{ مثله يرحل في عز الصيف، وشتاء الوطن المعذب بقروح الكبد، وقد بسط الحزن ذراعيه من الجبل إلى السهل ومن باسقات النخيل إلى حبات الذرة.. تبكي الباكيات على فقد ذرفت له دموع الرجال وفاضت جداول.. وما كنّا نحسب أن العيون بعد فواجع طائرة تلودي قد استبقت شيئاً في المقل.. ورحيل (الصادق) الأمير الوزير قد جدد أحزان (أبت) الرحيل، ومواجع تشيخ لها رؤوس الشباب!1 { الموت يحفر في نفوسنا ندوباً، وقد خطفت المنية ليل الاثنين باستانبول العاصمة التركية الأمير "عبد الرحمن كمبال آدم" الشهير ب(الصادق)، الموسوم بالتواضع والتقوى والنبل واكتمال المروة والشهامة ورقة الإحساس وفيض الخاطر.. والأمير الذي ودعته بالأمس بمقابر الصحافة العيون الدامعة والقلوب الواجفة والشفاه اليابسة.. خرج الأمير "كمبال" إلى الدنيا من (بيت) ولا أي بيت، خرج من صلب قبيلة أولاد "حميد" ومن شجرة "راضي كمبال" التي ظللت من لا ظل له.. وكست العاري، وأطعمت المسكين لوجه الله.. وكتبت شجرة "راضي كمبال" مواثيق التعايش مع الشلك في أعالي النيل، وتحت كنف مملكة تقلي نسج أولاد "حميد" المودة مع الآخرين مائة عام والقبيلة لم تلوث أياديها بالولوغ في حرب مع جار أو قتل (غريب) استجار بظلها أو شريك الماء والكلأ.. وفي حضن التسامح والشجاعة حين البأس ولد "عبد الرحمن كمبال" وارتقى لمرتبة أمير القبيلة، وكسر قيد الطائفية، وصعد لقمة السلطة الطبيعية في المجتمع كأول إسلامي ينال مرتبة زعيم قبيلة.. لم تضف السلطة ل"عبد الرحمن كمبال" إلا حب الناس وعفة اليد وطهر السيرة.. مات غنياً في نفسه لم يشيد عمارة، ولم يسرق وزارة أو ينهب ولاية.. خرج من الدنيا نظيفاً عفيفاً.. صادقاً مع نفسه والآخرين؛ لتبكيه كردفان ودارفور وبحر أبيض والخرطوم والشمالية.. وفي وداعه الأخير كان إخوان الصفا الأوفياء في عيونهم دمع تحجر، وفي نفوسهم حزن تبعثر، وفي قلوبهم حب ل(الصادق) "كمبال"، كما كان (يُكنّى). { صرخت أبو جبيهة وشهقت في لحظة واحدة و"كمبال" يغادر الدنيا في أرض (الترك)، والمنية تخطف شمساً أخرى في نهاراتنا رجل الأعمال "عابدين أبو زلازل".. وعن "عابدين" الحديث موجع، وأيام السجن ظلام، نعود إليها إن كان في العمر بقية.. ولكن الصادق "كمبال" كان: { الزعيم ابن الزعيم أخ الزعيم ما كان يوماً متزعماً. { كم أبليت إذا أبليت وما رميت إذ رميت ولكن الإله رمى. { وكم أغنيت ذوي الحاجات من كل جانب وجائعاً بات معدما. { مات "عبد الرحمن كمبال آدم" ودموع الرجال كالمزن في (الهملان)، والموت يحصد كل يوم من وطننا الأخيار.. تغرب شموسنا في عز النهار وتموت أزهار الخريف ولا يبقى إلا المنتظرون لحظة أن يزف الوادع. { كان "غريق كمبال" بالأمس غارقاً في أحزانه ودموعه، وكان "حسن السيد" جزعاً من هول الدنيا وتصاريف الزمان، والأقدار تخطف الأخيار.. كانت خيمة عزاء رحيل "كمبال" في حي جبرة بالخرطوم، وخيمة رحيل "كمبال" في قلب أبو جبيهة، وخيمة رحيل "كمبال" في مضارب العرب الرحل، وخيمة رحيله بولاية جنوب كردفان قد حار حاملها أين تُنصب بعد أن تكالب الموت على الرجال الرجال لا الرجال النياق.. والقلوب منزوعة الطمأنينة والمؤامرة على الوطن، تختبئ بين الحجر والشجر.. وأهل المصلحة كما دعاهم الرئيس في هم وغم ونكد، وقد ترجل من ترجل، و(الصادق) ليس آخرهم، ولكن مثل "كمبال" يرحل بغتة كالجواهر الثمينة.. ومثل "كمبال" تبكيه الجوامع والمدارس ومضارب الرحل وتبكيه بنوت هضاليم، مثلهن في البندر قليل!!