السفير السعودي لدى السودان يعلن خطة المملكة لإعادة إعمار ستة مستشفيات في السودان    مليشيا الدعم السريع تكرر هجومها صباح اليوم على مدينة النهود    منتخب الشباب يختتم تحضيراته وبعثته تغادر فجرا الى عسلاية    اشراقة بطلاً لكاس السوبر بالقضارف    المريخ يواصل تحضيراته للقاء انتر نواكشوط    شاهد بالفيديو.. رئيس مجلس السيادة: (بعض الوزراء الواحد فيهم بفتكر الوزارة حقته جاب خاله وإبن أخته وحبوبته ومنحهم وظائف)    الحسم يتأجل.. 6 أهداف ترسم قمة مجنونة بين برشلونة وإنتر    شاهد بالفيديو.. رئيس مجلس السيادة: (بعض الوزراء الواحد فيهم بفتكر الوزارة حقته جاب خاله وإبن أخته وحبوبته ومنحهم وظائف)    شاهد بالصور والفيديو.. على أنغام الفنانة توتة عذاب.. عروس الوسط الفني المطربة آسيا بنة تخطف الأضواء في "جرتق" زواجها    المجد لثورة ديسمبر الخالدة وللساتك    بالصورة.. ممثلة سودانية حسناء تدعم "البرهان" وثير غضب "القحاتة": (المجد للبندقية تاني لا لساتك لا تتريس لا كلام فاضي)    المجد للثورة لا للبندقية: حين يفضح البرهان نفسه ويتعرّى المشروع الدموي    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    الناطق الرسمي للقوات المسلحة : الإمارات تحاول الآن ذر الرماد في العيون وتختلق التُّهم الباطلة    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    قرار بتعيين وزراء في السودان    د.ابراهيم الصديق على يكتب: *القبض على قوش بالامارات: حيلة قصيرة…    هل أصبح أنشيلوتي قريباً من الهلال السعودي؟    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    جديد الإيجارات في مصر.. خبراء يكشفون مصير المستأجرين    ترامب: بوتين تخلى عن حلمه ويريد السلام    باريس سان جيرمان يُسقط آرسنال بهدف في لندن    إيقاف مدافع ريال مدريد روديغر 6 مباريات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    صلاح.. أعظم هداف أجنبي في تاريخ الدوري الإنجليزي    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    خبير الزلازل الهولندي يعلّق على زلزال تركيا    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    المريخ يخلد ذكري الراحل الاسطورة حامد بربمة    ألا تبا، لوجهي الغريب؟!    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    ارتفاع التضخم في السودان    بلاش معجون ولا ثلج.. تعملي إيه لو جلدك اتعرض لحروق الزيت فى المطبخ    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    بيان مجمع الفقه الإسلامي حول القدر الواجب إخراجه في زكاة الفطر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عامان مضيا على ثورات الربيع العربي ولم تكتمل بعد!8

حدثني ذات مرة السيد "عبد الله قل"، رئيس جمهورية تركيا الحالي ووزير خارجيتها السابق، حيث كنا زملاء دراسة في الغرب، حدثني بأن العلمانية ليست موحدة في تعاملها مع الدين، فهي تختلف من بلد لآخر ومن مجتمع لمجتمع، بل حتى بين أفراد المجتمع الواحد، فهناك علمانية تقبل بالدين في إطار اللعبة الديمقراطية، وهناك علمانية أخرى ترفض الدين والمتدينين، حتى وإن أتى ذلك عبر اللعبة الديمقراطية، وهناك علمانيون في بلدان الشرق أشد تطرفاً تجاه الدين من علمانيي الغرب الذين - إلى حد كبير - لديهم تسامح مع الدين في إطار الحريات العامة والديمقراطية. لم أنتبه كثيراً إلى ما قاله السيد "عبد الله قل" في ذلك الوقت، إذ ربما كان متأثراً بما يجري في تركيا كنموذج للعلمانية المتطرفة.
وبعد ثورات الربيع العربي وصعود الإسلاميين إلى الحكم في معظم بلدان الربيع العربي، وقبولهم بالديمقراطية التعددية وصناديق الاقتراع التي أتت بهم للحكم، وجدت نوعاً غريباً من العلمانيين.. نوعاً يرفض القبول بقواعد وأساسيات العلمانية القائمة على حكم الشعب عبر صناديق الاقتراع.. ليس رفضاً فقط بل مقاومة شرسة، حتى ولو أدى ذلك إلى الفوضى وتدمير الأوطان.. عندئذ تذكرت حديث صديقي الرئيس "عبد الله قل" بأن العلمانية ليست موحدة في موقفها تجاه الدين.
