دولة إفريقية تصدر "أحدث عملة في العالم"    والي الخرطوم يدشن استئناف البنك الزراعي    الناطق الرسمي بإسم القوات المسلحة السودانية: نحن في الشدة بأس يتجلى!    السودان: بريطانيا شريكةٌ في المسؤولية عن الفظائع التي ترتكبها المليشيا الإرهابية وراعيتها    أول حكم على ترامب في قضية "الممثلة الإباحية"    البطولة المختلطة للفئات السنية إعادة الحياة للملاعب الخضراء..الاتحاد أقدم على خطوة جريئة لإعادة النشاط للمواهب الواعدة    شاهد بالفيديو.. "معتوه" سوداني يتسبب في انقلاب ركشة (توك توك) في الشارع العام بطريقة غريبة    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء سودانية تقدم فواصل من الرقص المثير مع الفنان عثمان بشة خلال حفل بالقاهرة    شاهد بالفيديو.. وسط رقصات الحاضرين وسخرية وغضب المتابعين.. نجم السوشيال ميديا رشدي الجلابي يغني داخل "كافيه" بالقاهرة وفتيات سودانيات يشعلن السجائر أثناء الحفل    شاهد بالصورة.. الفنانة مروة الدولية تعود لخطف الأضواء على السوشيال ميديا بلقطة رومانسية جديدة مع عريسها الضابط الشاب    بعد اتهام أطباء بوفاته.. تقرير طبي يفجر مفاجأة عن مارادونا    موظفة في "أمازون" تعثر على قطة في أحد الطرود    "غريم حميدتي".. هل يؤثر انحياز زعيم المحاميد للجيش على مسار حرب السودان؟    الحراك الطلابي الأمريكي    تعويضاً لرجل سبّته امرأة.. 2000 درهم    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الثلاثاء    معمل (استاك) يبدأ عمله بولاية الخرطوم بمستشفيات ام درمان    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الثلاثاء    انتدابات الهلال لون رمادي    المريخ يواصل تدريباته وتجدد إصابة كردمان    أنشيلوتي: لا للانتقام.. وهذا رأيي في توخيل    بعد فضيحة وفيات لقاح أسترازينيكا الصادمة..الصحة المصرية تدخل على الخط بتصريحات رسمية    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    بعد أزمة كلوب.. صلاح يصدم الأندية السعودية    الإمارات وأوكرانيا تنجزان مفاوضات اتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة    القلق سيد الموقف..قطر تكشف موقفها تجاه السودان    السودان..مساعد البرهان في غرف العمليات    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    إيران تحظر بث مسلسل "الحشاشين" المصري    شاهد بالفيديو.. الفنانة ندى القلعة تواصل دعمها للجيش وتحمس الجنود بأغنية جديدة (أمن يا جن) وجمهورها يشيد ويتغزل: (سيدة الغناء ومطربة الوطن الأولى بدون منازع)    يس علي يس يكتب: روابط الهلال.. بيضو وإنتو ساكتين..!!    سرقة أمتعة عضو في «الكونجرس»    تدمير دبابة "ميركافا" الإسرائيلية بتدريب لجيش مصر.. رسالة أم تهديد؟    حسين خوجلي يكتب: البرهان والعودة إلى الخرطوم    شاهد بالصورة.. بعد أن احتلت أغنية "وليد من الشكرية" المركز 35 ضمن أفضل 50 أغنية عربية.. بوادر خلاف بين الفنانة إيمان الشريف والشاعر أحمد كوستي بسبب تعمد الأخير تجاهل المطربة    قوة المرور السريع بقطاع دورديب بالتعاون مع أهالي المنطقة ترقع الحفرة بالطريق الرئيسي والتي تعتبر مهدداً للسلامة المرورية    السينما السودانية تسعى إلى لفت الأنظار للحرب المنسية    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



دعوة للحركة الإسلامية السودانية للإحياء والتجديد

يمر السودان بمنعطف هام سيحدد مصيره، ويملي مستقبل أبنائه، مجتمعين وأفرادا، فاتفاقيات السلام تعيد تشكيل البلاد بصورة جذرية، والعلاقات، والتحالفات التي تنشأ في ظل هذا الواقع الجديد ليست بواضحة المعالم ولا مؤكدة الخواتيم.
ويجري هذا في وقت طغت فيه رؤية متفردة للنظام الدولي تنحو باستمرار إلى فرض صيغها ووصفاتها العلاجية بأسلوب يلغي مفاهيم السيادة الوطنية التي سادت النظام الدولي القديم. وليس السودان بمفازة من هذه الإرادة الجديدة، ومساحات العمل، والمبادرة تتقلص أمام الدولة بسبب تلك التحولات الجذرية.
ثم إن تجربة العمل السياسي الداخلي تجابهها معضلات حقيقية سواء على صعيد الساحة الوطنية العامة، أو الساحة الإسلامية الخاصة، وفي هذا السياق ترمي هذه الورقة إلى المساهمة بابتدار النقاش في مواضيع شتى تتعلق بالعمل الوطني وقضاياه، وواجباته الملحة، مع تركيز خاص على العمل الإسلامي، استنادا إلى خصوصية التكليف والمسئولية التي تناط به في هذه المرحلة.
العمل الإسلامي.. الكسب والمنهج
توفرت للعمل الإسلامي مكتسبات كبرى منذ أن انطلقت دعوته في الثلث الأول من القرن الماضي، وقد جاءت تلك الانطلاقة في سياق المدافعة للحملة الاستعمارية، وما صاحبها من خطط الهيمنة الثقافية، واختصت المجموعات التي نشطت في هذا المجال، واستحقت وصف الحركة الإسلامية المعاصرة أو الحديثة برؤية شاملة للإسلام تتجاوز الرؤية التقليدية التي تجعله محصورا في بعض جوانب الحياة، وبذلك تميزت بوصفها ومفاهيمها وتقاليدها عن النماذج التي كرستها التجربة التقليدية جراء تراجع المسلمين عن موقع الريادة والأستاذية الحضارية. وبرغم أن خصوم الحركة الإسلامية المعاصرة ظلوا يلحون في تلخيص منهجها بتعبير الإسلام السياسي، إلا أن مكتسبات الحركة تجاوزت بعيدا عن محض السياسة.
صحيح أن الرؤية السياسية والمدافعة بمقتضاها ظلت مكونا جوهريا في فكر الحركة، لكن كسبها طرز رقعة كبيرة ومتوسعة من نسيج الحياة المعاصرة، تمتد من مسائل العقيدة والمفاهيم إلى مسائل السلوك والعبادات. وقد أثمر جهدها تثبيت مبدأ شمول الإسلام وإحاطته بجوانب الحياة؛ اتباعا لدعوة الدين في أن يكون مستغرقا لأفعال الإنسان في كل ما يأتي أو يدع من شئون المعاش. هذه الرجعى إلى صحيح العقيدة والمفاهيم أحدثت بدورها تحولات كثيرة في المسلك العام للمجتمع نحو التدين، خاصة من حيث التزام الشعائر وأداء المناسك، وشيئا فشيئا تعمقت هذه التحولات الاجتماعية حتى غدت طابعا ثقافيا ملازما للمجتمعات الإسلامية المعاصرة.
