الإسلام دين العدل وإحقاق الحقوق نصّب قاعدة الإنصاف وكفل للإنسان المستخلَف من قبل الله في الأرض حق الحياة وحق التكريم والكرامة، وحق الحرية والتعبير، وحق اختيار العمل والمهنة والتملك، وحق التدين والعبادة بعد أن أبان له السبيل، وأنزل الكتاب وبعث الرسل. وحين ذكر الله تعالى في آية طويلة من القرآن.. أنه سخّر للإنسان البحر والفُلك والنجوم والشمس والقمر والليل والنهار.. ختم الآية بقوله تعالى «إن الإنسان لظلوم كفّار» صيغة مبالغة في الظلم والكفر: أي كفران نعمة الله وجحودها.. حين ذكر ذلك كان يريد أن يؤكد أن الأزمة ليست في ضعف الموارد وزيادة الحاجات الإنسانية غير المحدودة والندرة كما قالت النظرية الاقتصادية الرأسمالية ولا لأجل التناقض بين وسائل الإنتاج والقوى العاملة وسوء التوزيع كما قالت النظرية الماركسية.. بل أكدت النظرية الاقتصادية الإسلامية من خلال القرآن أن الأزمة توجد في الإنسان ذاته حين يُسئ استخدام الموارد ويهمل تنميتها وإنتاجها وتبادلها وتوزيعها واستهلاكها بالصورة المثلى ويمارس أصنافًا من المُوبقات مثل الغش والخداع والتزوير والرشوة والنهب والسلب والاغتصاب وغسيل الأموال والسرقة وتطفيف الميزان والمكيال والاحتكار والاكتناز وأكل أموال الناس بالباطل والرّبا والاحتيال.. هذه الموبقات هي أزمة الإنسان التي تتسبب في انهيار الاقتصاد وتشويه المسار السياسي وتفكيك الرابطة الاجتماعية وإنابة الطبقات محلها.. وهذه هي الأزمة أي: ظلم الإنسان لأخيه الإنسان وأسوأ مافي الظلم استغلال المنصب والجاه واستغلال القانون لتحقيق أجندة شخصية أو حزبية. أظن لا أحد داخلياً أو خارجياً بات لا يعرف أزمة إخوتنا المناصير ومطالبهم العادلة التي عُرفت بالخيار المحلي والتي ظهرت بعد إنشاء سد مروي.. لا أحد إلا أن يكون ذا طيش وسفاهة لا يشعر أن قيام سد مروي العملاق يمثل مفخرة أي مفخرة لجميع أهل السودان.. وأنا شخصياً حين زرت سد مروي ورأيت بأم عيني مشروعاً عملاقًا مبشراً شعرت بفخر وعزة يعز عليّ وصف شعوري في تلك اللحظة.. وعظم فخري حين دخلت إلى غرفة تحكم السد ووجدت عشر محوِّلات حرصتُ أن أسأل من الذي يدير هذه الماكينات فأُخبرت بأنها تدار بخبرات سودانية خالصة ومنهم شباب استمعت إلى تفصيل جيد حول نشأة السد ومساحته وعمق البحيرة وراءه والقرى التي غُمرت والتي تفوق ثلاثين قرية وحجم الطاقة التي يوفِّرها لبلادنا، فضلاً عن مشروعات أخرى ناهضة، هذا الشعور كان شعور جميع أهل السودان تقريباً بمن فيهم إخوتنا المناصير الذين قام مشروع السد في معظم أراضيهم الزراعية والسكنية.. وهنا نود أن نشير إلى قضية ربما تجاهلها أو تناساها معظم الذين كتبوا عن قضية المناصير وهي أن أهل تلك المنطقة قد عُرفوا بحنين متدفِّق لا ينقطع إلى الأرض والنخيل وميراث الآباء والأجداد وظهر ذلك جلياً في أشعارهم القومية والشعبية المحلية وهي حالة شكلت وجدانهم وتغلغلت في مساحات