نكمل اليوم بالتمام والكمال ستة وخمسين عاماً منذ أن نال السودان استقلاله ورُفع العلم رمز سيادته على سارية القصر الجمهوري في غرة يناير عام 1956م. ونحيِّ جيل الآباء الذين قادوا معركة التحرير منذ بداياتها الأولى وحتى اتفاقهم وإجماعهم بكل تياراتهم الاستقلالية والاتحادية على إعلان الاستقلال من داخل البرلمان دون حاجة لاستفتاء شعبي. وعدد سكان السودان في أواخر خمسينيات القرن الماضي وحتى أوائل الستينيات لم يكن يزيد على ثمانية ملايين نسمة. وإن العاصمة المثلثة لم تكن مكتظة والريف لم يكن طارداً إذ كانت الحياة بسيطة في المأكل والمشرب والملبس مع التكافل الاجتماعي والترابط الأسري وفي العاصمة الوطنية ما زال سكان أحيائها القديمة يذكرون «النفاج» الذي يربط الأسر الممتدة داخل الحوش الكبير. وكان عدد المدارس قليلاً ولم يكن يتم افتتاح مدرسة أولية في أي مدينة أو قرية من قرى السودان حتى أواخر الستينيات إلا بتصديق من وزارة المعارف التي غُيِّر اسمها في عام 1963م وصارت تعرف باسم وزارة التربية والتعليم ولذلك سعت السلطات المحلية لافتتاح عدد كبير من المدارس المجلسية «الصغرى» لسد هذا النقص ولعبت الخلاوى دوراً مقدراً في محو الأمية الأبجدية بالإضافة لدورها الرسالي العظيم الذي كانت تقوم به في تحفيظ القرآن الكريم. وكانت المدارس الوسطى قليلة والمدارس الثانوية أقل، ولكن لعب التعليم الأهلي دوراً مقدراً في استيعاب عدد كبير من التلاميذ وقام مؤتمر الخريجين بدور مشكور غير منكور، أما التعليم العالي والجامعي فقد كان يمثل عنق الزجاجة لضيق الفرص ولذلك كانت الصفوة المتعلمة تجد التقدير والتميز الاجتماعي وأول سوداني حصل على الدكتوراة هو الدكتور مكي شبيكة الذي حصل عليها في عام 1950م في التاريخ وثاني سوداني حصل عليها هو الدكتور عبد الله الطيب في اللغة العربية وكلاهما حصل عليها من جامعة لندن. والآن فإن أي قرية تقريباً بها أحد حملة الدكتوراة على أقل تقدير، وقد يوجد بها عدد من حملة الدكتوراة والشهادات العليا الأخرى وبينهم من حصلوا على درجة الأستاذية.. وخلاصة القول إن السودان يعجُّ الآن بحملة الدكتوراة والشهادات العليا في كافة التخصصات وعلوم المعرفة المختلفة. وقد وصف الجاحظ بعض المغنيين بقوله «ومن كمال صنعة المغني أن يكون سيء الأخلاق» وقد عانى المغنون هنا وكان المغني يوصف بأنه «صايع» أو صعلوك، وسعى بعضهم بسلوكهم القويم لتغيير هذه النظرة ولا ينكر أحد أن لهم دوراً في الاستقلال والتغني للوطن ويأتي على رأس هؤلاء الفنان خليل فرح أفندي الذي غنى للوطن «عزة في هواك» وتغّنت مجموعة من الفنانين بأغنية «صه يا كنار» لشاعرها محمود أبو بكر وملحنها إسماعيل عبد المعين وتغنوا بنشيد «إلى العلا» لشاعره الأستاذ خضر حمد ولا يمكن أن ننسى دور أبي الأغنية الوطنية حسن خليفة العطبراوي في معركة الاستقلال، وقد سجن في زمن الاستعمار بسبب بعض أناشيده الوطنية التي كان يهيج بها الجماهير ويدغدغ عواطفهم الوطنية الجياشة.. وأحمد المصطفى الذي غنى للسودان ولأم درمان وعثمان الشفيع وغيرهم والقائمة تطول وكان سيد خليفة هو أول سفير للأغنية السودانية في الخارج حيث كان يغني للوطن «المامبو السوداني» وكما ذكرت آنفاً فقد كثر عدد حملة الدكتوراة في السودان ومن بينهم بعض