وظلت الحركة الإسلامية تغذي تلك التحولات من خلال نشاط فكري متعمق ومثابر، كما أنها مضت في نهجها سباقة ومبادرة نحو تجديد المفاهيم والفقه لمقابلة الحوادث والأقضية، وقدمت في هذا الصدد بدائل مقنعة لأساليب الحياة المعاصرة في السياسة والاقتصاد وحركة المجتمع نافحت بها الأساليب والمناهج الغربية الحديثة والماركسية. واستطاعت الحركة أيضا أن تشكل حضورا في الساحة العالمية بالدعوة إلى النصرة وتعميق التضامن بين المسلمين، خاصة في قضية فلسطين والقضايا الإسلامية الأخرى المجمع عليها، كما أنها ظلت واعية ومتصلة ومناصرة لقضايا التحرر في إفريقيا وآسيا، وناشطة منذ نشأتها في الدعوة إلى التحرر من كافة أشكال الاستعمار، وإلى تصحيح النظام الدولي؛ لتقوم العلاقات بداخله على أسس الحق والعدل.
هذا الفهم التجديدي، الذي أحدث تحولا متناميا في مفاهيم المجتمع وسلوكه ومصطلحه، جعل السمة الإسلامية طابعا تصطبغ به معظم الفلسفات السياسية والاجتماعية المعاصرة في العالم الإسلامي، وحتى أعداء المنهج الإسلامي المعاصر أسسوا رؤيتهم على أسانيد تراثية ودينية. هم لم يفلحوا في مصادمة الفكرة الإسلامية مباشرة بنسخها وإلغائها، فسعوا إلى استخدامها هي نفسها حجة لرؤيتهم، فصار هذا مكسبا في حد ذاته.
معظم هذه المكاسب كانت قد تكرست قبل قيام الإنقاذ، لكن فترة الإنقاذ أيضا اتسمت بمكتسبات كبيرة لا يمكن تجاوزها، وقد حدث ذلك برغم أزمتها التنظيمية الداخلية الصامتة التي جعلتها تمضي نحو غاياتها بأقل من طاقاتها القصوى، ومهما أسرف المنتقدون في الحديث عما رافق تجربة الإسلاميين من إخفاقات، بل حتى من خيبات، إلا أنه لا يمكن لأحد أن ينكر ما في حقيبة التجربة من حصاد وفير من المكاسب والإنجازات، فبعث فكرة "إسلام الحياة العامة"، دولة ومجتمعا، جنبا إلى جنب إسلام الفرد، وتحويل هذه الفكرة إلى مشروع توفرت له أسباب التحقق، هو في حد ذاته إنجاز مهم.
والتجريب في حد ذاته كسب آخر ليس أقل أهمية من سابقه، يضاف إلى رصيد تجربة الإسلاميين الإنقاذية، فالأفكار لا تصنع نموذجا في الهواء، بل على الأرض، وصناعة النموذج على الأرض عملية اجتهادية لا تتأتى إلا بالخروج إليها، والعمل عليها واقعا، ونماذج العمران البشري والحضارة تصنع في الزمان والمكان كدحا ومكابدة وعملا بصيرا، وقد أفاض التطبيق على تجربة الإسلاميين، وعلى البلاد كافة، بناء قدرات بشرية يعتد بها، يصلح غالبها لأن يهب البلاد والأمة قيادات من شأنها أن ترفد أي مشروع وطني للنهضة والتقدم بزاده من ذوي الكفاءة والأهلية وسعة الأفق والنضج.
وقد تدافعت التجربة مع واقعها ومحيطها فصنعت مثالا في المثابرة والصمود والتصميم على النجاح، وبحكم ملابسات الحالة الدولية التي جاءت إلى الوجود بين أكنافها، كانت الأجواء مسمومة، وشديدة العداء، فتفتق حيال ذلك المشروع الجهادي الذي تصدت له بفلذات أكبادها من بين أكثر أبناء السودان نضجا، وأميزهم عطاء، وأفضلهم استعدادا للفداء والتضحية، فما انثنى عود الإنقاذ أمام حرب الأهل والقوى الدولية، وقاتلت حتى أوصل ميزان القوة المتقاتلين إلى حد التراضي على الدخول في السلم.
وقد قدمت الإنقاذ هاهنا تجربة حية في تعبئة المجتمع وتعبيره عن استقلاله، فكرا وخطابا وسياسة عملية؛ واستفرغت طاقتها وطاقة أبنائها في المدافعة عن أرض السودان ومصالحه من خلال مسيرة جهادية متميزة تجاوب معها السودانيون جميعا، وأبرزوا استعدادات مذهلة للتضحية بالنفس والمال والولد، وبغير الفداء عملت التجربة القائمة في البناء ضد ضغوط الحرب، فقادت نهضة في البناء والنماء أثبتت بها صحة رؤاها الاقتصادية، وفتقت موارد البلاد المادية الكامنة، مما استعصى على مختلف حقب الحكم الوطني السابقة فعله، فما تركت حجرا حسبت أن أسفله نعمة من ثروة إلا قلبته، ثم توجت ذلك بإنتاج البترول في ظل ظروف داخلية وعالمية معوقة.
ولقد تضافرت تلك التحولات لتحدث تغييرا جوهريا في رؤية الدول والقوى المؤثرة في السودان ومستقبله، وتجاوبت التجربة مع ذلك بصمود بناء لتثمر أول عملية تحول سلمي من الطابع الشمولي إلى الطابع التعددي دون أن تنقطع التجربة بثورة أو انقلاب أو انتفاضة، على نحو ما ظل يحدث في كل التجارب السابقة، ولا يعدو أن يكون هذا الملخص لمحة عجلى تصف طرفا محدودا من مكاسب الحركة بشمول مسعاها ورحابة نظرتها، وهي في منهجها لتحصيل تلك الثمرات سلكت مسلكا حديثا فاعلا ومتميزا، مسلكا متجذرا في تقاليد الشورى حفز المبادرة الفردية والجماعية في إطار صلب من تقاليد العمل الجماعي المؤسسي؛ لهذا يجب دائما التأكيد على أن ما أنجز لا يحق أن ينسب إلى أفراد بعينهم أو فئة بذاتها؛ إذ هو مكتسبات جماعية مشتركة تعاضدت عليها مواكب لا متناهية من الأفذاذ والفئات الذين يمتد صفهم عبر أجيال وانتماءات مهنية وعرقية مختلفة.
العمل الإسلامي وأزمات الواقع
يعد الحدث الأهم في تطور الحركة الإسلامية هو قيام ثورة الإنقاذ، فهو قد مثل المنتهى المنطقي لرؤيتها حول مركزية السلطان السياسي في مشروع النهضة، فالحركة في طرحها وبلاغها عن أهدافها لم تكن تراوغ في التسليم بأن السلطة السياسية تمثل غاية مطلوبة لها، بل غاية مشروعة للحركة بجملتها، من حيث هي جماعة، وليس من حيث هي أفراد يسعون إلى أهداف دنيوية أو ذاتية محدودة. فالسلطة السياسية ظلت وستبقى أداة فاعلة في إحداث التحولات الضرورية لنهضة المجتمع، ولا يمكن لحركة سياسية تروم التغيير أن تتجاهلها، ولكن -من ناحية أخرى- صاحبت قيام الثورة مشكلات تنظيمية أساسية أحدثت أزمات لاحقة، وقد غطت المكتسبات الكبيرة التي صاحبت الثورة على تلك الأزمات زمنا طويلا، لكن لم يحل دون بروزها سوى الوقت.