لقد نجح بعض الكُتاب والمفكرين في الشرق والغرب في تقسيم الإسلاميين إلى معتدلين ومتطرفين وإلى أصوليين ووسطيين، والأصولية تعني عندهم التشدد والتطرف، فهل يمكن أن تقسم العلمانية إلى علمانية معتدلة وعلمانية أصولية بمعنى التشدد والتطرف؟! هذا ما عناه هذا البحث.
{ أولاً: مفهوم النظام العالمي الجديد
لا يمكن قط النظر إلى مفهوم النظام العالمي الجديد، دون الأخذ في الاعتبار جملة التطورات السياسية في نهاية ثمانينات القرن الماضي، التي قادت في خواتيهما إلى سقوط الكتلة الشيوعية، وانهيار الاتحاد السوفيتي، ثم انهيار حائط برلين الذين كان يقف حائلاً دون انسياب المعالم الحضارية في أوروبا بين شرقها وغربها، متزامناً ذلك كله مع تطور مطرد في مجال الاتصالات وتقانة الربط الفضائي.
لقد كانت تلك التطورات - وحدها - كافية لأن يتحدث المعنيون عن نظام جديد أخذ في التبلور كنتاج لإقصاء العقيدة الماركسية عن مسرح الفعل الدولي الناجز، وانفراد بؤرة الحضارة الغربية ومركزها بإنتاج مجموعة القيم الليبرالية في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.. كانت تلك التطورات كافية، غير أن تطوراً تاريخياً حدث بإعلان الكُتلة الغربية الحرب على العراق إثر احتلاله الكويت عام 1990م، وهو التطور الذي أثبت صحة الافتراض الغربي بأن الاتحاد السوفيتي وحلفاءه قد أصبحوا خارج إطار المعاطاة الفاعلة، وأن الأجواء قد خلت لتحقيق قدر من النجاح في بلورة منظومة جديدة، وهذا هو عين ما رمي إليه الرئيس الأمريكي "جورج بوش" في خطابه إلى الأمة الأمريكية بمناسبة إرسال القوات إلى الخليج في أغسطس 1990م، إذ كان هو أول من استخدم فكرة (العصر الجديد) الذي يتيح (السلام لكل الشعوب) حسب زعمه، ثم بعد ذلك بأقل من شهر عاد ليكون أول من استخدم مصطلح (النظام العالمي الجديد)، حيث أشار إلى قيام نظام عالمي جديد يكون متحرراً من الإرهاب فعّالاً في البحث عن العدل، وأكثر أمناً في طلب السلام.. عصر تستطيع فيه كل أمم العالم، غرباً وشرقاً وشمالاً وجنوباً، أن تنعم بالرخاء وتعيش في تناغم.
لقد وجدت تلك الإشارات السياسية من يؤسس لها أكاديمياً، ويسهب في حشد الدلالات التاريخية التي تبرهن على أن العالم كله بلغ من النضج مرحلة لم يعد معها ممكناً غير تبني النهج الليبرالي الغربي في سياسته (الديمقراطية)، واقتصاده (التحرير المطلق)، ومجتمعاته (السلوكي الليبرالي). وقد كان "فوكاياما" هو أشهر من وقّع فصول هذه الرؤية عبر أطروحته التي حملها كتابه (نهاية التاريخ)، ثم أعقبته أطروحة "هنتغتون" الأكثر عمقاً أكاديمياً، القائلة بأنّ صداماً حضارياً مضى يشكل بنية المجتمع الدولي، تبقى فيه الحضارة الغربية بأبعادها الليبرالية موجهاً رئيساً تتحدى وجوده ومكونات تفاعله مركبات حضارية أخرى.. ولتحقيق تلك الرؤية فإن القوة الغربية تتبنى من الآليات ما يشكل منظومة تحت ظل ما يسمى ب (الشرعية الدولية)، متخذة من المؤسسات الدولية أدوات لها، كالأمم المتحدة والمنظمات الدولية التابعة لها - وغير التابعة - وقوات الطوارئ الدولية بتنوعها الإقليمي واللوجستي، مستندة في كل ذلك إلى تأييد ضارب من العالم الشمالي الغربي واليابان وحلفائهما.