حياتهم وثقافتهم مثل ما قال الشاعر: قلّب فؤادك ما شئت من الهوى.. فما الحبُّ إلاّ للحبيب الأوّل.. كم منزل في الأرض يألفه الفتى.. وحنينه أبداً لأول منزل.. وإذا كان إخوتنا في حلفاالجديدة لا يزالون يبكون حلفا القديمة، وهي سجية راسخة في الإنسان، فلم نأبى للمناصير أن يبكوا أرضهم؟! ولعل إصرارهم على ما عُرف عندهم بالخيار المحلي هو شكل من أشكال الحنين الأخاذ إلى تلك الديار. غير أننا نقول إن الأرض في أصلها لله والإنسان مستخلَف فيها ولا بد من دواعي هذا الاستخلاف من نظام سياسي وقانون يسوس حياة الإنسان وينظمها وفقًا لمطلوبات الاستخلاف وفي مقدمتها العدل والحرية.. ولذا يحق للدولة ممثلة في الحكومة أن تقرر قيام المشروعات القومية في أي مكان تراه مناسبًا وفقًا لدراسة الجدوى.. وهناك تقدّم المصلحة العامة للأمة على المصلحة الخاصة للفرد شرعًا غير أن عملية النزع هذه لا بد أن يسبقها اعتراف بالملكية المنزوعة سواء أكانت للأفراد أو الجماعات وذلك بهدف التمكُّن من تعويض من نُزعت ملكيته الخاصة لأجل إقامة مصلحة عامة ويسبق ذلك كله توعية المالك بأهمية المشروع للأمة كلها.. والأصل أن يكون هذا التنوير برفق ويسر وإقناع والمناصير هم الشريحة الأكبر من جملة المتأثرين بقيام السد بعد أهالي الحامداب وأهالي أمري الذين يتبعون للولاية الشمالية بينما نسبة المناصير 68% من جملة المتأثرين جميعهم داخل ولاية نهر النيل التي لم ترد أن تقدم لنا أدبًا راقيًا من آداب الاستقالة الجماعية بعد أن فشلت في معالجة قضية رعاياها من المناصير الذين ظلوا في اعتصام سلمي أمام حكومة الولاية بمدينة الدامر زهاء خمسين يومًا لم يتحرك ضميرها ولا ضمير مجلس الولاية التشريعي كأن الأمر لا يعنيهم في شيء!! لكن يبرز السؤال الأهم من الذي يقف وراء تعطيل تنفيذ قرارات رئيس الجمهورية مثل القرار رقم 277 لسنة 2002م والأمر رقم (1) لسنة 2002م الذي حدد مواقع توطين المناصير في وادي المكابراب ومواقع حول بحيرة السد من الناحية الشرقية والغربية بمحافظة أبوحمد حتى منطقة أم سقاية خور أبوحراز.. وقرار رقم (70) لسنة 2006م بعد تعيين الأخ غلام الدين واليًا لولاية نهر النيل والذي شمل الطمي الذي يجلبه النهر والجزر الصغيرة والكبيرة في مجرى النهر والجزر داخل بحيرة السد وأي أرض ينكشف عنها النهر وتكون قصاد بحيرة السد. وتوصيل خدمات الكهرباء والطرق لمناطق المتأثرين.. فهل من العدل وهل يُعقل أن تصل كهرباء سد مروى خارج حدود ولاية نهر النيل قبل أن تغشى قرى المتأثرين؟ وجاء في اتفاق قاعة الصداقة بين أطرافه أن تلتزم ولاية نهر النيل بالقرارات 34، 35، 36، 37، 38، 39، 51، 54، لسنة 2006م وتوجيهات الوالي رقم «1» «2» لسنة 2006م وأن تلتزم الحكومة بتوفير السكن والخدمات لكل مواقع الخيارات حول البحيرة.. وجاء فيه أيضًا تقوم الولاية (معتمدية المتأثرين) بإجراء استبيان لتحديد رغبات مواقع السكن بالنسبة للمتأثرين بقيام سد مروى في منطقة المناصير ومعرفة الراغبين في التعويض النقدي.. وأهم ما جاء في الاتفاق ما يلي: عاشرًا.. تضمن الحكومة الاتحادية هذا الحل والاتفاق وهنا يبرز السؤال الملح.. أين وفاء الحكومة الاتحادية بهذا العهد؟ أليست ذمة ومسؤولية أمام الله تعالى والله تعالى يقول «إن العهد كان مسؤولا» وقد وقَّع عن الحكومة الاتحادية الزبير أحمد الحسن وزير المالية وقتها وغلام الدين عثمان والي نهر النيل وقتها ومحمد أحمد البرجوب رئيس مجلس المتأثرين. وبدعوة من حكومة ولاية نهر النيل لاجتماع انعقد بتاريخ الجمعة 51/7/2102م جاء في توصياته أن الحكومة تعترف بأن لمواطني منطقة المناصير حقوقًا مشروعة واجبة التنفيذ وليست مطالب عادية.. وجاء فيه أيضًا لا بد من وضع الأمر موضع الاهتمام لدى الدولة ولائياً ومركزياً.. السؤال أين توابع هذا الاعتراف وهذا الاهتمام الأعلى.. إن حكومة لا تحترم قراراتها ليست بجديرة أن تنال احترام رعاياها.. لقد كتب الكاتبون عبر الإعلام أن للمناصير حقوقًا مشروعة وأنهم أهل خلق واحترام وأنهم ينظمون اعتصامًا سلميًا فهل تريد الحكومة أن تتحول تلك المواقف لمواجهات مع الدولة؟ ألا يكفي تجارب مماثلة كتلك التي حدثت في دارفور عام 2003م وما جرى في جنوب كردفان والنيل الأزرق حين لا تزال آثار تلك التجارب المُرّة تشوّه سمعة البلاد داخلياً وخارجياً نحن ضد الخروج على سلطان الدولة وحمل السلاح والاستقواء بالأجنبي وتدويل القضايا ومخازي الطابور الخامس والاستغلال السيئ للأحداث سياسيًا لدوام استمرار أزمات البلاد وما أكثرها.. ولكن نحذِّر بشدة من تجاهل قضايا المواطن الحيوية وإعانة الشيطان عليه وحمله على الخيارات النهائية.. التي تُضعف فيه روح الوطنية والانتماء!! إن قرارات رئيس الجمهورية المعطَّلة وقرارات الولاية أيضًا تجعل الأنظار تتجه نحو وحدة السدود سابقًا والتي صارت الآن وزارة الكهرباء والسدود والتي على رأسها الأخ الوزير أسامة عبد الله المتهم عند أهلنا المناصير بأنه هو الذي وراء عدم تنفيذ القرارات الصادرة في هذا الشأن وعليه ما مصلحة الأخ الوزير في تعقيد هذه القضية فهل يريد أن يتسبب في فتنة أخرى إن صدق ما يقال؟ أعتقد أن رئيس الجمهورية هو المسؤول الأول عن رفع هذا الظلم وإحقاق الحقوق والإيفاء بالعهود التي هي ندامة أمام الله يوم القيامة إلاّ من أداها بحقها وأعتقد أن الأخ رئيس الجمهورية يعلم بذلك وقد عهدناه قوي القرارات في المحيط الإقليمي والدولي فكيف لا نرى أثر ذلك في الداخل بين من وثقوا فيه وناصروه في أكثر من مناسبة وضيق ولا يزالون.. وهل يريد وزير السدود أن يكون ملكًا أكثر من الملك؟!.. إنه ليس من المروءة والعدل أن يظل الإخوة المناصير في طريق شاق بحثًَا عن حقوقهم وقد انقطعت بهم السبل فمن يقيل العثرات.. من يضمد الجراحات.. من يشفي الصدور ومن ينصف قومًا اختاروا المسالمة والقانون قبل فوات الأوان.