ففي مطلع الإنقاذ حلت الحركة بصورتها القديمة، والمبرر الذي سيق لذلك كان هو المعطيات الجديدة الواردة مع قيام الثورة بكل حقائقها الشاخصة السافرة، فما كان للمهمات الجديدة التي جلبتها الدولة بكل تعقيداتها أن تتصدى لها الآليات والمؤسسات الحركية القديمة.بتلك النقلة انقطع التواتر التاريخي للحركة ومؤسساتها، وحلت محلها تماما الدولة بجميع همومها وحاجاتها العاجلة والملحة.ىومن الإنصاف القول بأن العديد من أبناء الحركة وقياداتها قد انتقدوا الانتقال بتلك الصورة التي ألغت المؤسسات، بينما استبقت الأفذاذ بكل ثقلهم المعنوي وسلطانهم الأدبي، سواء منهم من استند إلى سابقة عظيمة في العمل، أو ممن دفعت به إلى مقدمة أحداث الثورة.
ونبه هؤلاء -قياسا إلى تجارب إنسانية عديدة- إلى احتمالات الخلل التي يمكن أن تنشأ، وقد استعر الجدال حول تلك النقلة، واستبهمت حقيقة المسئولية عنها، خاصة بعد أن تنازع الشركاء التاريخيون للحركة وتحاربوا فيما بينهم.الانشقاق والاحتراب حول السلطة كان هو الحدث التالي زمانا لقيام الإنقاذ، لكنه الأبعد أثرا في تطور الحركة، وهناك من يرى أن ذلك التطور قد جاء مصدقا لتحذيرات أولئك الذين نبهوا قديما إلى خطورة فض رابطة الجماعة في مبدء الثورة.لقد تضافرت فتنة الانشقاق والارتباك في الرؤية إلى دور الحركة ووظائفها بين من يرى بقاءها؛ ولو لأداء وظائف مرجعية محدودة، ومن يرى ذوبانها في المؤسسات التي أنشأتها المرحلة الجديدة، وقد توافقت تلك العوامل لتحدث أكبر عملية تعرية وإضعاف في بنائها.
لقد أفقدتها الصدمات المتتابعة تماسكها ووحدة صفها، وفاعلية قيادتها، ومقدرتها على المبادرة، ومن ثم فقدت التكافل التاريخي المتين بين أفرادها، والذي قام على الإخاء في الدين، وفي أحيان كثيرة انقلب التكافل مقاطعة وتحاربا بين أخلاء الأمس، وعندما أدرك كثيرون انكشاف ظهورهم، وزوال الحصن المتين من جدار الإخاء، ورابطة الجماعة، وحصانة الفكرة الرفيعة، مما كان يمنحهم أقوى مبررات الوجود، وأجدى وسائل التضامن والحماية، هربوا إلى قبائلهم، وتفرقوا إلى جهاتهم؛ نجاة وطلبا للنصرة والعدالة، وبلغ ذلك أحيانا الخروج الصريح بالقوة المسلحة، وإلى موالاة المحاربين الناصبين من أعداء البلاد، وألجأتهم بذلك الفتنة إلى كل نكارة منهي عنها؛ طمعا في انتصار زائف، أو مكسب قصير الأجل. وعندما ضعفت الثقة بالنفس وبالجماعة، وانبهم النظر إلى طرق الخلاص، زوت المبادرة عن العمل، وتراجع روح المدافعة والمناجزة، وتخلخلت الإرادة الجماعية والذهنية الموحدة، فتفرقت بالناس السبل بين باحث عن نجاة في مذهب جديد يأوي إلى فيئه، أو آبق إلى جماعة أخرى تحتضنه وتهبه نصرتها.
لكن أشد الأدواء مضاضة وأبلغها أثرا كان إحساسا مداخلا بتآكل المشروعية، وفقدان المصداقية الذاتية، ذلك الإحساس الذي يضعف الإيمان بالنفس وبأحقية المطلب الذي اجتمع عليه من اجتمعوا وتواثقوا على نصرته، ومعلوم أنه عندما يضيع إيمان صاحب الحق بحقه فمن المحال أن ينيب عنه من يقتضيه له مجانا. وكان من نتائج أزمات العمل الإسلامي ضموره في التيارات الحية والمتجددة، والتي كانت له فيها الصدارة على من عداه، وهذه حقيقة تشهد بصحتها انتخابات الاتحادات الجامعية، ونسب العضوية في القطاعات الطلابية والشبابية عامة.أما الخطاب الإسلامي، والطروح، والإنتاج الفكري، مما كان للحركة فيه السبق والمبادرة على الآخرين، فقد تخلف بصورة مزعجة.
فلقد تراجع الإنتاج الفكري كما وكيفا، فلا تكاد تجد كتابا أو بحثا طيلة السنوات الماضية ترك أثرا يذكر في التوعية الثقافية للمجتمع. كان طبيعيا أن تعدي أدواء الجماعة تلك المؤسسات الأخرى، فضعف التيار الشعبي الذي رآه الناس من قبل لججا تمضي إلى أهدافها بثقة، وتعطي سندها بغير ضن. لقد تآكل الرصيد، ونكص النصير، لا بل تحولت أفواج منه إلى موقع العداء، ولم تعد الحركة السياسية قادرة على مواكبة التطورات المتلاحقة، فضلا عن أن تطلق مبادرات تعيد تماسك المجتمع وتنمي الولاء فيه.
وبضعف السند الشعبي ضعفت الاستجابات لنداءات النصرة، وتعرى ظهر البلاد أمام العدوان العسكري الصريح من داخلها وخارجها، وتأثرت كذلك استجابات الدولة للمصاعب والأزمات التي تجابهها، ويتبدى ذلك في تصديها لوظائفها وواجباتها، ويتعدى أثره إلى أشد المؤسسات حساسية مثل القوات المسلحة التي تجد نفسها في محيط متلاطم من المهام الأمنية والمصاعب التي يولدها تكاثر حركات المعارضة المسلحة، وتنامي وجود القوات الأجنبية في البلاد.
ومن جراء تلك الفتن والمواجهات تهاوت أطراف من البلاد، وتمرد من كان بالأمس القريب أقوى الموالين في نواح مختلفة من البلاد، وخيمت ظلال البلوى حتى على العاصمة. في هذه الأجواء تنامى سوء الظن، وتعمقت الفجوة بين كثيرين من أعضاء الحركة الذين وجدوا أنفسهم متفرجين من ناحية، وبين الحكومة التي ما تنفك تدافع وحيدة مشكلاتها وأزماتها من ناحية أخرى، وتعاظم الشعور لدى هؤلاء أن العلاقة مع الحكومة مؤسسة على شروط اختيارية يمليها طرف واحد هو الحكومة، وليس على شروط تعاقد مستمدة من مشروعية مشتركة داخل جماعة موحدة. رأى هؤلاء أن الحكومة عندما تحتاجهم تستدعيهم وتستنفرهم، لكنها عندما تأمن تهملهم؛ فزهد أكثرهم في علاقة كتلك، ونأوا بأنفسهم يبحثون عن غيرها.
لقد تضررت صورة العمل الإسلامي كثيرا بسبب المشكلات الموصوفة، ووهنت وحدته، وأصبح تأثيره محدودا فيما يجري، ويتنامى لدى أبناء الصف الإسلامي عامة الإحساس بتراجع العمل الإسلامي، ومحاصرته مضمونا ومظهرا وخطابا، وظهور الجرأة على الدولة، وعلى قيم المجتمع، بل وعلى الإسلام في أصله، وتمادي الوصاية من الأجنبي، واستقواء المؤسسات والمنظمات المشبوهة، كما يزداد إحساسهم بأن الدولة تقصر عن واجبات التضامن في قضايا المسلمين الجامعة، فاهترأت جراء ذلك تحالفاتها الخارجية التاريخية، وتقوقعت في ذاتها، وبعدت من أن تحسب كما ذا مغزى في أي تشكيل إقليمي أو عالمي فاعل، بدلا من ذلك أصبح السودان هو الحالة النموذجية للأزمة يسعى كل من يؤبه له ومن لا يؤبه له من الدول والمنظمات للتدخل في شئونه بدعوى الوساطة والمبادرة لحل أزماته.