{ ثانياً: مجتمعات الربيع العربي.. ثنائية التجانس والتنوع
يغدو من الأهمية بمكان الالتفات إلى حقيقة (الثنائية) التي تلقى بظلالها في تشكيلة المجتمعات البشرية السائدة في بلدان الربيع العربي.. وتتأتى أهمية الالتفات إلى هذه الحقيقة، من التعقيد المجتمعي الذي يفرز كماً هائلاً من النظم والأدوار والسلوكيات الاجتماعية التي يتعذر فهمها دون أن يعمد الباحث والمحلل إلى علمانية تفكيكية يتتبع بها جذور المكونات الأساسية وتفرعاتها على المستويات الإثنية والثقافية والأنثروبولوجية، رغم ما يلوح للناظر أول وهلة من أن التجانس هو سمة هذه الشعوب. فعلى سبيل المثال، ظل علماء الاجتماع السياسي - حين يعرضون لدراسة مجتمعات الشرق الأوسط - يقدمون المجتمع التونسي باعتباره أكثر المجتمعات تماسكاً إثنياً وثقافياً، غير أن المفارقة تأتت حين انطلقت شرارة الثورة الأولى في العالم العربي من (تونس) ذاتها، لتكشف عن فوارق مجتمعية جارحة، وقد ظن البعض أن هذه الفوارق سرعان ما ستذوب وتُمحى مع اطراد تيار الثورة في تشكيل نظام الدولة الجديد، غير أن الأحداث سريعاً ما كشفت عن فوارق ثقافية وأيديولوجية أخرى تتميز بالكمون في انتظار لحظة الانطلاق، وهي فوارق كان يمكن أن تعصف بهيكل المجتمع كله، لولا حكمة البعض وتخوف البعض الآخر من حالة ارتداد تصيب الثورة. ويمكن ملاحظة التباينات المجتمعية في دولة (ربيعية) أخرى كمصر، التي يذهب بعض المحللين إلى أن الثورة ما كان لها أن تنطلق فيها إلا بعد استفحال العداء وعجز الدولة عن التحكم فيه بين المسلمين والأقباط، وهو ما بلغ ذروته قبيل الثورة بأيام قلائل في تفجير الكنيسة الكبرى بالأسكندرية. إن الحرمان الاقتصادي كان - ولا ريب - محركاً أساسياً في تدافع الجماهير ضد أنظمتها في بلاد الربيع العربي، غير أن العامل الاقتصادي يقصر عن تفسير الظاهرة في بلد مثل سوريا، استوت فيها معايير الحرمان بين جميع طبقات الشعب في أتون الحرب الدائرة هناك، وما استرعى الانتباه هناك هو استقواء العصبيات المذهبية والعرقية بمجتمعاتها الصغرى، في محاولة لجرجرة الثائرين إلى الحيز الإثنى الضيق.. وكيف كان الحال إذن في اليمن وهي مجتمع ظل متماسكاً عرقياً ودينياً ردحاً متطاولاً في الزمان؟! إن بواعث الخلاف المذهبي الذي مضى بتأصيل في الحياة السياسية اليمنية وأفقد الدولة هيبتها مع تنامي قوة المجموعة الحوثية وفشل الحكومة في ضبط حركتهم أو رد غائلة تعدياتهم، مع استفحال عمليات القاعدة.. كل ذلك ألقى بظلاله في تأليب المجتمع على النظام، بافتراض أن الحكومة وحدها من كان ينبغي عليه توفير الحماية للجميع.. وقد ذهب بعض الباحثين إلى أن ما ساد العراق من فوضى مذهبية واستعصام قبلي، كان هو مبعث ثورات الربيع العربي جميعاً، لاسيما وأن الوضع الديموغرافي في العراق يتسم بكثير من التعقيد مع الارتباط الوشيج لهذا التكوين بدول الجوار (سوريا، تركيا، إيران، الأردن، دول الخليج).
