بعدُ ثماني سنوات خُضرٍ في الخرطوم يغادرنا إلى الدوحة شيخُ العرب السفير علي الحمّادي، سفير دولة قطر في الخُرطوم، وعميد سُفرائها. وشيخٌ العرب، كما درجنا أن ننادي عليه، لا تترك سيرتُه العطرة بين أهله السُودانيين مجالاً لمزيد من الإفصاح و البلاغ، إذ هي سيرة تسعى بين الناس. ويكفي أنّ احتفاء أصدقائه من السودانيين، رسميين ورُموز مجتمع، به هو ربّما ممّا لم يسبقه عليه أحدٌ من أسلافه في حدود ما تحفظه الذاكرة المُعاصرة. في مهرجان الاحتفاءات التي تشهدُها الخرطوم وعواصم الولايات السُودانية في وداع شيخ العرب رأيت أن أُضيف وجهاً آخر بتوثيق أحد أهم إنجازاته في السُودان ممثّلة في إسهامه الكبير في إقناعه حُكومته بتولّي ملف تسوية أزمة دار فور، ما عُرف في أدبيات التسوية ب «منبر الدوحة». هذا الدور القطري، الذي سأروي قصته في هذه المقالة، كان لشيخ العرب دور أساس في ابتدائه وبلورته، من خلال مساهمة متواضعة لكاتب هذه المقالة. ولهذا الغرض أرجو أن استأذنه أن أنشر رفقة هذا المقال الوثيقة المعنونة: «تسوية أزمة دار فور.. الدور القطري».. وأن أروي، في الوقت ذاته، وقائع ميلادها وتبلورها إلى مبادرة قطرية كاملة حول دار فور. ونشر الوثيقة التالية، نصّها المكتوب أو إذاعة خبرها، لم يكن واردًا في تقديري الشخصي لولا أسباب ثلاثة. الأوّل هو اختيار الأخ شيخ العرب في لقاء لجماعة من أصدقائه من السُودانيين اجتمعت به لإبلاغه عزمها تنظيم برنامج لوداعه بمناسبة نهاية خدمته الرسمية في السُودان، اختياره الكشف عن قصّة توسّط بلاده، دولة قطر، لتسوية نزاع دار فور، إذ قال إنّه يكشف للمرة الأولى سرًا حول كيف انتهت الدوحة إلى ما انتهت إليه بتوسّطها لتسوية أزمة دار فور. ومضى قائلاً إنّ الدكتور محمّد محجوب هارون، يقصد شخصنا الفقير إلى الله، هو صاحب المبادرة التي انتهت إلى تبنّي بلاده ذلك الموقف. أمّا السبب الثاني، فهو الرواية التي جاءت على لسان وزير الخارجية، الأخ الأُستاذ علي كرتي، في المناسبة التي نظّمتها منظّمة جسور، التي يشرّفها برعايته، وداعاً لشيخ العرب، الخميس 22 ديسمبر الجاري، بفندق برج الفاتح في الخرطوم. وكان الأخ الأستاذ علي كرتي أشار إلى قصة منبر الدوحة. وفي هذا الخُصوص ذكر السيّد الوزير أنّ مذكّرة تدعو قطر للنظر في إمكان رعاية ملف تسوية أزمة دار فور كان صاحب فكرتها الدكتور غازي صلاح الدين، تم التداول حولها مع السفير علي الحمّادي، قام شخصي بصياغتها، مُتوناً وحواشيَ، ومن ثم بحثها السيّد السفير مع السيّد وزير الدولة بالخارجية حينئذ، الأستاذ علي كرتي، الذي تداول حولها مع السيّد رئيس الجُمهورية، والذي وافق، بدوره، عليها، فأوفد كلاً من مساعده الدكتور نافع علي نافع والأستاذ علي كرتي، إلى الدوحة حيث اجتمعا بسمو الأمير الشيخ حمد بن خليفة الذي أبدى موافقة على الفكرة إلى آخر الرواية.. وهي رواية ليست دقيقة في شقّها المتعلّق بميلاد هذا العمل، ما دفعني أن أنقل للأخ الوزير، على عجل، أثناء الاحتفال الرواية الصحيحة. والسببُ الثالث هو