سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
رداً على الافتراءات على الجعليين والقبائل العربية المسلمة في وسط وشمال السودان وقائع الجعليين.. حقاً كانت منصات قيم وفخر وشرف «18-18»...د. عثمان السيد إبراهيم فرح
ذكرنا في الحلقة السابقة أن من أهم الدوافع لكتابة هذه السلسلة من المقالات أمر يتعلق ببذل النفس دون العرض الذي هو من أصل شؤون الدين، وأنها تحوي ردوداً موثقة على باديِّيَّ الرأي الذين لا همة لهم والذين لا وعي لهم عما يترب على ما يفترون من تجريح ومن إساءة السوْئَي لأكبر شريحة في المجتمع السوداني، وكان آخر تلك الافتراءات المقالة التي نشرت بصحيفة التيار بتاريخ 8/6/2014 وجاء في عنوانها «... لم تكن يوماً واقعة المتمة منصة فخر». وذكرنا ما كان من مشاركة الجعليين في إنهاء العهد المسيحي في السودان في بداية القرن السادس عشر الميلادي، ثم ما كان من مناهضة المك نمر للغزو التركي وأنه لم يكن له خيار إلا الذود عن العرض، أو القبول بالذل والخنا والعار. وذكرنا ما كان من حملات الدفتردار الانتقامية البشعة ونكبات الجعليين وبخاصة المتمة فيها، وما كان من مناجزة المك نمر لجيش الدفتردار، ثم تحدثنا عن قيام الثورة المهدية ونصرة الجعليين وما كان لهم من قدح معلى في تثبيت أقدامها، وتطرقنا في إيجاز لما حاق بعد وفاة الإمام المهدي ببعض زعمائهم وزعماء قبائل أواسط السودان من نكبات في الأنفس والمال. ثم جاءت واقعة المتمة الكبرى «الكتلة» التي قتل فيها أكثر من ألفين من زعماء الجعليين وشيوخهم ونسائهم وأطفالهم في يوم قائظ في صيف 1897م، وما كان لهم من ذنب إلا أن أَبوْا أن يخرجوا من ديارهم تاركين وراءهم أموالهم للنهب وأعراضهم للاستباحة. وأوجزنا في حلقتين سرد بعض ما كان من مشاهد مروعة في واقعة المتمة المشؤومة. ثم حللنا في حلقتين أيضاً أحداث واقعة المتمة واستعرضنا تداعياتها. ثم ذكرنا شيئاً عن بعض أسماء عدد من أفذاذ الجعليين ومساهماتهم في نهضة السودان الحديثة. السيد ميرغني حمزة أحد عظماء نهضة السودان: أوردنا في حلقة سابقة توثيقاً لميلاد السيد ميرغني حمزة البلة تحت شجرة تنضب يوم خرجت والدته السيدة فاطمة بنت الفقيه الشيخ إبراهيم سوار الذهب من المتمة فى ذهول من هول المذبحة. والسادة السواراب هم أشراف دهمشية بديرية جمعتهم المصاهرة مع العمراب، آل حاج خالد، وآل موسى جد عبد الله بك حمزة ود موسى الذى ولد ب «أبو حليمة» شمال الخرطوم وهم عبدلاب، وكانت مهنتهم التجارة التى كانوا يديرونها بين مصر والسودان، وكانت المتمة مقرهم من قبل العهد التركي ومازالت أطلال مساكنهم فيها، وكانت مدينة الخندق معبراً مهماً لتجارتهم، وقد أُطْلِقَ عليهم، من أجل ذلك، خطأً اسم «الخنادقة». وفي قديم الأدب العربي طرفة عن شجرة التنضب، وهي شجرة معروفة تنبت في المناطق شبه الصحراوية، ليس لها صفق ولكن لها سوق «فروع» كثيرة مخضرة ومتشابكة وثمرها لونه أحمر يانع أشبه بالكرز إلا أنه باهت الطعم. وهي كثيراً ما توجد فيها السحالي. وكانت العرب، حينما تصف المرء بشدة الحذر، تقول ».... كسحل تُنْضُبَةٍ لا يطلق الساق إلا مُمْسِكاً على ساق». والسوق جمع ساق كما جاء في قوله تعالى في وصف النبي صلي الله عليه وسلم وأصحابه «... سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ ...» الفتح «29». وأما «السوق»، مكان التجارة، فمفرد جمعه أسواق كما ورد في القرآن الكريم. الفرقان «7 و 20».وذكرنا أن ميرغني حمزة نشأ في أم درمان وتخرج مهندساً من كلية غردون التذكارية وتدرج فى الخدمة المدنية إلى أن ارتقى إلى منصب وكيل وزارة الأشغال ثم انخرط في العمل السياسي في بداية عهد الإستقلال وتقلد، في أول حكومة وطنية، منصب وزير «الأشغال والمعارف والري». وأنه كان سياسياً بارعاً تميز بالفكر الثاقب وبعد النظر في شؤون تنمية البلاد. وكانت له مساهمات كبرى في تنمية السودان الحديث، من أهمها إنشاء المعهد الفني «حالياً جامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا» إيماناً منه بأن التعليم المهني هو قوام نهضة الأمم، ومن المؤسف أن المعهد الفني تحول إلى مؤسسة أكاديمية من غير أن ينشأ له بديل. وإهمال التعليم المهني كان من أكبر الكوارث التى عطلت مسيرة التنمية في البلاد، وذاك مبحث طويل لا مجال للخوض فيه في هذه