ثالثاً: الأصولية العلمانية
يعد مصطلح الأصولية العلمانية – كمفهوم – من أحدث منحوتات الاصطلاح في مجال علم الاجتماع السياسي، وقد كان أول من أشار إلى هذا المصطلح المفكران "جون اسبوسيتو" و"محمد مقتدر خان" في دراستهما (حول الدين والسياسة في الشرق الأوسط)، وهي دراسة مسهبة، كان مدار المصطلح فيها التحيز الواضح من بعض الباحثين ضد (الدين) لا من منطلق نقدي معياري، بل من منطلق أيديولوجي يرفض الدين جملة ولا يرى في أنصاره إلا عدواً للبشرية.. وفي هذا السياق يذهب المفكر الأستاذ "فهمي هويدي" إلى أن جذور هذا المصطلح تعود إلى عام 1998م، إذ تنبه الأستاذ "هادي العلوي" وهو مفكر عراقي مرموق – إلى أن ثمة تحيزاً متعمداً ضد الدين في كتابات الباحثين، فقد أشار في كتابه الذي طبع ذاك العام (المرئي واللامرئي في الأدب والسياسة)، إلى أن، الساحة تكتظ بالكتابة عن الإسلام السياسي، أي عن الحركات المسماة أصولية أو سلفية أو دينيه، وتشتد وتتكاثف الكتابات حولها إلى حد أن بعض الكُتاب ألقي عن نفسه كل عبء غير هذا العبء، وجعل محور نضاله وغاية سعيه أن يتصدى لهذا الإسلام، الذي يزيد خطره على غيره بل هو الخطر الوحيد الأوحد.
ويمكننا – إحمالاً – الخلوص إلى أن مصطلح (الأصولية العلمانية) هو مصطلح يعبر عن (حالة أيديولوجية) تماماً مثلماً يعبر مصطلح الأصولية – وحده – عن رؤية أيديولوجية، أو كما يعبر مصطلح (العلمانية) بمفرده عن نسق أيديولوجي فكري، غير أن المفارقة هنا أن الأصولية العلمانية تجمع بين مفهومين يبدوان متضادين مرمى واتجاهاً، لذا لم يعد من سبيل لفهم مغزى المصطلح إلا بردة إلى حالته الأيديولوجية التي تشي بما يلي من سمات تميز هذا المصطلح.
الأصولية العلمانية – بدءاً – تعني أن ثمة نسقاً من الأفكار مضى – وبصورة محسوسة، ومتعمدة – يفرز معتقداته ويصوب رؤاه، وبإيقاع يتسم بالاستمرار والقوة.
أن الأصولية العلمانية، تعبر عن حالة استيناس من من صولة أدوات العلمانية بمفردها، وكأنما بدأ لأنصار هذا الفريق من الكُتاب والباحثين، أنه لا بد من انتهاج كرائق في (حرب المفاهيم) تستعيد بها العلمانية ما فقدت من أراضي في عراكها مع التيارات الدينية التي تتقدم بجسارة في ساحة الفعل الحضاري.
ج) أن الأصولية العلمانية، يكاد ينطبق عليها من صفات التحيز ما يقدح حتى في الأسس العلمانية الأولى، التي تُعلي من قدر المنطق والرشد في ارتياد آفاق البحث والنقد، ولذا يبدو واضحاً أن أنصار الأصولية العلمانية لا يلتفتون كثيراً إلى تأصيل الأبعاد الفكرية لأطروحاتهم، بقدر ما يعنون بمواصلة النتاج اليومي المتأتي من تقدم الدين في مدار الحياة الإنسانية.
د) أن الأصولية العلمانية تعبر عن حالة (سيولة أيديولوجية) نتجت من تلاشي الأيديولوجيات الماركسية والقومية، التي هب أتباعها - بعد غياب – ليجدوا في مناواة الدين خير شاف لهم من حالة الضياع الأيديولوجي التي عصفت بهم على حين غرة، ولهذا يمكن ملاحظة الشتات الذي توافد إلى مرابع الأصولية العلمانية، إذ لا تخطئ العين تيارات الهجرة الفكرية التي مضى يستقطبها الأصوليون العلمانيون، تحت شعار (هنا يجتمع من لا يرى في الدين خيراً)، وهو عين ما عناه الدكتور "عبد الله علي إبراهيم" حين أشار في مقالته عن الأصولية العلمانية إلى أن ثمة أزوراراً من المؤسسة الصحفية الأمريكية عن تناول حقيقة أن (64%) من الأمريكيين يصلون أنفسهم بالمهتدين الجدد إلى الدين.