في ذلك السياق أيضا تجنب أعضاء الحركة ممارسة حقوقهم في النقد الذاتي، والسعي في الإصلاح، وتلجلجت في صدورهم الرغبة في المبادرة والسعي لتدارك الأمور؛ خوفا من انشقاق متوهم، وجزعا من التصنيف إلى هؤلاء أو إلى هؤلاء؛ فضمر الوجدان الجماعي، والإرادة المشتركة، وتوهن النسيج الموحد، والذي كان فيما مضى من أقوى آليات الإصلاح الداخلي للجماعة عندما تتغشاها المصاعب.
هذه المشكلات كان حريا أن تستدرك لو أنها جاءت في ظروف عادية، لكنها تأتي في ظروف استثنائية للغاية، فالسودان يعاد تشكيله الآن بصورة جذرية، ولا مهرب من القلق من نتائج هذا التشكل على علاقات المجتمع الداخلية، وعلاقات السودان الخارجية في ظل منحى متنام لوضع البلاد تحت الوصاية الدولية، فاتفاقيات السلام تفتح مجالا للرقابة الدولية من خلال وحدات نظامية تتجاوز عشرة آلاف ومئات من الشرطة المدنية والموظفين الدوليين ومراقبي حقوق الإنسان.
ويقيم بالخرطوم ممثل للأمين العام يخدمه جيش من الموظفين، ويرفع تقاريره لمجلس الأمن مباشرة، ومجلس الأمن قد أصدر -فعلا- من القرارات ما يقيد به الإرادة الوطنية، وهو الآن بصدد النظر في مشروع قرار يشكل به لجنة دولية من أعضائه لمتابعة تنفيذ اتفاقية السلام والأوضاع في دارفور، مع احتمال توقيع عقوبات جديدة على الحكومة، والمطالبة بمثول مواطنين سودانيين، وربما بعض المسئولين، أمام المساءلة الدولية، وهذه هي الاعتبارات التي تبرر الدعوة إلى النقاش الحر البناء لمشكلات الساعة وتحدياتها؛ وصولا إلى صيغة قومية لمواجهتها.
أحوال الساحة السياسية الوطنية
في مقابل ما يجري على الساحة الإسلامية الخاصة فإن الساحة الوطنية العامة تتعرض لاختبارات عسيرة؛ فهي لم تكن متنازعة ومنقسمة كما هي اليوم، وهي بذلك تفسح الطريق باستمرار لتنامي الخلافات داخلها، خاصة ما ينشأ على خطوط الصدع الجهوية والعرقية، وتغري في ذات الوقت المشروع الأجنبي بإطلاق يده في البلاد.
إن المجتمعات الناجحة تقوم على مبدأ هام هو مبدأ التعايش والتساند، كالبنيان يشد بعضه بعضا، فإذا أصاب الخلل جانبا من البنيان تصدعت لذلك جوانبه الأخرى؛ لهذا فإنه لمن قصر النظر أن تسعى المجموعات التي تشكل الساحة السياسية الوطنية إلى إضعاف بعضها بعضا، إما باحتكار السلطة والمراوغة بقضية الديمقراطية والحريات والاعتراف بالآخر لمن كان في الحكم، أو بالغلو في معاداة من بالحكم والاستنصار عليه بعدو خارجي مشترك؛ بغية لنصر عاجل وهزيمة حتمية آجلة.إن الصراع الموهن لبنية المجتمع ليس رديفا للتنافس النزيه المشروع، وإذا لم تتواضع الحركة السياسية الوطنية على تلك القيم فإن مصير البلاد إلى الانقسام والانكشاف أمام كل طامع.
إن الحركة السياسية الوطنية قدمت الكثير في تاريخ السودان، وكان أكبر إنجازاتها استقلال البلاد دون إراقة الدماء، ومن ثم مد الجسور مع المحيط الإفريقي والعربي والإسلامي، وتشكيل علاقات السودان المصيرية، واستطاعت الحركة الوطنية أن تفعل ذلك بامتدادها في كلا القطاعين التقليدي والحديث، وبنجاحها في الارتفاع بالولاء من الانتماءات الأولية إلى القبيلة والجهة إلى الانتماء الأرفع إلى الفكرة والجماعة.
وقد قادت الحراك الفكري من خلال الحركتين الاستقلالية والاتحادية، لكنها اليوم كغيرها مرهونة للصدوع والتصنيفات الجهوية التي تعمل بداخلها بأقوى مما تعمل الأفكار وبأفعل مما يعمل الولاء الجماعي، وقد عمق المشكلة أن الممارسة الديمقراطية داخلها -إذا تجاوزنا التعهدات اللفظية- قد تعرضت لضربات موجعة، وبغياب الممارسة الديمقراطية الداخلية خمد الحراك الفكري والمقدرة على إنتاج المبادرات، وضعفت التقاليد المؤسسية، وتناقصت موارد التمويل الذاتي الذي كان يضمن استقلال قرارها، وانطفأت جذوتها لدى الشباب والتيارات الأخرى الحية فأضربوا عنها وهجروها.
في ظل هذه الأوضاع تتعرض الوحدة الوطنية -التي هي العاصم الأقوى من المطامع الأجنبية- لامتحان عسير، وربما لم تمر البلاد بأوضاع أجدر بالتوقف والاعتبار، ثم بإجهاد الفكر طلبا للرأي والحكمة المنقذة، مما نحن بصدده تناصرا نحو عمل وطني شامل يتعاضد فيه السودانيون جميعا.إن إدراكا واضحا يسود؛ وهو أن المرحلة الراهنة لن تعمل من أجل إعادة تشكيل السودان في بعده السياسي فحسب، وإنما في بعده الاجتماعي، وعلاقاته السكانية، وكل محددات وجوده وفعله.
نحن أمام مرحلة سترسم مستقبل السودان، وستعيد صياغة الامتدادات والتحالفات التاريخية لمجتمعه في محيطه الحيوي المباشر وعلى الصعيد العالمي، مشروع كهذا يمكن أن يمضي وفق شروط أصحابه والمتحكمين فيه إلى غير الغايات الوطنية التي نتطلع إليها.وفي هذا السياق فإن التجربة الإسلامية في السودان على وجه الخصوص تتعرض لاختبار غير مسبوق سيتأثر العمل الإسلامي في العالم كله بنتائجه، وبالأحرى أن ينهض، هو والآخر الوطني معا، كتفا إلى كتف لمشروع يعيد بناء الأمة، ويصون للبلاد وحدة كيانها وشعبها ومستقبلها، ويفتح أمام اللحظة الراهنة من تاريخ الأمة آفاق نهضة لا مستقبل للأمة بدون الانخراط فيه دون تراخٍ.
وبما أن التجربة القائمة انطلقت من أرض الحركة الإسلامية فإنها، والدولة القائمة، والصف الشعبي الذي يساندها يتحملان مسئولية خاصة إزاء واجبات المرحلة وتكاليفها، وواجب القائمين على الأمر أن يصوبوا أنظارهم في المقام الأول لأوضاعهم الداخلية لإصلاحها ليتأهلوا بذلك لإصلاح الأوضاع العامة.