الموسيقيين والمغنيين الذين حصلوا عليها في الموسيقى. وثمة ملاحظة لا تخطئها الأذن الآن إذ كثرت الأغنيات الهابطة خصماً على غيرها. وفي الماضي كانت توجد لجان نصوص وألحان صارمة وكان بعضهم ينتقون كلماتهم من دواوين الشعر العربي وفي إحدى المسابقات اختار الفنان حسن عطية قصيدة «فيردلونا» من ديوان قلب وتجارب وكان المحجوب شاعر القصيدة يتابع التلحين. وموضوع الآداب والفنون يحتاج لوقفة منفصلة وحلقة تالية ولنا أن نتساءل: أين موقع الفنون والآداب الإسلاميين مما يجري في الساحة وهل يوجد إنتاج وإبداع ومبدعون يعتد بإنتاجهم أم أن الموجات الأخرى هي الطاغية؟!. وكما أسلفت فإن الطبقة المتعلمة كانت تجد الاحترام والتقدير وكان الموظفون والعمال «يوم كانت للماهية شنة ورنة» هم وغيرهم من الشرائح الاجتماعية المماثلة يمثلون الطبقة الوسطى التي تحفظ التوازن في المجتمع وبانهيارها أختلت الموازين وكانت لهم منتدياتهم في المحطة الوسطى بالخرطوم ويوسف الفكي في أم درمان... الخ.. وانتهت كلها وظهرت محلها ظاهرة ستات الشاي وهي ظاهرة اقتصادية لها دوافعها وظاهرة اجتماعية جديرة بالدراسة. وكانت الرياضة مزدهرة في المدارس وفي الأندية وتمارس حتى في أزقة الأحياء والميادين العامة مع متابعة ما يجري في العالم ومعرفة النجوم في مختلف ضروب الرياضة في الحقب المختلفة مثل بوشكاش وبيليه على سبيل المثال في كرة القدم ومثل محمد علي كلاي في الملاكمة. وبرز في السودان نجوم كان لأسمائها سحر وسط المشجعين مثل الأمير صديق منزول قرعم برعي... الخ. وعلى أيام مذيع الرياضة الأشهر طه حمدتو بلغ التشجيع الكروي درجة الهوس في عهد الحكم العسكري النوفمبري وقد كان السودان من أوائل مؤسسي الاتحاد الإفريقي لكرة القدم الذي ترأسه الدكتور عبد الحليم محمد. وفي مجال النشاط الثقافي شهد السودان قيام جمعيات للقراءة في الأحياء كان لها دور كبير في عملية التنوير والتثقيف اذكر منها مجموعة الأبروفيين وجماعة الهاشماب التي كان لها السهم المعلى في تحرير مجلة الفجر ولعب المسرح المدرسي دوراً كبيراً في عملية التنوير، وقام مؤتمر الخريجين بعقد مهرجانات ثقافية شهيرة «مهرجان الأبيض ومهرجان ود مدني على سبيل المثال» وبدأت الإذاعة إرسالها في أوائل الأربعينيات وكان البث محدوداً وحتى الستينيات كان عدد الراديوهات قليلاً «الراديو أبو حلة وراديو فلبس» وفي بعض القرى كانت تعدُّ على أصابع اليد الواحدة وحتى في المدن ذكر بعضهم أنهم كانوا يأتون لبعض المقاهي التي بها راديوهات للاستماع لما تبثه الإذاعة وكانوا يستمعون أيضاً لما يبثه القسم العربي بإذاعة لندن ولإذاعة صوت العرب وركن السودان الذي يبث من القاهرة. أما التلفزيون فقد بدأ بثه التجريبي في أواخر عام 1962م وكان عدد التلفزيونات محدوداً ثم حدثت الطفرة الكبرى في البث الإذاعي والتلفزيوني الذي عمّ كل بقاع السودان وخارجه. ولعبت الصحافة السودانية دوراً مقدراً على مدى قرن ونيِّف وعانى الرواد الأوائل كثيراً للصعوبة التي كانوا يجدونها في الطباعة وفي جمع الحروف وكانوا يبذلون جهداً كبيراً في الحصول على الأخبار المحلية من مصادرهم قبل إنشاء وكالة أنباء السودان وما أتى بعدها من وكالات.. والآن يشهد العالم ثورة معلومات عبر الفضائيات والإذاعات والصحف والاتصالات وفي ظل