كنا نناقش في الحلقة الماضية أمرين اثنين مرتبطين أشد الارتباط بقضية الحكم الفيدرالي: 1/ عدم وضوح الرؤية السياسية لقضية الحكم وقضايا التنمية والتطوير الاقتصادي بعد الاستقلال. 2/ عدم تطور جهاز الدولة الإداري اللازم لمواجهة أي تغييرات جذرية في بنية الحكم وهياكل السلطة كنتيجة طبيعية لانعدام الرؤية السياسية تجاه كل القضايا المحفزة لتطوره أو تطويره. إلا أن كل ما ذكرناه لا يعني غياب كل عمل وإنجاز، لكنه يعني بالضرورة أن ذلك الإنجاز أو العمل لم يكن بحجم الطموحات الوطنية ولا حتى بحجم الحاجات التي يفرزها تطور الحياة والمجتمع يوماً بعد يوم. كانت فكرة الدولة المركزية أو نظام الحكم المركزي هي الفكرة الطاغية الغالبة والمتمكنة في الشعور الوطني، فيكفي أن ندلل على ذلك بحالة «القمع» الإعلامي والسياسي الشرسة التي واجهت مقترح «الفيدرالية» كنظام يجمع بين جنوب وشمال السودان، ويومها كان الجميع يتصايحون «لا فيدرالية بين أبناء الأمة الواحدة!!»، عدا قلة، هي استثناء لا يعتد به، وقفت في الطرف الآخر الداعي لتلك الفيدرالية. وقد قرّ في وجدان الناس وعقلهم الجمعي أن أي صيغة للحكم خارج صيغة الحكم المركزي هي فكرة لبعثرة الوطن وتقسيمه، دون محاولة للنظرة إلى محتوى الفكرة نفسها أو قيمة ذلك المحتوى ومبرراته.. إذن تجمعت كل العوامل لاستبقاء نظام الحكم المركزي وتأخر طرح الحكم الفيدرالي كصيغة للحكم لعقدين من الزمان تقريباً. وبحلول الرئيس الأسبق جعفر نميري على كرسي الحكم، ووجود كثير من الأكاديميين والمثقفين والتكنوقراط، من مشارب مختلفة، بجانبه، بدأت صفحة جديدة من كتاب تطورنا السياسي، فتغير الخطاب السياسي وتطور من خطاب سهل وبسيط يحمل أفكار بسيطة وفضفاضة ومكرورة، إلى خطاب سياسي شديد التعقيد يحمل رؤى وأفكار جديدة وكبيرة وحديثة ويمس قضايا حيوية، وفي معية تلك القضايا والرؤى السياسية تأتي قضايا الحكم وتسطع معها فكرة الحكم اللامركزي في سمائنا وبناء على إقرار ذلك النظام تم تقسيم السودان إلى خمسة أقاليم إضافة إلى معتمدية العاصمة القومية، ثم في امتداد آخر للتجربة تم تقسيم السودان لاحقاً إلى ولايات تحت مسمى الحكم الاتحادي حتى وصل عددها إلى ثمانية عشرة ولاية، إلا أن الشيء المؤكد، وبعد مرور ثلاثة عقود من الزمان، أن هذا النظام بمختلف المسميات لم يستو على سوقه ولم تنضج تجربته بعد وما زال متعثراً، وشكوك كثيرة تكتنفه وتساؤل ملح حول إذا ما كان هو النظام الأمثل لحكم السودان إن سار على ذات النهج الحالي ولم تمتد إليه يد التصحيح والإصلاح. إلا أن كل ما يعتري نظام الحكم الفيدرالي من ضعف وترهل وتكريس للتنازع بين مختلف المكونات الاجتماعية في كثير من الولايات، وتحويله من تنازع في قضايا محددة ومحدودة وذات طابع خاص إلى تنازع سياسي وتدافع حول المناصب والسلطة إلخ يرجع إلى ظروف النشأة والتعجل في التحول إلى هذا النظام دون استيفاء أشراطه.. فالاستقرار السياسي على مستوى وطني هو أحد دعائم الحكم الفيدرالي وركائزه، والاستقرار السياسي هناك يعني ويحوي مضامين عدة من ديمقراطية وتعددية وحالة التراضي السياسي على حد أدنى من الموجهات الوطنية والمصالح الوطنية العليا والتوافق على فلسفة الحكم وهياكله وانتفاء حالات الاقتتال الداخلي أو الحروب.. كل هذا يساعد على المشاركة الواسعة في ابتداع نظام فيدرالي قائم على أسس من المعقولية والمصلحة العامة ويؤسس لحكم راسخ القدم وواضح المعالم في هياكله وموارده وحدود اختصاصاته وحركته مع التمييز الواضح بين مختلف مستويات الحكم والعلاقات البينية التي تربطها.. دون ذلك سيكون الحكم الفيدرالي مجرد صورة ضوئية تنقل كافة تفاصيل علل وأدواء الحالة السياسية التي أفرزته بكل سلبياتها وتشوهات جيناتها السياسية وتجعله مجرد «سُكتة» يتلهى بها قلة من أهل كل منطقة ويتنازعون أمرها فيما بينهم.. للأسف أن ذلك هو ما يحدث منذ بداية التجربة وحتى ساعتنا هذه. استعجال الكسب السياسي فرض بناء هذه التجربة دون وجود معايير موضوعية يتم بناء عليها التقسيم الجغرافي وبناء الهياكل وتوفير عوامل نجاح التجربة عبر عمل متدرج ومرسوم سلفاً في سلسلة من الإجراءات بحيث يمكن تطبيقها وفقاً للإمكانات المتاحة. نحن لم ندرس التركيبة السكانية ونتعرف على تفاصيلها وبالتالي غابت عنا المعلومات المتعلقة بالموارد البشرية وإمكاناتها وقدراتها مع أن المورد البشري هو أحد أهم عناصر نجاح تجربة الحكم الذاتي.. كما أننا لم ندرس الموارد الاقتصادية المتاحة في كل منطقة أو «ولاية أو إقليم» لنرى ما يمكن أن تتم تنميته واستغلاله بإمكانات لا مركزية «ولائية» بجانب رؤية ما يحتاج منها إلى دعم من الحكومة المركزية. كذلك لم ندرس البنى التحتية المتاحة لكل ولاية وما تحتاجه من بني إضافية، آنياً ومستقبلاً، فلا تنمية مجتمعية ولا خدمية ولا اقتصادية بدون هذه البنى.