المقالات. من أكبر إنجازاته التى دلت على بعد نظره، فكرة إنشاء مشروع المناقل الزراعي وإنشاء خزان الروصيرص لريِّه مما زاد مساحة مشروع الجزيرة بحوالى 67%، اي بتوسعة قدرها مليونا فدان. وفي مراحل التصميم الهندسي لخزان الروصيرص «والمعروف بسد الدمازين» طلب ميرغني حمزة من الشركة الاستشارية أن تشمل تصاميم السد تركيب توربينات مائية لتوليد الطاقة الكهربائية. فأشار الاستشاريون إلى أن ذلك سيزيد من تكلفة السد وأنه لا توجد أحمال كهربائية في المنطقة تبرر هذه الزيادة في التكلفة، فأشار إليهم إلى نقل الكهرباء الى الخرطوم فوافقوا على ذلك، وأدرجوا في التصاميم كذلك الخط الناقل للكهرباء من الروصيرص إلى الخرطوم مروراً بمارنجان وطوله «525» كيلومتراً. وتم تنفيذ المشروع في أوائل ستينيات القرن الماضي على عهد الفريق إبراهيم عبود. وكان سد الدمازين أكبر مصدر للطاقة الكهربائية التي ظلت البلاد تنعم بها على مدى سبعين عاماً، وبفضله عمت الكهرباء مدن وقرى الجزيرة، وتم ري مشروع الرهد الزراعي والفاو بالمضخات الكهربائية، ووصلت إمدادات الكهرباء غرباً المناقل والنيل الأبيض، وكل ذلك بجانب توافرها في العاصمة القومية وامتداداتها. وبعد إنشاء سد مروي أصبح التوليد الكهرومائي من سد خزان الروصيرص ثانِيَ أكبر مصدر للطاقة في البلاد خاصة بعد تعلية السد بنهاية عام 2013م، ومن إنجازات ميرغني حمزة إنشاء مصنع أسمنت ربك بشركة مساهمة عامة. وكانت تلك الحلقات الموجزة لمحات من تاريخ نصرة الجعليين لدينهم وعروضهم غير مفاخرين بقبلية منبوذة أو عرقية بغيضة، وذكرنا فيها لمحات عن عطائهم في تاريخ السودان قديماً ونهضته حديثاً. وغطت الحلقات المسيرة وقائع الجعليين بدءاً بالمساهمة في إسقاط مملكة علوة الصليبية ومروراً بالعهد التركي وأحداثه الدامية ثم مذبحة المتمة وتحطيم الخليفة وجنوده مناطق الجعليين وهم عامدون. تسامح الجعليين ورغماً عن كل تلك المأسي التاريخية فالجعليون من صفاتهم التسامح عما مضى وعدم أخذ أحد بجريرة غيره. ونوثق لذلك بقصة يرويها الإداري السيد عبد الله علي جاد الله، الذي سبق ذكره، وهو حفيد الأمير حاج ود سعد، والوزير سابقاً علي عهد الرئيس نميري، أمد الله فى أيامه، قال إنه في سبعينيات القرن الماضي ذهب لعزاء السيد عبد السلام الخليفة «ابن الخليفة عبد الله» فى وفاة ابن أخ له. ويذكر أن السيد عبد السلام كان رجلاً غاية في التهذيب ودماثة الخلق. وأنه حكى له أنه عندما كان في السلك الإداري في أوائل ثلاثينيات القرن الماضي، أنه نُقِلَ مأموراً لمركز ود حامد «حالياً محلية ود حامد جنوب معتمدية المتمة وكانت توجد فى تلك الأيام فى كثير من أنحاء السودان مراكز صغيرة مساعدة للمراكز الرئيسة كمركز شندي، وقد أغلقت جميعها بسبب تداعيات الأزمة العالمية الكبرى على أوروبا وباقي دول العالم عقب «الكساد الكبير أو الانهيار الكبير» الذي ضرب أمريكا في عام 1929 والذي كان يعتبر أكبر وأشهر الأزمات الاقتصادية في القرن العشرين». وقال له السيد عبد السلام إنه عند ذهابه للمنطقة كان متخوفاً من ردود فعل الجعليين تجاهه، وأحداث المنطقة وبخاصة واقعة المتمة لم تكن بعيدة عن أذهانهم وكثير منهم كانوا ممن حضروا أهوالها وأصابهم منها ما أصابهم من قروح. ولكنه ذهل، رغماً عن تلك الذكريات المؤلمة، من الحفاوة والإكرام الذي لقيه من عامة الجعليين، ليس في بلدة ود حامد وحدها بل في كل المنطقة. وهل هنالك أصدق من مثل هذه الشهادة فيما ذهبنا إليه في القول عن تسامح الجعليين؟. وبنهاية هذه الحلقات نقول للأخ الكاتب طارق فتح الرحمن وغيره من الإخوان على لسان أبناء «قبائل البحر» والجعليين بصفة خاصة، إن «السيل قد بلغ الزبى وجاوز الحزام الطبيين» في ما يتعلق بتلك الافتراءات الجزافية والدفاع عن أباطيل تلك الحقبة المظلمة من تاريخ السودان وأحداثها التي تركت جروحاً غائرة في وجدان الكثيرين، وأنه لا مخرج ولا مستقبل لهذه الأمة إلا عن طريق نسيان الماضي، إذ لا ارتجاع له، وعن طريق التسامح والتعايش المسالم. وأهل السودان، في هذا المنعطف التاريخي الخطير، أحوج ما يكونون للتعاون والتعاضد، وهم اليوم يتكالب عليهم الرافضة وكثير من الأعداء والعملاء المندسين. فنسأل الله أن يطهر قلوبنا من الظلم والفساد ويوحد صفوفنا ويقينا الفتن وهو ولي ذلك والقادر عليه.