العولمة الثقافية يشهد السودان هذه الثورة لأنه جزء لا يتجزأ من العالم وعليه أن يؤصل لما عنده لأنه يرتكز على موروث أصيل لئلا يجرفه طوفان الآخرين. وعند استقلال السودان كانت كثير من الدول الإفريقية ترزخ تحت نير الاستعمار ولكنها أخذت بعده تنال استقلالها تباعاً وكونت منظمة الوحدة الإفريقية في عام 1963م وانضوت تحت لوائها كل الدول الإفريقية المستقلة. وفي مؤتمر باندونق الذي عقد عام 1955م كان جواهرلال نهرو هو نجم المؤتمر كما ذكر الأستاذ هيكل في كتابه في بلاد الشمس المشرقة وأطبق على المكان صمت رهيب وشدَّ نهرو انتباه الحاضرين عندما بدأ في إلقاء خطابه التاريخي واستمعوا إليه بآذان مرهفة صاغية وكان يتحدث في هدوء وتؤدة وهو ينظر للأفق البعيد ويستشرف المستقبل، وخاطب الرؤساء والزعماء قائلاً لهم: إن مرحلة التعمير أخطر من مرحلة التحرير وتوقع بعد الاستقلال أن تحدث خلافات وصراعات حول السلطة وتنفجر صراعات إثنية وقبلية واختلافات حول هوية كثير من الدول المستقلة تعقبها اضطرابات أمنية ومصاعب اقتصادية وفوضى تؤدي إلى حدوث انقلابات عسكرية أو ضعف ووهن في النظم االبرلمانية، ويسعى الاستعمار القديم لحشر أنفه في الشؤون الداخلية لهذه الدول ويسعى للدخول بطرق غير مباشرة عبر النوافذ بعد أن خرج بالباب وإذا نظرنا للسودان بدون دخول في التفاصيل نجد أن ما تنبأ به نهرو قد حدث فيه من صراعات حول السلطة وسفك للدماء في حرب طويلة امتدت لأكثر من نصف قرن اضطرابات أمنية في بؤر أخرى ملتهبة ودار الحكم في حلقة دائرية.. نظام برلماني يعقبه انقلاب عسكري تأتي بعده انتفاضة شعبية وحكومة انتقالية ثم حكومة حزبية يعقبها انقلاب عسكري وهكذا دواليك. وعلى الجميع أن يتأملوا في كلمات نهرو التي قالها في عام 1955م قبل إعلان الاستقلال ويقارنوها بما جرى في الستة والخمسين عاماً المنصرمة وعلى الجميع أخذ الدروس والعبر واستشراف المستقبل بالعمل على تجاوز أخطاء الماضي ولابد أن تسود المؤسسية والشفافية، وقد أضرت بالوطن كثيراً سياسة «أم غمتي» التي كادت«تغطس حجره» اقتصادياً وما ترتب على ذلك من أمراض اجتماعية. ونعيد في هذه المناسبة مقولة الأزهري «ارفع رأسك حرر نفسك» التي ينبغي أن تكون شعاراً للجميع. وإن عدداً من الباحثين هنا وهناك يعمل كل منهم بمجهود فردي لرصد مسيرة السودان في كافة المجالات في القرن العشرين وفي العقد الأول من القرن الحادي والعشرين ونأمل أن ترى جهودهم النور. وفي الساعة الأخيرة من هذا العام وقبل أن تحل الدقيقة الأولى بعد الساعة الثانية عشرة نرجو أن يقف كل إنسان مع نفسه في جلسة صفاء ويسألها ماذا أنجزت وفي ماذا أخفقت وماذا قدمت لوطني قبل أن يسألها ماذا قدم لي وطني. وقطعاً إن هناك من يجد أن خمسين حافظاً قد أتموا حفظهم للقرآن الكريم على يديه الكريمتين ويجد آخر أنه بنى من حرِّ ماله الحلال مسجداً أو مدرسة أو مستشفى، ويجد آخر أنه كان يحمل السلاح مدافعاً بنفسه ودمه عن حياض الوطن في ثغرة من ثغوره وعلى النقيض من هؤلاء يعترف آخر في قرارة نفسه بأنه سرق ونهب كثيراً من المال العام بطريقة ماكرة وثعلبية لا يدركها أحد وهو ينتمي لشريحة الذين أثروا بالحرام، وهكذا الدنيا فيها من يرتفع قدره للقمة وفيها من ينحطُّ شأنه للسفح والدرك الأسفل وكل عام والجميع بخير.