معالم الإحياء
مهما كانت الاختبارات والمصاعب فإن المؤمنين مطالبون بألا يستسلموا لليأس والقنوط؛ إذ لا تزال الحركة الإسلامية بتراثها وتقاليدها وخبرة أفرادها، وتميز قياداتها تملك رصيدا كبيرا من الإمكانات، وهامشا ضخما للعمل.إن الباب ما يزال مفتوحا أمام العمل الإسلامي ليستقيم وينهض ويزدهر، فالصف الإسلامي أثبت على الدوام أنه يحمل مقومات السبق من حيث توافر الكفاءات والخبرات، والاستعداد للتضحيات القصوى، وأهم من ذلك أنه يملك الإيمان بمشروعية المهمة التي تجد دائما من يتصدى لها برسالة راسخة وواثقة، وطريق الإحياء والتجديد هو الخيار الأوحد أمام العمل الإسلامي، فالبديل هو تكريس الأوضاع القائمة بكل احتمالاتها المحذورة.
إن الدعوة للإحياء ليست بحثا عن نموذج أسطوري مقابل النماذج القائمة، ولا هي، بأية حال، انطلاق من إطار بديل. هكذا تنطلق الدعوة لإحياء العمل الإسلامي من موقعها داخل إطارات العمل الإسلامي، لا من موقع خارجها، وهي تنطلق -أيضا- استنادا إلى رصيد العمل الإسلامي كله، مقابل أن تبدأ من الصفر، فالأصل هو أن الإحياء تقويم للقائم، وتطوير له، وحفز للعطاء بين جوانحه، وتكييف له وفقا لما يستجد من معطيات.
إن الإحياء لابد أن ينطلق من تأسيس حقيقة لازمة، وهي أن جوهر الحركة المعاصرة إنما هو أفكار ورؤى ومواقف وأعمال وكسوب ونماذج وقيادة ملهمة على مدار اليوم، إنه معايشة ومكافحة مستمرة لشئون الحياة كلها، تهتدي بالإسلام في كل اتجاهاتها.جوهر العمل الإسلامي هو بعث لهمة المجتمع، وإزكاء لقيم العمل والدعوة والرسالة، وإعلاء لقيم النهضة، وبدون ذلك الجوهر يفقد العمل الإسلامي المعاصر أهم أدواته ومضامينه، ويستهلك رصيد الماضي، ويتحول إلى محض انجراف بلا غاية ولا آفاق ولا مستقبل، وطريق الإحياء والتجديد له شروط لا يستغنى عنها.
إنه بلا شك ليس النموذج الماضي بحذافيره الذي يغلِّب بعض الأساليب التي أدت لانتكاساته المعلومة السابقة، ولا هو البديل المعروض من مناهج تغتال الكسب الحركي وتحيله نشاطا بلا مرجعيات، وبلا غاية يشتد إليها العاملون؛ تحيله نشاطا إداريا بلا حيوية، واجتماعات تقليدية متقاطرة بلا آفاق، ودورانا حول هياكل وخطط مفرغة من المضامين.وإنه لمن غير المقبول أو المعقول أن يتراجع العمل الإسلامي إلى أضيق مما كان عليه قبل خمسين عاما من الكسب والتطور، فيختزل في هياكل لتنظيم التذكرة و"التنوير" والتلقي، بما لا يبرم أمرا ذا بال ولا ينقضه؛ هياكل مفرغة من الرسالة والقصد، خالية من الأهداف والغايات العظام، ولا تعدو لقاءاتها أن تكون تعزية للنفس، وتسلية لها عن حقيقة أن الحركة الإسلامية بصفها ومؤسساتها ليست بذات غناء أو قرار في أمر ذي بال، سواء أكان الأمر تسوية تعيد تشكيل البلاد، أو أزمة تهدد السودان، وتهدد محيطه الإستراتيجي، أو كان حتى أدنى هموم الجماعة كوحدتها، ومناهج عملها ومرجعياتها.
إن من أهم معطيات الإحياء هي أنه ينطلق في سياق تحولات كلية متجددة ومتواردة تشكل الواقع السوداني كله، والواقع الإقليمي والعالمي من ورائه، الشيء الذي يفرض تجنب الانحصار في موقف تنظيمي داخلي ضيق، بعبارة أخرى من الضروري أن تشمل المعالجة الإحيائية الدائرة الإسلامية الخاصة ولكن منظورا إليها في جملة الحالة الوطنية، ثم الحالة العالمية الأوسع، فالعمل الإسلامي، باعتبار أن التجربة القائمة تسود باسمه، يمتلك مسئولية خاصة تجاه كل السودانيين أفرادا وتنظيمات، كما أن كثيرا من القوى السياسية والاجتماعية التي يتشكل منها السودان اليوم لها تحالفات تاريخية مع الحركة الإسلامية، وتراث جهاد وكفاح مشترك، وهي لذلك لا يمكن تجاهلها أو التنكر لها، بل الواجب أن تستدرك أي تقصيرات صدرت تجاهها منذ قيام الثورة بأي ذريعة كانت.هذا مدخل تأسيسي ضروري يمهد للإجابة على الأسئلة الكبرى حول مستقبل العمل الإسلامي وخصائصه في السياق الراهن بكل وارداته المتعددة والمتنوعة، والأسئلة الأساسية يمكن تلخيصها في المحاور التالية:
1. الهوية والمرجعيات:
تبتدئ الأسئلة من السؤال الجوهري عن ماهية الحركة الإسلامية وكيفية وضعها القانوني والأدبي في ظل الأوضاع القائمة وفي ظل التشكل الجاري للسودان، وتمضي الأسئلة إلى تعريف العضوية في بعديها العام والخاص، وتحرير حقوقها وواجباتها، وتعريف القيادة كذلك وحقوقها وواجباتها وعلاقاتها فيما بينها، وفيما بينها والقاعدة، وهناك أيضا ضرورة ملحة في ظل التحولات المحلية والعالمية لإعادة تأسيس وتأكيد المرجعيات والمفاهيم الكبرى الهادية للعمل الإسلامي.
إن المعطيات التي رافقت تطور التجربة في السنوات ال 15 الماضية على وجه الخصوص تستحق وقفات للتدبر العميق، وهنا متسع فسيح أمام الحركة لإجراء مراجعات نقدية بكل ما تستأهله من جرأة وصدق وموضوعية، تقويما لذاتها، ونقدا لأدائها بأعلى درجات الموضوعية والمسئولية، ومن قبل ذلك مراجعة أفكارها ومنطلقاتها على ضوء المتغيرات الوطنية، وعلى خلفية ما استجدّ من أفكار وتطورات في الساحة الإنسانية الأوسع، ولا شك أن تلك الوقفات الذاتية للمراجعة ستجهد في استبانة نواحي الكسب الموجب والنجاح لتعززها وتبني فوقها، وبذات الوقت ستستبين نواحي الإخفاق لتسد ثغرتها وترمم فسادها، ولا ينبغي لجهد يستوفي الغاية في هذا الصدد أن يستثني ناحية من نواحي العمل، أو فترة من فتراته، أو حدثا من أحداثه.
