاف السياسية التي يمكن التوصل لحلول لها عبر الحوار مثلاً . على المستوى السياسي والعلمي هل هناك وعي وإدراك بمدى خطورة تفشي النزاع القبلي؟ أبداً، هناك غفلة في هذا الجانب سياسياً واكاديمياً واجتماعياً، ولا يوجد انتباه لهذه القضية، أيضاً الاكاديميون أحياناً ينساقون وراء هذه الخلافات القبلية، فتضييق نظرتهم بتركيز الاهتمام بتنمية مناطق قبائلهم، اي الانحياز القبلي في جانب المخاطبة وتوجيه البحوث ليخدم قضية القبيلة نفسها هذه ايضاً اصبحت مشكلة اخرى. هذا يعني أننا بحاجة لمعالجة مشكلة عدم الوعي بمخاطر الصراع القبلي ومن ثم الاتجاه لحل الأزمة نفسها صحيح، تحتاج رؤية كاملة للحل إذا كان الأكاديميون أنفسهم منغمسين في المشكلة من هي الأطراف التي ستكون جزءاً من الحل؟ نحن بحاجة لخط رجعة، والاكاديميون بحاجة لتوعية بان توجيه العلم لإقرار أحقية قبيلة ما بالارض اوالتنمية لا يفيد البلاد، بل يؤدي لتدهور العلاقات القبلية بوجه عام، ما يؤدي الى تفاقم الصراع القبلي. من الذي يؤدي مهمة توعية الأكاديميين؟ الأكاديميون أنفسهم, واعني الواعين من الاكاديميين، خاصة البعيدين عن الاحساس بالغبن القبلي. برأيك لماذا تفشت القبلية في نظام الحكم الحالي؟ اعتماد سياسة تقريب القبائل، وغياب ثقافة التعامل مع الانسان بغض النظر عن الانتماء القبلي، والاسباب السياسية باعتبار ان القبيلة صارت كياناً دافعاً يمكن ان يقدمها سياسياً لتصبح القبيلة وسيلة للحصول على تنمية في مناطق بعينها اومناصب سياسية، واصبح هناك تنافر بين الافراد، حتى ان عملية التزاوج بين القبائل التي كانت سهلة في فترة من الفترات تعقدت الان، وصار الاتجاه الاجتماعي ان كل قبيلة تنكفئ على نفسها، فقل التواصل بين هذه القبائل. منذ الاستقلال لم يحصل السودان على استقرار سياسي واضح .. ما أثر ذلك على اندلاع النزاعات فيه؟ صحيح، هذه النزاعات وليدة عقود متراكمة من السياسات، ونجد ان التنازع حول السلطة قديم بين الاحزاب والجماعات، اصبحت السلطة وسيلة لتفوق الآخر سياسياً، والذي يفشل في الوصول للسلطة بالانتخابات يلجأ للانقلابات العسكرية ليصل للسلطة، فاصبح الوصول للسلطة غاية يجب تحقيقها باي وسيلة، فالاخفاق في التنمية الشاملة وليد اهمال لعقود، فالتنمية تركزت في المركز والاواسط، وكثير من الاقاليم ليس فيها تنمية، فالتهميش وليد عقود وهذه كلها اسباب. ما تفسيرك للتهميش؟ ضيق نظر وعدم الرؤية وعدم النظر للضرر الاقتصادي من عدم بسط التنمية نفسها، مجرد فوائد تنمية محدودة للمشاريع التي تقام دون النظر للفوائد الاجتماعية للمشروع، فالساسة مشغولون بالوصول للسلطة دون الاهتمام بالهدف منها وهو خدمة المجتمع نفسه، وحتى المشاريع التنموية لا ينظر لها قومياً، بل ينظر لها من حيث الجدوى الاقتصادية فقط دون الاهتمام بالفوائد الاجتماعية وهذا قصور في النظر. هل لقضية الهوية دور في النزاعات نعم، ولكن وحدة الهوية لا تعني بالضرورة ذوبان كل الهويات، لكن بالامكان اجتماع الناس على المشتركات التي تجمع بينهم، وهناك الكثير المشترك بين القبائل، وسبق في الدولة المهدية ان تجمع السودانيون حولها على اختلاف قبائلهم واتجاهاتهم، وهذا يقود للاتفاق حول الرؤى السياسية والاقتصادية والاجتماعية، أيضاً الصوفية لا توجد بها قبلية، والثقافة العربية يمكن أن تكون جامعة رغم محاولة البعض لابعادها، حتى الجنوب قبل انفصاله كانت تجمعه اللغة العربية، فيمكن أن نصل لهوية مشتركة. هل من علاقة بين سياسات البلاد الخارجية والنزاعات الداخلية؟ نعم، بعض السياسات الخارجية الخاطئة قد تؤدي لنزاعات شيء من التفصيل مثلاً موقف السودان في حرب الخليج الثانية عزله عن محيطه العربي، ما ادى لتدهور اقتصاده ونشوء النزاعات ذات الطابع الاقتصادي، وهذا ادى لتوجيه الانظار الدولية للسودان باعتباره مهدداً لسياسات القوى الدولية، لذلك رأينا كثرة القرارات الدولية التي كثرت ضد السودان بعد تلك الحرب، رغم ان الاسباب التي تستدعي اصدار مثل تلك القرارات متوفرة في العديد من الدول، لكن تركيز النظر على السودان، جاء على خلفية سياسة خارجية خاطئة والنظام الحاكم لم يستطع تقديم الرؤية السياسية للسودان دون اخافة النظام الدولي، كذلك السياسة الخارجية تجاه بعض الدول يمكن ان تؤدي لنزاعات داخلية، مثلاً سياستنا نحو تشاد ادت لنزاع في دارفور بين السودان وتشاد. موقف دول الجوار من النزاعات الداخلية هل هو ناجم عن سياسة الحكومة الخارجية أم أنه ناجم عن كونها مخلب قط للدول الغربية تجاه السودان؟ كلا الأمرين، هناك سياسة دولية تتعمد تأجيج الصراعات الداخلية للسودان، وهي تستخدم كل الوسائل الممكنة ومنها دعم وتحريض دول الجوار، وكذلك السياسة الخارجية للسودان يمكن تحييدها لاقامة علاقات حسن جوار او العكس. كيف يصل السودان لمعادلة تحقيق إرادته السياسية دون أن تقوده تلك للاصطدام بالمجتمع الدولي؟ يصل لهذه المعادلة بالحنكة السياسية عبر الفصل بين الاشواق والدوافع للنمو والقوة في مجال الدولة، وما بين الواقع الآن في وجود هيمنة دولية، صحيح السودان يسعى لتكون له مكانته في محيطه الاقليمي والمجتمع الدولي وهذا يمكن ان يكون بتخطيط وتدابير دون الافصاح عنها او الترويج لها، مثلاً قضية البترول هناك دول اخرجت بترولها دون الاعلان عن ذلك. تعني البعد عن العنتريات السياسية نعم، مثلاً الجهر بمواقف سياسية دون مراعاة طريقة الطرح السياسية. هل لمركز النزاعات الذي تديره علاقة بصناع القرار السياسي في البلاد؟ علاقة مباشرة لا، مهمتنا انجاز بحوث واوراق علمية في قضايا النزاع، ونصل الى رؤية علمية حول اسباب النزاع وآثاره وامكانية حله، ثم نرفع هذه الرؤية لصناع القرار، وقد نعقد شراكات في تنفيذ بعض الندوات والمؤتمرات المتخصصة في النزاعات مع بعض صناع القرار باعتبار انه يعنيهم هذا الامر ولكن المركز مستقل عن أية جهة. الدراسات والبحوث التي أنجزها المركز هل أخذت بها الحكومة؟ حتى الآن لا لماذا في تقديرك؟ عدم قناعة في ان التعامل مع المراكز العلمية هو الاسلوب الامثل لحل الاشكالات، ولا زال صناع القرار يعتمدون على تقارير خاصة وبعض النظرات الاحادية لمن هم في السلطة، باعتبار ان هذا هو الحل الامثل للقضايا وليست الرؤية العلمية. ألا تستشير الحكومة المركز في أية قضايا لها علاقة بالنزاعات؟ استشارة مباشرة لا، وكل هذه القضايا التي يقوم بها المركز ينظر للنزاع المعين وكيفية التعامل ثم يعقد ورشة اومؤتمر او ورشة تدريبية. إذاً ما الفائدة من بحوثكم ودراساتكم هذه؟ الفائدة اننا نقدم هذه الرؤية العلمية باعتبارها وسيلة لتناول القضايا المعنية في النزاع وكيفية حله ألا ترى أن الرؤية العلمية إذا لم تطبق على أرض الواقع تكون مجرد ثرثرة على الورق؟ ارتباط البحوث بالواقع العملي متعلق او مرتبط بقناعات صناع القرار، ويوماً ما ستحدث هذه القناعة إن شاء الله على أي أساس أنشأت الجامعة هذا المركز؟ الجامعة أصلاً مهمتها علمية وتتعلق بالبحث العلمي والمعرفة العلمية. هل لديكم اتحاد لمراكز الدراسات أو ما شابه نعم لدينا شبكة تم تأسيسها باسم المجلس السوداني لمراكز السلام والتنمية والدراسات الاستراتيجية، يجمع كل المراكز التي تهتم بالسلام وقضايا التنمية. أنتم كتجمع مراكز للدراسات ألستم محبطين لأن الحكومة لا تهتم بنتائج دراساتكم وبحوثكم العلمية؟ نحن نظرتنا أبعد من الوضع الراهن، اذا لم يؤخذ بعملنا الان يمكن ان يأتي اليوم الذي يؤخذ به هذا العمل، وهذا لا يمنعنا ان نؤدي عملنا حتى نشكل الوعي العام بهذه القضايا حتى يأتي اليوم لتصل القناعة للجميع بمن فيهم صناع القرار بان الرؤية العلمية هي الامثل، وحينها تثمر بإذن الله والبلاد تمضي في مشروع حوار عريض ما هو الترياق المضاد لهذه النزاعات مستقبلاً؟ الترياق المضاد احد اهتمامات المركز الذي قدم حوله دورة تدريبية بعنوان نظام الانذار المبكر والوقاية من النزاعات، ونحتاج الى جهاز باعتباره يتنبأ بالنزاعات قبل حدوثها، نؤسس هذا النظام لنمنع النزاعات قبل وقوعها. هل هذا يعني أنه ليس لدينا نظام إنذار مبكر لمواجهة النزاعات هذا النظام غير موجود، وهذه دعوة من مراكز البحوث بضرورة إنشاء نظام انذار مبكر أخيراً ما هو المخرج العلمي لخروج البلاد من ورطة النزاعات المخرج العلمي أولاً توجيه كل الجهود للاهتمام بهذه النزاعات لانها خطر، لابد ان تصل قناعة بان هذه النزاعات هي الخطر الاول على السودان، لا يمكن الوصول لاي استقرار سياسي او اقتصادي او اجتماعي في ظل هذه النزاعات، والوسيلة الوحيدة هي تحقيق سلام وتطور لمجتمعنا يكمن في حل هذه النزاعات وتوجيه المناهج التربوية لتحقيق التعايش الاجتماعي والتعايش السلمي، وتربية النشء على نحو يحول دون حدوث النزاعات، وتوجيه الاعلام في ان يصب في كيفية حل النزاعات بتوعية الناس بمخاطرها وضرورة حلها، وتوجيه مؤسسات صناعة القرار بان تأخذ بالموجهات العلمية الاكاديمية في مجال النزاعات، والبحث عما يحقق السلام في البلاد ونجد له الحلول ونضع التدابير الوقائية للنزاعات بعد ان نعرف اسباب النزاع بالتحليل حتى لا يحدث، لان اطفاء النزاع بالحوار لا يضمن لنا انه سينتهي، وقد يتولد النزاع مرة اخرى اذا توفرت الاسباب لقيام النزاع.