في مدخل القاعة الكبرى باتحاد أصحاب العمل استقبلتني الزميلة "حياة حميدة" الصحفية المبدئية الأصيلة، وبعد السلام والمجاملة الرقيقة قالت ضاحكة: (أهو داك صاحبك محمد حسنين هيكل).. و"حياة" هي زوجة "هيكل" و"هيكل" الذي عنته هو زميلنا "حسن محمد صالح" وهو صحفي من طراز خاص لم تقهره المؤامرات ولا التهميش ولا الخذلان، فبقي على أصالة معدنه وصفاء قلبه وثبات على المبادئ المهنية والفكرية مثل الشجرة أصلها ثابت وفرعها في السماء وإن ماتت فهي تموت واقفة.. هناك بإدارة الإعلام بجامعة الخرطوم يُعمْل "حسن" فكره وجهده وعصارة تجاربه وخبرته لأجل إعلام مسؤول وفاعل في خدمة المجتمع.. المناسبة كانت تدشين كتابه (وقائع الثورة الليبية) وقد كانت استفتاءً حقيقياً لحب الناس له.. رفيقة دربه "حياة" كانت نحلة تطير بجناحي الفرح متنقلة بين الضيوف توزع ابتساماتها مرحبة، وقد أضفت على المناسبة جواً أريحياً بقفشات خفيفة الظل. في النصف الثاني من العام 1984 دلفنا إلى السنة الأولى صحافة وإعلام بجامعة أمدرمان الإسلامية، كنا (برارمة) نتلمّس طريق النضج الفكري.. ونحن في غمرة الانبهار بالعتبة الجامعة تلقفنا زملاء (سناير) سبقونا إلى الجامعة بعامين أو أكثر، كان من بين أولئك "حسن محمد صالح"، و"محمد حاتم سليمان"، و"محمد معشي حامد".. كان ثلاثتهم قد تزودوا بعُدة التجنيد ولم تكن عُدةً محسوسةً كما قد يتبادر إلى ذهن البعض، بل كانت عُدة قوامها شيء من أدوات الحُجة والمنطق والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة.. تلك أيام مضت كان للفكرة حينها ألقها وصدقها، كانت ثوباً أبيضاً لم يمسُّه شيء من دنس النفاق. في وسط منصة التدشين الرئيسية جلس "عثمان البشير الكباشي" وزير الأوقاف السابق بولاية الخرطوم، وعلى يساره البروفيسور "عبد الله علي إبراهيم"، وعلى يمينه الدكتور "نصر الدين رجب رحومة" وهو ثائر ليبي من مصراتة جاء برفقة آخر خصيصاً لهذا الحدث، وعلى ذات المنصة جلس أيضاً البروفيسور "محمد محجوب هارون" والأستاذ "حسين خوجلي"، والدكتور "خالد التيجاني"؛ تحدثوا جميعاً منقبين في الكتاب ومثمنين الجهد الذي بذله مؤلفه بين ثناياه.. "هارون" وصف المؤلف بشيخ العرب، فالزميل "حسن" كباشي أصيل يحمل جينات الكرم والشجاعة والنباهة.. (كباشية) زميلنا "حسن" كانت مدخلاً ذكياً لتقديم البروف "عبد الله علي إبراهيم"، فقد ذكر السفير "إبراهيم البشير الكباشي" أنه في العام 1966 وهم صغار في المرحلة الوسطى جاء رهط من الأفندية في عربة لاندروفر وقد تدافعنا لنرى من هم أولئك النفر وقد كان من بينهم البروف "عبد الله علي إبراهيم" جاءوا إلى بادية الكبابيش، ولم أره منذ ذلك التاريخ إلا في هذا المساء.. لقد كان البروف "عبد الله" في مهمة بحثية تتعلق برسالته للماجستير التي تناولت قبيلة الكبابيش العريقة.. بتواضع العلماء قال البروف إنه لم يكن مؤرخاً بقدر ما كان المؤرخون الحقيقيون هم رجالات قبيلة الكبابيش الذين جلس إليهم مرات عديدة يحدثونه عن القبيلة.. "عبد الله" فوجئ بهذا المدخل الذي أهاج في نفسه ذكريات حبيبة إلى قلبه فقال وقد تملكته مشاعر أعادت رسم تعابير وجهه: (تلك الأيام تستقطر من عيني ماءً).. البروف صاحب الميول اليسارية بدا في تلك الليلة (صوفياً) أو إن شئتم (إسلامياً)؛ فقد وقف كثيراً عند مفردة (المدفع الألهي) التي تضمنها الكتاب، مشيراً إلى أن (المدفع الإلهي) هو التهليل والتكبير الذي تحصن به الثوار وهم يواجهون ترسانة "القذافي" وكتائبه.. أيضا تحدث البروف عن الشعارات الثورية، مبيناً أن شعار ثوار ليبيا كان شعاراً مقدساً وهو (ما لينا غيرك يا الله).. البروف الذي أبان أنه شديد الاعتزاز بالكتاب تمنى لو أن الجزء الذي تضمن لقاءً عابراً مع الشاب "عمران شعبان" وهو الذي اعتقل "القذافي" بشجاعة نادرة؛ ألا يكون مختصراً وأعتبر تلك الجزئية أهم ما تضمنه الكتاب.. الزميل "حسن" عقب شاكراً الحضور طالباً إعانته على التجويد بالنقد البنّاء.. زملاءٌ كُثر لبّوا دعوة شيخ العرب فضلاً عن رموز سياسية ودينية وتنفيذية نذكر منهم، معتمد الخرطوم، ووزير الدولة بالداخلية، و"قطبي المهدي"، والشيخ "الجيلي الكباشي"، والفريق "العادل العاجب" نائب مدير عام الشرطة، أما وزير الخارجية "علي كرتي" فقد بعث ببرقية رقيقة هنأ فيها المؤلف معبراً عن أسفه لعدم تمكنه من الحضور لكونه في مهمة خارجية. آخر الكلام: إذا رغبت أن يدوم حُبك فأحسن أدبك.. "أفلاطون".