2. منهج الحركة للتزكية والاستقامة والتجديد:
لا تستحق أن تُوصف جماعة ما بكونها إسلامية ما لم تتجذر بداخلها قيم الإسلام، نظرية وممارسة؛ لهذا لابد أن ينصب الجهد الأدنى والأولي نحو الذات في مسعى جاد ومصمم لإحيائها قبل أن تتأهل هي لإصلاح الآخرين.. هذه البديهة هي مقتضى نشوء الحركة والمبرر الأساسي لمولدها. وبرغم أن الحركة قدمت نهجا متميزا للتزكية الذاتية، وساهمت مساهمة لا يمكن تجاهلها في تعميق التدين في المجتمع، فإنها لم تسلم، لا من حيث هي مجتمعة ولا من حيث كونها أفرادًا متفرقين، من بعض صور سالبة عنها لدى المجتمع، وليست بالضرورة أن تكون تلك الصور صحيحة ولكنها على كل حال تضع قيودا على فعلها وفرص نمائها وتأثيرها لا مهرب من الوعي بها والتعامل معها، كما أنه من المكابرة الإصرار على أنها كلها غير صحيحة، فبنو آدم خطاءون، ومن حكمة الإيمان أن يظل المرء وتظل الجماعة في حالة من التزكي والتجديد المستمرة شحذا للهمة، وجلاء للصدأ، وتتأكد هذه الضرورة على خلفية كسب الجماعة في فترة الإنقاذ التي شهدت أعلى وتيرة من تكوين الصور عن الجماعة بسبب بروزها أمام المجتمع وهي في مواقع السلطة.
إن هذا يؤكد ضرورة تجديد قيم الالتزام والاستقامة الأخلاقية على الصعيد الشخصي، وقيم الحريّات العامّة، والإنصاف، والقسط، والمحاسبة، والعدل الاجتماعي، وصون الحقوق العامة للناس وحرماتهم على الصعيد العام، ولا مشاحة في أن تقديم المشروع الإسلامي بصورة قوية ومستمرة سيتأتى فقط من خلال تقديم بدائل في مجالات الحياة جميعا، ونماذج وقدوة تعمق مصداقية العمل الإسلامي، وتجدد الثقة فيه، وتعالج أزمة اهتزاز المثال لديه، وتقوي الإقبال على التدين عامة، وذلك يفرض تجديد أساليب العمل في التزكية الخاصة والدعوة وتنشيطها، وتقديم الطروح التي توجه الكسب وتصوغ المواقف العامة.. إن من الضروري العناية بالأفراد من حيث هم بشر وأرواح، ومن حيث هم مجتمع متساكن ومتعاون؛ لكن منهج الحركة ليس تزكية للذات وحدها، ولا يقف في حدود النجاة الشخصية، بل إن من أخص خصائصه أن يمتد إلى المجتمع وإلى الحياة العامة ليصلحها بقيم الدين، وبهذا لا يمكن أن ينتكس العمل الإسلامي ليصبح أسرا مقفلة ومواعين للعمل المغلق لأغراض التلقين والتنميط، والشحن بالولاء الأعمى والأبكم في آن واحد.
إن من الأولويات هنا أيضا هو استعادة التجانس الداخلي في الحركة، وتحقيق التواصل بين قطاعاتها وأجيالها، وتجديد لحمة الإخاء كما كانت، وتجديد الدماء، وتفريخ القيادات في كل الأجيال، وبعث تقاليد المبادرة لدى الأفراد وتحرير إرادتهم؛ ومن ناحية أخرى استعادة روح العمل الجماعي، وتوظيف طاقات الأفراد والجماعة في العمل الدعوي والسياسي المنفتح نحو توسيع الولاء في المجتمع.إن الإحياء لا يلزم في هذه النواحي وحدها، بل لابد له من أن يشمل الناحية الفكرية، فأي حركة معاصرة بلا فكر متجدد وخطاب جاذب مصيرها الذبول والتواري والموت البطيء المؤكد، ولن تستطيع الجماعة أن تطلق طاقات الأفكار في أفرادها ما لم تطلق طاقات المبادرة لديهم ولدى المجتمع من حولهم، فالأفكار تنمو وتزدهر في سياق المدافعة والمنافسة، والشرط الأسبق لذلك هو إطلاق الحرية دون تردد أو تقاعس.
3. الشورى والمؤسسية:
إن الجسر العابر إلى الإحياء الجدي ينهض على إصلاحات تنظيمية أساسية، تستهدف توسيع دائرة الشورى في غير ما تأجيل أو مداراة؛ فإن ما يميز الحركة الإسلامية هو وعي قيادتها وقاعدتها وتساويهما في الحقوق، وتقاربهما في المعرفة والإمكانات الذاتية، ولم تقم العلاقة بين القيادة والقاعدة، في أفضل مراحل العمل الإسلامي، على مشيخية، ولا على تقاليد الإشارة والتلقي السالبة، بل كان المثال الشاخص دائما وبوضوح هو مثال النبوة والخلافة الراشدة؛ حيث المداولة والمشاورة حتى بين صاحب الوحي وعامة الصحابة، وهو مقتضى عموم الأمر بالشورى الذي جاء في القرآن بصيغة الإطلاق، ثم إنه من الضروري التذكير بأن الشورى ليست نصوصا تكتب لتنتهك، ولا هي وعود بارقة كالسراب وادعاءات لا تسندها بينات، ولا هي تمويهات إجرائية معقدة لإبراء الذمة، ولا هي جدل دائري لا ينتهي حول صحائف وخطط ولوائح لا تقدم ولا تؤخر في قرارات جوهرية، وقطعا هي ليست تزجية أوقات الاجتماعات ببيانات "تنويرية" لا تستدعي نظرا ولا محاسبة ولا قرارا ذا بال، إن الضابط في هذا الجدل حول ماهية الشورى ومقدار ممارستها هم أبناء الحركة الإسلامية أنفسهم، فهم يعرفون الشورى حين يرونها، ويعرفون نقيضها حين يرونه أيضا.
إن الشورى الحقيقية في الأساس يستحيل تحقيقها إن لم تتوفر لها شروط عينية، في مقدمة تلك الشروط: تكافؤ أصحاب المشروع في الذمم وفي الحقوق والواجبات، قبل أن تتحقق الشورى بالإجراءات فإنها تتحقق بتساوي أفراد الجماعة في مقومات السلطة والقوة، إنه لمن الخطأ أن توصف مؤسسة قيادية بأنها شورية أو قيادية إن لم يتكافأ أعضاؤها في المعلومات، والإمكانات المادية، ليس في العلم بها فقط تحقيقا لمبدأ الشفافية، بل في الوصول إليها واستخدامها، ولا تكافؤ بين الشركاء في مشروع واحد بغير تكافؤ في الحقوق إزاء الأجهزة التنظيمية بحيث تبقى نزيهة ومحايدة إزاء حقوق أعضاء الجماعة وعدالة الإجراءات بينهم مهما ارتفعت أو انخفضت مقاماتهم، وبهذا لا يمكن تصور شورى حقيقية إذا احتكرت مقومات السلطة والقوة ووظفت لفئة دون أخرى.