أما الأستاذ "فهمي هويدي" فيشير إلى هذا الاعتساف في نطاق العالم الإسلامي من بعض الكُتاب الذين "أعدوا ترتيب قائمة الأعداء، لتشتغل بالإسلام، حيث يصبح أعداء الأمس أحباباً، فلم تعد الرأسمالية الاحتكارية وغرستها الرأسمالية الكولونيالية، ولا الاستعمار وسيلته إسرائيل من بين الأعداء، بل هم في نهاية الأمر خلفاء في هذه الحرب المصيرية على الإسلام.
إن الأصولية العلمانية بهذه السمات المفهومية، تمثل تياراً مائزاً في سياق دراسة تطورات ثورات الربيع العربي، إذ يمكن التفويق – دون عناء – بين تيارين علمانيين في هذا السياق، التيار الأصولي العلماني سالف الذكر الذي – كما تبينا – يرفض المسلم الملتزم وما يلتزمه من رؤى تمت بوشائجها للإسلام (أو الدين)، وتيار علماني آخر يرى أن (الإسلام السياسي) هو جزء أصيل من تركيبة التفاعل في السياسة والمجتمع، وإن إقصاءه يفتك بأصول اللعبة الديمقراطية، ومن ثم فهو يضير كل قوى التحرير والتحديث.. وبين هذين التيارين تيار ضئيل تتنازعه تجاوبات الاقتراب والافتراق بين التيارين الأساسيين سالفي الذكر.
ويمكننا الاستعصام بهذا التصنيف رغم أن نظريات الاجتماع السياسي التي تعرض لتصنيف النخب في البلدان غير المتقدمة، تذهب إلى أن العلمانيين فيها ينقسمون إلى ثلاثة فئات: العلمانيون القوميون والعلمانيون الماركسيون والعلمانيون الليبراليون.. والمفارقة هنا أن تصنيفاً السابق (أصولية علمانية.. وعلمانية تحررية، وعلمانية تتماوج بينهما)، إنما هو تصنيف شبيه بما ذهب إليه مقسمو العلمانية إلى قومية وماركسية وليبرالية، لولا أن الزمان قد اختلف عبره الرؤى والسياسات والنظم، فالعلمانيون الماركسيون – على عهد ازدهار الشيوعية – كانوا صورة بق الأصل من الأصوليين العلمانيين اليوم، إذ كلاهما يضرب عن الدين صفحاً وينكر تأثيره، بينما جسد العلمانيون الليبراليون في السابق صورة طبق الأصل من ما أسميناه اليوم (العلمانيين التحرريين) وممكن المفارقة الأدق هنا هو أن العلمانيين القوميين ظلوا يتحصنون بموقف وسط، شبيه تماماً بأولئك الذين وصفناهم بأنهم يقفون اليوم موقفاً يتجاوب بين هؤلاء وأولئك.
العلمانيون وتجارب الحكم في البلدان العربية:
مما لا ريب فيه أن العلمانيين على اختلاف تصنيفاتهم ظلوا مسئولين مسئولية ظاهرة عن سيرورة عجلة السياسة والحكم في البلدان الشرق أوسطية عقب خروج المستعمر، الذي ورثوا تقاليد حكمه فبدلوا فيها شيئاً ما، غير أنهم اتفقوا على إقصاء الدين من الحياة السياسية لقد فعل ذلك علمانيون البعث في العراق وسوريا، كما فعله من بعد الماركسيون في السودان والعراق، وتبعهم القوميون الاشتراكيون في مصر وليبيا، والجزائر والسودان، بينما التزم العلمانيون ذوي العلاقة الخاصة بمراكز الاستعمار، بذات النهج الذي أورثهم إياه المستعمر (لبنان وتونس)، في ذات الوقت الذي بقيت فيه الأنظمة الملكية على محافظتها في تبني تقاليدها الإسلامية العربية، متحملة في ذلك وصمها بالرجعية من تلقاء نخب العلمانيين في البلدان التي مررنا على ذكرها، وبالرغم من أن النظم العلمانية التي حكمت البلدان العربية منذ منتصف أربعينيات القرن الماضي، قد كانت على ثقة من أن الإسلام والعربية هما عماد الوجود العربي كله، فإن التخلص من الدين كان أولى خطوات الحكم لديها، إذ أبقى البعثيون البواعث الثقافية العربية (أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة) بينما عمدوا إلى إقصاء الدين تماماً، ولم يتسن لهم أن يستبينوا خطل هذه المعالدة إلا بعد أن ترهلت أنظمة الحكم، كما حدث في العراق بعد حرب الخليج الثانية 1991م، حين عمد النظام البعث في آخر الأمر إلى تبني أطروحات الثقافة الإسلامية والزام كل موظفي الدولة باستظهارها، ومثل ما حدث في سوريا بعد وفاة الرئيس حافظ الأسد من توجه نحو تبني كثير من المظاهر الإسلامية.. أما مصر – وبكل تأثيرها وثقل وزنها في المنطقة العربية وثقافاتها – فقد ظلت نموذجاً تاريخياً لمألات إغفال أهمية العامل الديني في بناء مجتمعات، وهو ما أبرزته مجلة Newsweek قبل ثلاثة سنوات حين أجرت استطلاعاً خلصت منه إلى أن الشعب المصي هو أكثر الشعوب أهتماماً بالدين بين شعور العالم قاطبة.. غير أن هذه الحقيقة غابت – وأتوارت – عن أعين الحاكمين على مر تاريخ مصر الحديث.. "فجمال عبد الناصر" – كان قد رتب قبل الثورة عام 1953م، لتحالف مع الإخوان المسلمين لم يصبر عليه بعد نجاح الثورة، بل مضى في سباق مع الزمن لقطع شأفة الدين، والعصف بحلفاء الأمس من الإخوان.. ثم عن للرئيس "أنور السادات" من بعده أن يستميل التيار الديني المصري (الإخوان والأقباط) بعد أن نجح في إزالة مراكز القوى الناصرية، غير أن "السادات" نفسه لم يصبر على توافقه الهش ليطلق عبارته الشهيرة (السياسية في الدين ولا دين في السياسة) ليكون ذلك سبباً في انهيار عرشه تحت وابل من الرصاص الثائر على أيدي من يدعون بالحاكمية لله.. وقد كان بإمكان الرئيس "حسني مبارك" أن يستفيد من دروس الذين سبقوه.. غير أنه قضى فترة رئاسته لمصر وكان لا شاغل له غير مناواة الإسلاميين برغم من استدراكه في أخريات أيامه، ومحاولته منحهم نصيباً ضئيلاً من الحرية لم يستطع أن يصبر هو أيضاً عليه، ليكون الشباب الإسلاميين هم مشعل فتيل الثورة، بمظاهراتهم واعتصاماتهم حتى قبل اندلاع فتيل الثورة في تونس أم الربيع العربي.
العلمانيون والربيع العربي:
مما سبق، يتضح أنه وبرغم غضبة الشارع بكل طوائفه، خلال اثورات الربيع العربي، فإن إسهام التيار العلماني كان أقل مما هو متوقع، وكأنما كان لدى التيار تخوف من سيطرة التيار الإسلامي على مجريات الأحداث – ثم على الحكم – في ما لو أفلحت الانتفاضات في إزاحة النظم الحاكمة.. يقول الكاتب رائد شما (مع الأسف فإن مشاركة القوى اليسارية لم تكن على مستوى الحراك في الربيع العربي بل اقتصرت على مساهمات فردية نتيجة لضعف هذه القوى وعدم تواصلها مع الشارع، وربما نستطيع أن نربط ذلك بعامل الدعم المالي القادم من الخليج.. للإسلاميين الذي ساعدهم على بناء قاعدتهم الجماهيرية الكبيرة.. إضافة إلى أن قاعدتهم هي في الأغلب من البسطاء والفقراء من الذين يجدون في الدين ملاذهم الأخير، وهم – أي الفقراء – يشكرون – بسبب ضعف الطبقة الوسطى – الأغلبية الساحقة في الدول التي تشهد ثورات).
والحق أننا – سلمنا برؤية الكاتب في مسالة الدعم الخليجي أم لم نسلم – فلا يمكننا إغفال حقيقة سيطرة الطبقات المحرومة على الشارع خلال تلك الانتفاضات، وهي طبقات تتباعد المسافة بينها وبين التيارات العلمانية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.