تناقل ثلاث صحف مُحترمة من صحف الخرطوم هي «الأحداث» و«الإنتباهة» و«السُوداني»، رواية الأستاذ علي كرتي، باختلافات طفيفة، فيما اجتمعت ثلاثتهن في رواية لم تبلغ الحقيقة في تحديد كيفية ميلاد مبادرة منبر الدوحة، وهذا أمرٌ مفهوم من واقع استناد الروايات على رواية الأخ الوزير التي ذكرت أنّها لم تكن دقيقة. وتأسيساً على كلّ ذلك، رأيتُ أن أبسط الحقيقة حول هذا الموضوع، لتصويب سجلات التاريخ أوّلاً، وبعض هذا ممّا يليني لجهة دوري في هذا الخُصوص، وأن أثبّت للأخ شيخ العرب، دورًا مهمّاً وتقديرًا مُستحقاً، وبالوثائق، من خلال إحدى أهم المهام التي يرجع إليه الفضل فيها ما أضحى معلوماً للقاصي والداني. وإليكم القصّة: نشأت فكرة تحريك مسار التسوية السياسية لأزمة دار فور في ظل حالة الجُمود التي أعقبت محاولة قوات حركة العدل والمساواة دخول الخرطوم في مايو 2008م ولم يكن خافياً، حينئذ، على المتابع للشأن العام الوطني حال الإنقسام الذي بدا ضارباً للجماعة الوطنية ما بين أولاد البحر وأولاد الغرب، بشكل أو آخر، ما حرّك في الذاكرة بعض أجواء الحالة التي ضربت الثورة المهدية على أيّام الخليفة عبد الله التعايشي، عليه رُضوان الله. وكان هذا ما دفعني، في مرحلة أولى أن أطرح على المدير الأسبق لجامعة الخرطوم، البروفيسور محمد أحمد الشيخ، فكرة أن تبادر الجامعة، بشخصيتها القومية غير المُختلف عليها، ببحث كيفية الإسهام في ترتيب الحالة الوطنية فيما يتعلّق بأزمة دار فور والملفات الأخرى ذات الصلة بها مثل المحكمة الجنائية التي فتحت حينئذ ملف الادعاء على السيّد رئيس الجمهورية، المشير عمر البشير، والوضع الاقتصادي المتأثّر بالأزمة المالية العالمية. ولقد كان تجاوب السيّد المدير حينها عالياً وفورياً، إذ قام بدعوة مجلس عمداء الجامعة وعدد من أساتذتها إلى اجتماع طارئ انتهى بتفويضه بتكوين لجنة من أساتذة الجامعة تتولى طرح، ومتابعة تنفيذ، مبادرة الجامعة. ولقد انتهى ذلك بميلاد منبر الجامعة للحوار والسياسات الذي نظم ملتقى مهماً حول جملة تلك القضايا، من بعد تواصل مع أغلب القوى السياسية الوطنية في الحُكم والمعارضة. لكن، مع ذلك، بدا واضحاً أنّ تحريكاً لملف التسوية السياسية لأزمة دارفور أمرٌ لا بدّ منه. فحركة العدل والمساواة، الحركة الأكثر تنظيماً واستعداداً للعمل العسكري بين حركات دار فور، بلغت أقصى ما يمكن أن تبلغه عسكرياً، إذ ليس منظورًا أن تعيد الكرّة، مرّة أُخرى إلى الخُرطوم. وليس ثمة أفضل للحُكومة من تسوية سياسية تضع نهاية لمسلسل الحروب الأهلية التي زاملت العهد الإنقاذي منذ ميلاده إلى يومنا هذا. وأهم من كلّ ذلك أن البلاد لم تعد تحتمل مزيدًا من الاستنزاف الذي يُوشك أن يهدّد تماسك نسيج كتلتها التاريخية المُسلمة المُستعربة، بالتمزّق. وبما أن الحاجة لوسيط خارجي موثوق فيه من أطراف النزاع كافة حاجةٌ أكيدة، كان تقديري أنّ دولة قطر، لأسباب مشمولة في المذكّرة المرفقة، ربّما مثّلت الوسيط الأصلح لتحريك مسار التسوية السياسية لأزمة دارفور الذي بلغ حالة