في المساء المتأخر، أو في الصباح الباكر .. تتحول شوارع الخرطوم إلى كائن وديع، لا يشبه ذلك الوحش المزدحم بالعدوانية .. أثناء ساعات النهار . زحام المدن، ظاهرة ليست سودانية، فالقاهرة وأبوظبي والرياض وكل عواصم الدنيا تزدحم بحركة السير نهارا، بل وبعضها يزدحم بالحركة ليل نهار دون أن يكون هناك فترة للهدنة، لكن الخرطوم تمتاز على الآخرين بأن الزحف المروري فيها يبلغ حد الشلل الكامل، للدرجة التي يمكن أن يقضي الفرد المسجون في سيارته أو حافلته .. نهاره كاملا وهو زاحف في شارع المك نمر، أو حتى شارع السيد عبد الرحمن رغم اتجاهه الواحد ! لا نريد الحديث عن الحلول العبقرية لهذا التكدس للشلل المروري، فقد بحّت أصواتنا وأصوات غيرنا ونحن نفرد المساحات لعلاج الظاهرة، كما لا نريد أن نكرر النواح على الأموال التي تهدر لحل الإشكالية .. وكلها حلول لا تجرؤ على تتبع خطى التجارب الأخرى، سواء أكانت عربية أم عالمية، وفشلت رغم الوجود الميداني لرجالات المرور، ورغم الجهد البشري المضني الذي نراه من أفرادهم بل وضباطهم .. لمعالجة الجلطات التي تقفل الانسيابية في شوارعنا، وتهدد المرور كله بالموت في عاصمة البلاد . ما نود التركيز عليه، هو أن عامل الوقت يتم نحره في شوارعنا كل نهار، فالحركة تلتهم الساعات من المتحركين بالمواصلات العامة أو المركبات الخاصة، وهي ساعات ثمينة إذا كنا من المتحمسين المقتنعين بمقولة إن الوقت من ذهب، لكن الوقت كما نراه واقعيا في شوارعنا، هو من الخردة التي لا تقترب من الذهب، ولا تمت له بصلة من قريب أو بعيد ! المصيبة، أن الوقت يتم إهداره داخل المركبات، دون أن تكون هناك حلول استثمارية له، لكي يمكن الاستفادة منه دون أن يتبخر .. مثلما تبخر بترول السودان بعد انفصال الجنوب ! وحتى بعض الحلول التي يمكن بها كسر الوقت، والاستفادة من التقنيات الحديثة لإدارة العمل أو متابعته من البعد، قد تجر إلى مصائب إضافية، فالزاحفون مثلا كان بإمكانهم استعمال موبايلاتهم في تخفيف الغياب القسري عن وقت الحضور، لكن من يحاول ذلك من أصحاب السيارات الخاصة، سيجد عسكري المرور له بالمرصاد لتسجيل مخالفة بسب استعمال الموبايل، ليصبح الهدر هدرا ماليا .. إلى جانب الهدر الزمني الذي لا يدخل في حسابات الحكومة والسلطات المحلية . أحد معارفي قال إنه كان يقود سيارته ذات يوم في شارع محتقن بالجلطات (!!)، ولأن جهاز التكييف لا يعمل في السيارة، فقد أحس بالضيق، وأراد أن يخفف عن نفسه بفك الحزام قليلا، والتمطي يمينا وشمالا على راحته، حيث تيبست مفاصله من الزحف، فإذا بعسكري مرور يكاد يسجل له مخالفة مرورية بسبب الحزام المفكوك، لولا تفهم جميل للدواعي .. منع من إصابة صاحبنا بالسكتة الدماغية غيظا ! أظن أن الاختناق المروري زاد من مساحات الاستماع للإذاعات، فهي من الوسائل الجيدة بل والمفيدة في استثمار الوقت، ولو بمتعة الاستماع، كما أن بإمكان السائقين ومرافقيهم التثاقف والتعرف على البضائع المعروضة من الباعة الجائلين، والذين يعرفون سوقهم جيدا في الشوارع المشلولة مروريا. الشوارع تلتقط أنفاسها في الليل المتأخر، والصباح الباكر، وهذا ما يقيها حتى الآن من الموت اختناقا . الحمد لله .