إن الإصلاح الشوري يعني بالضرورة إصلاح طرائق العمل المؤسسي ومفاهيمه في كل الأصعدة والمستويات، إن كان في الحركة السياسية أو الدولة، وذلك يعني تعديلات في الأساليب والتقاليد القائمة اليوم في كل أجهزة القيادة وأجهزة الرقابة والشورى، وسيعني ذلك حتما استدعاء قضية المحاسبة للأفراد والقيادات على حد سواء.إن هذا المبدأ الإسلامي الصريح هو من أهم ما ميز المثال الإسلامي كما عبرت عنه مرحلتا النبوة والخلافة الراشدة، لكنه أيضا ظل ركيزة هامة في تقاليد عملنا المعاصرة، واليوم وقد قامت دولة ترفع مبادئ الإسلام أصبحت هذه التقاليد أوجب، فمن غير العدل أن يطلب من أعضاء الحركة تقديم أرواحهم وأموالهم وأوقاتهم ليدافعوا عن التجربة القائمة دون كلل أو ملل وهم لا يملكون المقدرة على الاستقصاء المحايد، الدقيق والشافي، وليس القانع فقط بالتطمينات، من اتهامات الخطأ أو التجاوز في الحقوق العامة مما يقدح في صورة التجربة الواجب الدفاع عنها والمنافحة عن صورتها.
4. العمل الإسلامي والدولة:
ترمي الأسئلة أيضا إلى معالجة الجدلية التي يصورها الافتراض القائل بحتمية التنافر بين الحركة والدولة، أو ما تلخصه مقولة: "قوة الحركة-ضعف الدولة؛ وضعف الحركة-قوة الدولة".
إن الإجابة على هذا السؤال توجد في حقيقية أساسية من المهم إثباتها وهي أن الجماعة من حيث فكرها وكسبها الرسالي غير مرتهنة إلى حيز الزمان أو المكان.. هما -بلا شك- اعتباران مهمان، لكن الفكرة في إطلاقها تتجاوز الزمان والمكان، وإلا لما بقيت العقائد والأفكار عبر الدهور، أما الدولة من حيث هي تجسيد زماني ومكاني للفكرة، فإنها مقيدة بهما وبما يترتب من تكاليف وأعباء، ومواثيق وقوانين، وأولويات وحوادث، وجملة ممتدة من الاعتبارات العملية، ويفرض ذلك تعيين مدى الارتباط الملزم والمقيد بين الفكرة في بعدها المثالي والرسالي وبين سلسلة الوقائع والملابسات اليومية التي تواجه تطبيقها في حالة الدولة، بما يخلي مساحة للمراجعة البناءة، ولا يرهن الفكرة برمتها لأقدار الدولة، ويجعلها تحت رحمة الأحداث التي تنوشها وتوهن بناءها؛ فالمراهنة على الدولة وحدها، وإلحاق الدعوة والفكرة برمتها بها وبأقدارها، يعني زوال الدعوة والفكرة بزوال الدولة.
وهنا لابد من تأكيد مسألة مهمة وهي أن تجربة الدولة الماثلة، بكل ما لها وما عليها، هي من صنع الحركة الإسلامية مهما ضج أبناء الحركة بالشكوى من عدم كفايتها هي، أو ضعف مقدرتهم هم على تقويمها وتصويبها، وبذلك فإن أي جهد إحيائي إنما ينصب نحو التقويم والتصويب للحركة والدولة كليهما، فهما ليستا فوق النقد والتقويم والمحاسبة من ناحية، كما أنهما ليستا في مقام الخصومة والعداء من ناحية أخرى، وأي إخلال بهذا المبدأ أو التنازل عنه سيعني أن تئول الدولة حتما بكل أدواتها وسلطانها إلى من يسيطر عليها، وتبقى تحت رحمة قراراته وتقديراته وحده.. في هذه الحالة ستكون الخسارة مزدوجة؛ من ناحية تتحمل الحركة وزر أفعال لم تأت بها، ومن ناحية أخرى تفرط فيما حصلته وجنته بكسب يدها.
إن من الضروري اكتشاف المعادلة التي تدحض الفرضية التي تلخصها المقولة السابقة التي تنبني على تناسب عكسي يحمل صفة الحتمية بين قوة الجماعة وقوة الدولة.. إنها فرضية شائهة ومشبوهة الأصل، ومكبلة للدولة والحركة كليهما، ومعكوسها هو الصحيح، فقوة الدولة في قوة من يسندها من جماعة، وقوة الجماعة في قوة دولتها، والبديل لهذا التعايش المتساند المتعاضد هو التفاني والتناسخ.
وتطلب الأسئلة هنا كذلك توضيحا أدق وأنجع مما هو قائم الآن، عن العلاقة بين الحركة الإسلامية بأي تعريف مقبول ومتفق عليه وبين الحركة السياسية العامة المؤيدة للدولة والموجهة لها، وأيضا تستدعي الأسئلة إجابات حول العلاقة بين المؤسسات الشورية والقيادية من ناحية، والدولة من ناحية أخرى، وما يلزم من تقويم لتلك العلاقة في المستويات المركزية واللامركزية.
5. العمل الإسلامي والوحدة الوطنية:
إنّ قَدَر الحركة وقَدَر السودان مجتمعا ودولة أصبحا متلازمين في هذه الفاصلة التاريخية، والبحث عن مستقبل السودان، بأي صورة، يصعب أن ينظر إليه في ظل الظروف الراهنة بتغييب أي منهما، ولذلك فإنّ من أوجب واجبات المرحلة رعاية وحدة كيان الوطن، وقيادة مشروع بناء الأمّة بوعي ومسئولية وترفع عن المكاسب الذاتية الضيقة.إن إحياء العمل الإسلامي ووحدته لن يثمر شيئا في ظل انقسام المجتمع المحيط، وبذلك تبرز قضية إصلاح الساحة الوطنية الأوسع، وإعادة بناء وحدتها قضية مركزية وذات أولوية تتقدم هموم العمل الإسلامي.
إن الوحدة المطلوبة في صعيدها الأرفع هي الوحدة الوطنية الشاملة المؤسسة على ركائز المساواة في الحقوق والواجبات بين المواطنين، المتجذرة في قيم العدالة والحرية للجميع، بلا مداهنة ولا تردد في إعلان ذلك والالتزام به، ودون تقديم لمكاسب ظرفية تتحصل من تأجيل إعلانه، لكن الوحدة الوطنية لا تجتنى بالأماني.. إنها تستلزم تناولا جادا لقضايا الإصلاح السياسي الجوهرية في الساحة العامة بكل ما تتضمنه من أسئلة حرجة ومن تضحيات كبرى؛ فلن تتحقق وحدة وطنية دون التزام صريح بمطلوباتها المتمثلة في توفير الحريات السياسية للجميع، والقبول بالتداول السلمي للسلطة، والقسمة العادلة لمصادر القوة والثروة، واللامركزية الحقيقية التي تتيح لمجتمعات الريف والأطراف أن تلتحق بركب المدنية وتتساوى مع غيرها في الحقوق، وإن التسويف في هذه المبادئ لن يورث البلاد سوى مزيد من الانقسام، ويدفع بالقوى الطرفية إلى التمرد المسلح، كما يدفع بالقوى الوطنية والفاعليات الاجتماعية المتنامية إلى الانعزال.
إن وحدة الساحة السياسية السودانية العامة، بالنسبة للعاملين في الحقل الإسلامي، تنطلق من إعادة تأسيس المسار الإسلامي، وتصحيحه، وإحيائه للسير به نحو تحقيق أعلى درجات التضامن والوحدة الوطنية عبر صيغة مفتوحة ومتنامية وفق الظروف والحاجات والاستجابات، ودون ذلك المطلب الأسمى ينبغي أن تتحقق درجة من الوحدة والاتساق بين فصائل العمل الإسلامي، فبدون ذلك تهدر طاقات عطاء كبيرة، وتضيع أوقات ثمينة، وربما يستحيل العمل إلى مناورات محدودة وتضييع للوقت والإمكانات في تشقيق الذات وتقسيم الآخرين.إن الالتزام بمبدأ الوحدة وتكريس المتاح من الاستقرار السياسي والاجتماعي في الأوضاع الراهنة والبناء عليه، شرط ضروري، وإن المبادرات التي لا تأبه لتأكيد ذلك المبدأ تجنح في غاية الأمر إلى أن تصبح هي نفسها مشكلة انقسامية في غلاف جديد، خاصة إذا بدا أنها تكرس لزعامة بديلة دون عناية حقيقية بجوهر الإحياء، أو إذا اعتبرت موجهة نحو زعامة قائمة وليس نحو مبادئ حاكمة.
6. العمل الإسلامي وقضايا المجتمع:
ليس بأضر لجماعة تلي أمر الناس من أن تفقد الصلة بهم، والمقدرة على تلقي أحاسيسهم، والعناية بمشاغلهم، ويجب لذلك إظهار حساسية أعلى تجاه مشاغل المواطنين في معاشهم وأرزاقهم ومجمل حقوقهم في الحياة الحرّة الكريمة، صيانة لهم من أذى الفقر وذل الحاجة، فإنه يستحيل لصاحب دعوة أن يدعو قوما لا يعبأ بمكابدتهم في ظروف الشظف وضنك العيش واتّساع مدى حاجات الإنسان المعاصرة، ولقد وصف القرآن النبي صلى الله عليه وسلم بأنه {بالمؤمنين رءوف رحيم}، هذا شرط ضروري لأي جهد رسالي بناء، فالجماعة السياسية الناجحة ليست هي التي تقوم مقام الدفاع غير المشروط عن مواقف أصحابها وممارساتهم، خاصة إذا وليت السلطة، بل الجماعة الناجحة هي التي تملك مقياسا حساسا لنبض المجتمع وحاجاته وتطلعاته، وتصبح هي ذاتها موصلا ممتازا لتيارات المجتمع ومحاميا صلبا عنها.
7. العمل الإسلامي والسياق الإنساني:
إن الحركة الإسلامية المعاصرة هي بنت زمانها ولحظتها في التاريخ الإنساني، فالحق عليها أن تنفتح على التجربة الإنسانية على سعتها، وأن تستلهم من حكم التجربة الإنسانية وكسب البشرية الدروس والأسباب المؤدّية إلى النهضة والتقدّم؛ فلسنا بصدد انغلاق أو عُزلة غير مبررين، بقدر ما نحن أمام تحدّيات انفتاح وتواصل وتفاعل حيّ وخلاق مع مقتضيات عصرنا ومكاسبه، والعمل في السياق الإنساني العام يستوجب جهدا يتعدى محض الانفتاح السالب نحو مقتضيات العصر وتياراته، إلى التأثير الفاعل في تشكيلهما والتعامل معهما، وهذا جهد له متطلبات عديدة تبدأ بتعميق التواصل البناء مع تيارات العمل الإسلامي على الساحة الوطنية، ثم على الساحة العالمية من أجل التوافر على إجابات متفق عليها حول القضايا التي تشغل الإنسانية ومن بينها التهم التي تلصقها بعض الجهات بالإسلام بصورة متنامية، من رعاية العنف، وعدم الاستعداد للمجادلة بالحسنى، ويلزم أن يمتد الحوار وأن تقوده الحركة الإسلامية مع التيارات الأخرى داخل بيت المسلمين، ثم نحو الساحة العالمية مع الأديان والثقافات الأخرى.
وإنه لمن المهم في هذا الصدد وفي سياق الحديث عن البعد العالمي للعمل الإسلامي، إلى جانب التمسّك بمنظومة القيم الخاصة بالحوار، الانطلاق من قاعدة متينة للإجماع الوطني، وبناء علاقات وطيدة من حسن الجوار توثقها المصالح والمبادئ المشتركة، والتعاطي المتفاعل مع المجتمع الدولي الأوسع، تعايشا وتواصلا وشراكة.
خاتمة ودعوة:
نحن في قلب مرحلة من التاريخ تحيط بها تحدّيات ومهام كُبرى، وإن انطلاق عملية الإحياء بصورة مشروعة وصحيحة توفر العمق الإستراتيجي الضروري للتداول حول أمهات القضايا مما لا يمكن تناوله إذا تعاملنا معها بالتصامم عن وجودها، أو بروح القطيع المتدافع للهروب منها.والإحياء بهذا الفهم الموجب سيمكن من استقبال المرحلة القادمة من عمر السودان باستعداد أفضل، وبمقدرات أنجع، إن جهدا كهذا سيكشف عن حقائق مذهلة حول مقدار التجديد المطلوب، سواء من حيث الأولويات، أو من حيث الأطروحات المنطلقة من فكر وخطاب يوفقان بين ضرورات المرحلة الجارية وحاجاتها، وبين تواتر التجربة الإسلامية في فكرها وكسبها التاريخيين.
إن المشكلات الراهنة التي تواجه التجربة الإسلامية لا يمكن تلخيصها في أنها مشكلة قيادات.. إنها تسري في أغوار أعمق من ذلك، تسري في البنيات التنظيمية، وفي الأفكار والنظريات التي تشكلها، وفي سلوك القاعدة والمؤسسات الشورية والقيادية والتنفيذية وتقاليدها الموجهة؛ لذا فإن مقصود الإحياء ينبغي أن يتجاوز المعالجات السطحية وينفذ إلى المحركات الروحية والوجدانية، والثقافة الموجهة للجماعة وللعمل.
إن الإجابة على الأسئلة الواردة أعلاه تمثل تحديا أساسيا لإحياء العمل الإسلامي، ولا يمكن لأحد أن يزعم امتلاكه للحقيقة النهائية الثابتة في تقديم الإجابة عليها، بل عكس ذلك هو الصحيح، فإن جوهر الإحياء يعني أن تأتي الإجابة عبر عمل جماعي يبني من جديد وحدة فكرية تؤهلنا لاستقبال التحولات الكبرى في هذا المفصل الحرج من تاريخ السودان، ولأن هذا الجهد جماعي بطبعه فهو لابد أن يكون توحيديا لا انقساميا، ولكي يستوفي هذا الشرط لابد له من أن ينطلق من داخل المؤسسات المشروعة ليرفع مطالب مشروعة، ويطلب إجابات مشروعة أيضا.
ثم إن التصدي للتحديات والاختبارات التي تواجه الجماعات والأمم لا يفلح إلا إذا تقمصه التوكل والعزم والتصميم على الاقتحام مهما كانت مكارهه، وهذا بطبيعته جهد متدرج متأن ولكن برؤية ومقاصد لا تغيب عن الذهن، والقصد من هذه الدعوة هو أن ينفض أبناء الحركة الإسلامية عن كاهلهم أوزار اليأس، ويفارقوا مذاهب الاستسلام، وأن يتداعوا مرة أخرى كما تداعوا بالأمس للجهاد، وتداعوا قبله ليشيدوا بناء حركة إصلاحية تجديدية كبرى في التاريخ القريب، أن يتداعوا ليقيموا أركان دعوة جامعة للإحياء، دعوة تعرف كيف تتغلغل إلى الوجدان فتوقظ الوسنان وتبعث الطاقات المغمورة تحت ركام القنوط، دعوة يرفدها كل واحد من موقعه وعلى شاكلته التي يسرها الله له، دعوة قوية ونامية لا ينحسر ساحلها، ولا تنشق لجتها، تمضي إلى غاياتها بإذن ربه
المصدر: إسلام أون لاين


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.