من الانسداد في أعقاب محاولة حركة العدل والمساواة اجتياح الخرطوم. اتصلت وقتها بالأخ السفير علي الحمادي طالباً لقاءه، حيث تحدّثت معه حول أهميّة نظر قطر في إمكان إسهامها في رعاية تسوية الأزمة الدار فورية. ولقد كان الأخ شيخ العرب متفهّما. واتفقنا أن أدون الفكرة على الورق، وهُو ما قمت به بإعداد المذكرة المنشورة تالياً، والتي سلّمت نسخة منها لكل من الإخوة الدكتور غازي صلاح الدين، مستشار رئيس الجُمهورية، ومؤسّس ورئيس مجلس إدارة مؤسسة اتجاهات المستقبل، التي كنت مديرًا لها في ذلك الوقت، والدكتور مُصطفى عُثمان إسماعيل بصفته مسؤول العلاقات الخارجية بالمؤتمر الوطني، والأستاذ علي كرتي، وزير الدولة بالخارجية حينها. ولقد زارني من بعد الأخ الحمّادي في مؤسسة اتّجاهات المستقبل، وفهمت منه أنّ لمس تفهماً من الدوحة وأنّها بصدد التعرّف على خارطة طريق لصالح استكشاف كيفية انخراطها في هذه المسألة السُودانية. ولقد تناقشت مع الأخ الدكتور غازي صلاح الدين في وقت لاحق حول الموضوع، ولمست استعدادًا منه للإسهام في تطوير الورقة. بالطبع مضت المذكرة في سبيل التنفيذ، على نحو ما رواه الأخ الأستاذ علي كرتي، بيد أنّي لم أسمع لا منه ولا من الأخ الدكتور مُصطفى عُثمان شيئاً بشأنها من قبل. ما أود أن أُثبته هُنا للتأريخ هو أنّ المذكرة التي أسهمت، ربّما ضمن مساعٍ وعوامل أُخرى، في تولّي دولة قطر ملف تسوية أزمة دارفور، كانت فكرة طرحها منشأً شخصنا، فكرة ومتوناً وحواشيَ. وليس في هذا شرفٌ يُدّعى ولا مغنم يُسعى إليه. لكن للأمانة والتأريخ كان لا بد من تثبيت الحقيقة، فالمهمة التي قُمتُ بها لم تكُن تطويرًا لفكرة تم طرحها سلفاً، لا من قِبل الأخ الدكتور غازي، الذي لم يقل بذلك أصلا ولا من طرفٍ ثالث، بما يجعل، في هذه الحال، من الصياغة تمرينا أشبه بكتابة عُرضحال على نحو ما يفعل ذوي الاختصاص، وهُم غير قليل، مع وافر تقديري واحترامي للإخوة الذين ورد ذكرهم ممن كانت لهم صلة، على نحو أو آخر، باستدعاء نشر هذه المادّة. و بما أنّ منبر الدوحة انتهى إلى اتفاق الدوحة، فإنّ كان من مقترح، ضمن ما اقترحته المذكّرة ممّا تبنته وثيقة الدوحة يلزم أن نُوصي بالعض عليه بالنواجز فليس ذلك شيئاً غير ما أسمته المُذكرة «مشروع مارشال لدار فور». وهذا هو ما تمّ تبنيه في الاتّفاق ممثلاً في بنك تنمية دار فور. أملي هُنا كبير في الأخ الدكتور التيجاني سيسي، وزملائه وُلاة الولايات والسُلطة الإقليمية وجُملة أهل دار فور فضلاً عن الحُكومة الاتحادية في أن يجعلوا هذا الملف الاقتصادي، عالي الحيوية، همّا شاغلاً ومشروعاً على الأرض، كفيلاً بإسكات صوت السلاح، لتحل محله معاول البناء والإنماء. ولا يكتمل هذا الحديث دُون أن أُحيّي الأخ السفير، شيخ العرب، علي الحمّادي. الذي فاضت فضائله على شعب السُودان، والتي ليس آخرها، بحال، اتّفاق الدوحة، تقديرًا لجهوده، و لدوره في تحويل فكرة الدور القطري في تسوية أزمة دار فور من محض حلم إلى حقيقة ماثلة. أما أدناه فنص المُذكرة قصّة هذا المقال: