هل ماتت فينا النخوة والشجاعة والمروءة، وانطفأ بريق الثورة، وأحال الإحباط وخيبات الأمل أولئك الأشاوس - الذين حرروا توريت وكتبوا في سفر التاريخ ملاحم خور "إنجليز" و"سندرو" - إلى متكأ التأمل والحسرة.. وهل دبت الشيخوخة في أوصال الحكومة والأرض منهوبة والعرض مغتصب في "أبوكرشولا"؟! أين تلك الحشود التي كانت تزحف نحو القيادة العامة وتطالب بتحرير "نمولي" والجيش الشعبي على أبواب "يوغندا" يشكو السودان لمجلس الأمن خوفاً على عرشها؟ أين نحن اليوم وقوات التمرد تبلغ مدينة "أم روابة" في شمال كردفان.. تدخلها صباحاً تنهب وتقتل، وردة فعل الخرطوم باردة لا ترقى لمسار الأحداث وتصاعدها.. وقد تبدى غضب الجماهير على والي شمال كردفان أمس في مدينة "أم روابة" حينما وصلها متفقداً حالها بعد (24) ساعة من دخول التمرد المدينة، وبث الأهالي غضبتهم في الوالي وحكومته، ولكن الوالي المسكين لا يملك فعل شيء وأرضه تستباح في رابعة النهار الأغر، والخرطوم شعبياً لا تهز أخبار التصفيات والاغتيالات شعرة في جسدها.. والخرطوم الرسمية في شغل عن الأحداث في الميدان بالمؤتمرات الإقليمية التي تبدد الثروة والمال في ما لا طائل من ورائه.. والتصفيات الانتقائية والانتهاكات البشعة لحقوق الإنسان من قبل الحركة المتمردة تبلغ حد إحراق الأطفال في "الدندور".. وأمس (الأحد) ارتكبت الحركة الشعبية مجزرة ب "أبو كرشولا" وهي تذبح الشهيد العالم "محمد أبوبكر" من الأذن اليمنى حتى اليسرى، وسط فزع السكان، ويعلن المتمردون جهراً أن كل منسوبي المؤتمر الوطني مستباح عرضهم ودمهم، والمؤتمر الوطني في الخرطوم يبني مركزه الجديد و(يتدبر) شؤونه السياسية، ولا ينهض إلا قليل من المخلصين الأوفياء لمسح دموع الحزانى والمفجوعين. هل الرجال الذين كتبوا في سفر التاريخ ملاحم البطولات في الجنوب أكلتهم دودة الأرض أم رحلوا عن دنيانا؟! الرجال هم الرجال والقوات المسلحة هي صانعة التاريخ، وهي تحمل على ظهرها السياسيين، ولكنها في كثير من الأحيان تجد نفسها ضحية لأخطاء غيرها.. والقوات المسلحة ليست مسؤولة عن تفكك الجبهة الداخلية، ولا هي من كانت سبباً في تفشي القبيلة والعنصرية والجهوية حتى أصبحت الجبهة الداخلية مفككة ضعيفة، لا تشعر حتى بانتهاكات التمرد لقلب السودان. ما يحدث الآن في جنوب كردفان بات مهدداً لأمن الخرطوم، وليت الخرطوم تحسست وجودها وأقبلت على علاج مر لداء تفشى ومرض أخذ يتمدد في الجسد. والعلاج إما توحيد الجبهة الداخلية ودفع استحقاقات الوحدة فقداناً لمقاعد وامتيازات، وإقرار سياسات توحِّد ولا تفرق وتعيد السودان للأمس القريب، حينما كانت دارفور هي عصب ولحم المشروع الدفاعي، وجبال النوبة ترياق لكل اختراق، والجزيرة هي الأمل، والشمالية هي العطاء.. وإذا لم تُقبل الحكومة على مشروع توحيدي للسودانيين حتى يقاتل الجميع التمرد ويحجّمون وجوده ويقتلعون أظافره ويردوه إلى أطرافه البعيدة ثم التفاوض بعد ذلك.. ودون ذلك فلتتنازل الحكومة لما يطلبه المتمردون وتمنحهم ما يريدون.. ولا طريق ثالث في هذا المنعطف الذي دخلت فيه بلادنا.. ولكن هل أنت عزيزي القارئ تشعر بالمخاطر كما نراها نحن في جنوب كردفان؟!