ربما أشواق الإسلاميين لم تهدأ يوماً بعد المفاصلة الشهيرة عام 1999م بين الرئيس "عمر حسن أحمد البشير" والدكتور "حسن عبد الله الترابي" وصلت إلى حد إقصاء "الترابي" من مناصبه الحكومية والحزبية، عبر قرارات شهيرة عرفت بقرارات رمضان التي قسمت الحزب الحاكم وقتها إلى نصفين يرمق أحدهما الآخر بالريبة والشك والخصومة، ورغم تعدد المبادرات التي أطلقها حريصون على وحدة صف الإسلاميين بهدف إنهاء الصراع المعروف ب(صراع القصر والمنشية)، إلا أن كل الجهود التي مضت في هذا الاتجاه ذهبت بها حدة الخصومة، التي وصلت في بعض مراحلها إلى تبادل الاتهامات بين الطرفين بالعمالة والخيانة وديباجات يلصقها كل طرف بالآخر. متن خبر تصدر (المجهر) يوم الجمعة الماضي حول لقاء مرتقب بين "البشير" و"الترابي" بهدف تفعيل الحوار الوطني الذي طرحه النائب الأول لرئيس الجمهورية "علي عثمان محمد طه" رسمياً، بغرض حل الأزمة السودانية ووضع دستور للبلاد من خلال تجارب الحكم السابقة منذ الاستقلال وبمشاركة جميع القوى السياسية المعارضة، متن الخبر أعاد تلك الأشواق إلى الاشتعال مجدداً.. وقد شكك كثيرون في صعوبة التقاء "البشير" و"الترابي" مرة أخرى، والجلوس على طاولة واحدة، وإدارة نقاش قد يفضي أو لا إلى المساهمة في نزع فتيل عدم الثقة الذي استمر إلى عامه الثالث عشر الآن. قد يجلس الطرفان للحوار وقد لا يجلسان.. ولكن في كلا الحالتين فإن الخبر الذي تداوله الوسط السياسي خلال اليومين السابقين، سيبقى في الأذهان أنه أعاد إلى الواجهة مرة أخرى في أدمغة وقلوب كثير من الإسلاميين حلم عودة القطبين إلى ما كانا عليه سابقاً. ثمة أمور وتغييرات وتحالفات على مستوى الحزبين طرأت بعد مفاصلة 1999م، وثمة وضع جديد أحدث تغييرات منهجية على مستوى التفكير في عقول أغلب أطراف النزاع، قد لا يجعل همّ قادة الحزبين الكبيرين الآني والوقتي هو إعادة الحركة إلى الانتظام صفاً واحداً، وهو ما أكده د. "كمال عمر" الأمين السياسى للمؤتمر الشعبي، الذي قال إن وحدة الاسلاميين لا تمثل لديهم أولوية، بل إن وحدة السودان عامة هي التي تشكل لهم الأولوية، مشيراً إلى أن الوطن الآن مطروح لمزيد من الانقسامات، وأضاف: (نريد أن نوحّد البلد ونمنع عنه شبح الانهيار).. وذات الأمر اتفقت فيه د. "لبابة الفضل" التي مضت إلى التأكيد أن وحدة المجتمع ووحدة جميع أطراف السودان هي ما يجب أن يكون الهم العالق للحركة الإسلامية حالياً، وتابعت: (نحن ننشد وحدة أكبر وليست وحدة الحركة، لأن الحركة الإسلامية سبق وأن توحدت وحققت بعض الأهداف، ولم تصل للأهداف الأخرى، وما يؤرقنا الآن هو كيف نوحّد أهل السودان عامة على مشتركات العدالة والمساواة والتوزيع العادل للثروات والفيدرالية والنزاهة، وكيف نوطّد لعلاقة المركز مع الأطراف ونمنح الأطراف حقها). ومضت د. "لبابة الفضل" في حديثها ل(المجهر) بقولها إن من خرجوا من الحركة الإسلامية لا يتجاوزون ال(10%) فقط، لافتة إلى أن الغضب ينبغي أن يكون على الغيرة الإسلامية، وأن المسلم الصادق ينسى نفسه في ذات الله. رغم أن عدداً كبيراً من الإسلاميين كانوا يرون فيما سبق أن لقاء "البشير" و"الترابي" من الممكن أن يكون سانحة جيدة لإعادة ترتيب البيت الإسلامي من الداخل مرة أخرى وإزالة ما احتقن في القلوب والعقول جراء مرحلة الخصام التي أنهت ثلاث سنوات بعد عقدها الأول، إلا أن ثمة أموراً ينبغي وضعها في الحسبان قبل الخوض في أي تفاصيل أو نتائج محتملة عاجلاً أم آجلاً لقيادة الحزبين، وتلك المطلوبات أو الاشتراطات عبر عنها د. "كمال عمر" بقوله إنهم يضعون شروطاً مؤسسية لقبول الحوار مع الوطني أهمها الحكومة الانتقالية ومعالجة ما مضى بسببه الإسلاميون كلاً في وادٍ، ومنها الفيدرالية والحرية والشورى والديمقراطية، مجدداً قوله إن الأزمة أصبحت أزمة بلد ويجب حلها