برمزية موغلة في العمق، يمثل طريق الحرير في المخيلة الإنسانية خلاصة التواصل البشري بين أمم وقبائل شتى سارت عليه وهي تحمل على ظهرها حضاراتها، ثقافاتها، ألسنتها، دياناتها وأعراقها المتباينة، فعبرت من خلاله وعبر بوابة التبادل التجاري ثقافات وديانات وآداب وفنون. ومثل لأزمان طويلة شرياناً حيوياً ينقل النبض بين مختلف المكونات الاجتماعية التي كانت تعمر الأرض في تلك الحقب، ولقد لعب الطريق دوراً كبيراً في الحوار بين الشرق والغرب وبقي في المخيلة الاستشراقية، درباً يحمل سحر وأسرار الشرق العميقة الى الغرب الذي ظل لقرون طويلة يتطلع لمعرفة كل ما هو شرقي الملامح والهوى في العلوم والمعارف والثقافة، خاصة في تلك العصور المظلمة التي عاشتها أوروبا في ظل الإقطاع. وطريق الحرير هو الاسم الذي يطلق على مجموعة الطرق التي كانت تسلكها القوافل والسفن التجارية القديمة من جنوب آسيا وصولا الى مصر وإيطاليا مروراً بالخليج العربي وهو يمتد لأكثر من «10» آلاف كيلومتر خارج الصين، و «4» آلاف داخلها. وتؤكد البحوث القديمة أن مساراته قد انتظمت منذ القرن الخامس قبل الميلاد، وظل كذلك لما يقارب الألف وخمسمائة سنة تالية، حيث بقي معبراً ثقافياً واجتماعياً ترك أثراً عميقاً في المناطق التي يمر عبرها. بل وقد كان له الأثر الأكبر في إزدهار العديد من الحضارات القديمة وعلى رأسها الصينية والمصرية والهندية والرومانية، وبقي وعاءً تتلاقح فيه هذه الحضارات على كل المستويات الإنسانية والفكرية والاجتماعية دون أن يتسبب هذا التلاقح في إحداث أي نوع من الصدام الحضاري، أو الهيمنة الفكرية والثقافية. ولقد ظلت المدن والحواضر على امتداد طريق الحرير ولقرون طويلة تتكرر صباحاتها في كل يوم وكل شهر وكل عام، وهي تغذي هذه الأواصر الإنسانية وتتعهدها بالمزيد من البناء، مشيدة بذلك صرحاً من التلاقح شكَل الأساس لما تلاه من بروز عصر الصناعة والثورة المعلوماتية التي أدخلت الإنسانية في عصور جديدة تماماً. ومازالت هذه المدن تحمل عبق التاريخ، وبعضها لم يتبدل سوى اسمه وبقي الرسم بكل تفاصيله كما هو تحمله المنمنمات والجداريات والفنون القديمة والموسيقى الكلاسيكية. وبقي هواؤها يحمل رائحة القرون، ومازال البعض مشبعاً بروائح العطور الشرقية النفاذة والتوابل والبخور. وهكذا ظلت حوالى «160» مدينة وأكثر قليلاً، حاضرة في موكب يحفه تاريخ موغل في القدم. ومازال طريق الحرير الذي كان مرتهناً للتاريخ وحسب، ما يزال حياً وقائماً منذ أكثر من «12» قرناً ولم يتعرض للفناء، بل هو الآن يتجه لأن يكون أحد أهم موروثات الحضارة الإنسانية، فقد بدأت العديد من الدول التي يمر الطريق عبرها عملاً جاداً من أجل أن يتم تسجيل المواقع التي ساهمت في إحياء التلاقح الإنساني وأمدته بأسباب الحياة علي طول الطريق، ومن ثم عمدت هذه الدول الى التقدم بمشروعها الضخم الى منظمة التربية والعلوم والثقافة اليونسكو من أجل تضمين الطريق في قائمة التراث العالمي. وذلك لما يمثله من روح التبادل الثقافي بين الشرق والغرب وما بين بني الإنسانية على وجه العموم، وتخليداً لدوره المتعاظم قديماً وحديثاً، وتم رصد ما يقارب «48» موقعاً من أقسام الطريق لتسجيلها في قائمة التراث العالمي، وشرعت معظم الدول التي يمر عبرها الطريق وبمساعدة من اليونسكو في إعادة ترميم المدن والآثار المتبقية من ملامح الطريق القديم، حيث تم التنسيق مع «12» دولة حتى الآن قد كان الطريق يمر عبرها، وذلك بعد أن تغيرت كثير من المعطيات السياسية والاجتماعية التي كان يمثلها الطريق في الوجدان الإنساني، فظهور العولمة وما سبقها من قيام للحدود السياسية بين الدول وظهور النزاعات العرقية والهيمنة الثقافية، قد أدى كل ذلك لتغير طبيعة التواصل بين الشعوب، وتقطعت تبعاً لذلك العديد من الأواصر التي خلدها الطريق في ذاكرة العالم، بل وفي الذاكرة الحية للصورة، حيث يوجد في مكتبة الكونجرس ما لا يقل عن «35» ألف صورة لمدن قديمة على طريق الحرير تم التقاطها في العصر العثماني وأهديت من قبل السلطان عبد الحميد، وظلت شاهدة على تاريخ موغل في الانسانية لمدن رفدت الحضارة بكل قيمها ووثقت لها في فنونها وعمارتها وتقاليدها بل وحتى في أزيائها وتفاصيل يومياتها. لقد أصبح الشرق الأقصي الآن مركزاً للعلم والمعرفة والتقنية. وحققت دوله نهضة علمية وتقنية انعكست آثارها على كل بنيانه الاجتماعي، اقتصادياً وثقافياً وسياسياً، بل وصنعت هذه الدول لنفسها نظماً سياسية وطرائق حكم تتواءم مع فلسفتها الفكرية والدينية بعيداً عن كل المؤثرات الخارجية التي يمكن أن تحد من حريتها وخصوصية تبنيها لما يتوافق مع طبائع شعوبها وميولهم الفكرية والثقافية. وهو الآن، وفوق ذلك يمثل حلقة وصل غاية في الأهمية بين شعوب وثقافات العالم. لقد حملت القوافل في طريق الحرير كل شيء، قادم من كل مكان. وكان الأمن والخطر يتقاسمان دروب الطريق خلال مدن وبوادي آسيا الوسطى وغربي آسيا وصولاً الى شواطئ المتوسط، وظل يقود القوافل سالكاً بها دروبا فوق الرمال، أو ممرات بين الجبال أو جسوراً تعبر الأنهار أو سفناً تخوض عباب البحار، وبقي رغم كل شيء يمثل حياة كاملة لقوافل تمضي شهوراً تنتقل بكل مخزونها الثقافي من مكان لآخر، رمزاً لتواصل إنساني عميق.