في إطار قومي. كثير من المتابعين قطعوا بأن أي لقاء بين "البشير" و"الترابي" قد لا يتجاوز أحاديث المجاملة الاجتماعية، أو قد ينحصر في مناقشة مواضيع عامة دون الخوض في أي تفصيلات، وهو ما قد ينبئ بأن اللقاء في حال حدث لن يخرج بالخطوط العريضة لإعادة المياه إلى ما كانت عليه سابقاً، كونه لن يخرج عن ما سقته آنفاً.. لعل ذاك ما يدور في خلد د. "كمال عمر" حين مضى إلى القول إن لقاء بين "البشير" و"الترابي" رسمياً ينبغي أن يكون ضمن اشتراطات معلومة قال إنهم سبق أن دفعوا بها، وأكدوها، وإن الكرة الآن في ملعب الرئيس. الفجور في الخصومة الذي لازم المفاصلة، وتجاوزها إلى مدى أقلق المتابعين وصل حد التصعيد، جعل الكثيرين يجزمون أن التقاء (القصر) و(المنشية) هو أمر يصعب تصديقه أو التنبؤ بمآلاته، لأن ما يعدّه البعض (ما صنع الحداد) بات يقف حائلاً ومانعاً قوياً بين الحزبين، كون أن ما وقع بينهما وصل إلى حد اعتقال "الترابي" أكثر من مرة وملاسنات وصلت البرلمان السوداني، إلى مدى انتظم فيه المؤتمر الشعبي في صف المعارضة وأصبح يكيل كيلاً ثقيلاً للمؤتمر الوطني.. هذا التصاعد ربما خفف من حدته لقاء "علي عثمان محمد طه" النائب الأول لرئيس الجمهورية مع نائب الأمين العام للمؤتمر الشعبي د. "علي الحاج" في ألمانيا، الذي وصفه بأنه جاء بمبادرة منه، وقال إنه تطرق للقضايا الوطنية والتحديات والمهددات التي تواجه البلاد، وأوضح أنه لمس منه شعوراً عميقاً بالتحديات والمخاطر التي تجابه الوطن، مبيناً أنه أبدى استعداداً لتجاوز مرارات الماضي، والمضي نحو إحداث حوار وطني جامع يعمل على تقريب وجهات النظر بين المكونات السياسية كافة في ساحة العمل السياسي بالبلاد، بجانب الحرص على حماية التوجه العام للدولة. وأضاف "طه": (نحن مستعدون للمضي قدماً نحو كل ما يعزز هذا الحوار عبر إبراز صدق النوايا وفتح الأبواب وطرح المبادرات، والتوافق على الاحتكام للشعب في نهاية المطاف لتحقيق مبدأ التداول السلمي للسلطة) وذلك عبر انتخابات حرة ونزيهة. وقال إن اللقاء أكد أيضاً على ضرورة نبذ العنف، وأن الحوار حول مختلف القضايا هو السبيل الوحيد الذي يمكن أن تُعالج به كل الموضوعات والقضايا، وكشف اللقاء عن النوايا الحسنة التي يمكن أن تكون مبدأ لما يمكن أن تمضي عليه لقاءات الفرقاء.. وذات النبرة تحدث بها "الحاج" بقوله إنه لم يناقش مع نائب الرئيس "علي عثمان" لدى لقائهما مؤخراً قضية العلاقة بين حزبي المؤتمر الوطني والشعبي باعتبارها قضية خاصة، وإن النقاش تم حول قضايا عامة. وأكد "الحاج" اتفاقه مع "طه" على الرجوع للشعب في قضايا الحريات للمحافظة على ما تبقى من السودان. وأقرّ "الحاج" بتطور، حدث بعض الشيء، في محور الحريات، وأضاف: (لكننا نريدها أوسع من ذلك)، مبيناً أن الضمانات لما تم الاتفاق عليه تحتاج إلى نقاش من قبل المعارضين بالخارج، ولديهم رأي في الحوار الذي يجب أن يكون مبنياً على الثقة. إذن.. رغم النوايا الحسنة والطيبة التي أظهرها الرجلان المهمان في تنظيميهما، إلا أن الأمر لم يتجاوز مرحلة القضايا العامة التي تؤرق بال أغلب السودانيين، وتأكيدهما على عدم مناقشة موقف الفرقاء، وهو ما أكدته د. "لبابة الفضل" بقولها إن اللقاءات التي تأتي نتيجة لأزمات لا يمكن أن تؤدي إلى الوحدة التي تحتاج إلى الالتزام بالمبادئ الكلية للدين والنزاهة من أجل الوطن الواحد، وأردفت: (أي لقاءات تأتي في إطار اجتماعي لا يمكن أن تكون أساساً للوحدة)، وهو ذات الأمر الذي أكده د. "كمال عمر" حين استرسل متابعاً بأن من أكثر الأشياء التي اختلفنا عليها كإسلاميين وظهر أثرها واضحاً، هو تعميق مبدأ الفيدرالية التي أثرت حالياً على استقرار البلاد ككل، مشيراً إلى أن أصل العبادة قائم على الحرية، مؤكداً أن همهم الآن فقط ينحصر في توحيد السودان على كلمة سواء.