أجتاحتني وعكة صحية طاب لها المقام بين الشريان والوريد لتختبر طاقتي على الصبر وتقبّل الإبتلاءات، فأجبرني طول إستضافتها على التقصير في أحد التكاليف الحبيبة إلى نفسي وهي عادتي في مداهمة مدرسة العيال بين الحين والآخر، خاصة بعد إنتهاء العام الدراسي دون أن أتمكن من زيارة المدرسة للإطمئنان على استتباب الأمن، قبل شروع المؤسسات التعليمية في (هري) طلابها بالإمتحانات .. كثيرا ما أقارن بين حوجتنا كاولياء أمور للمواظبة على الزيارات التفقدية لمدارس الأبناء، لمعرفة مقررات الحفظ وأختها المبزولة فرحة للشارحين (غالبا ما لا تتمكن المدارس من تغطية مقرر القران الكريم وتكتفي بتلاوة وشرح بقية السور) .. وبين الحال أيام كنّا (في بت أم رويحاتنا) طلاب، حيث لم نكن (نحبذ) لا نحن ولا معلمونا ولا أهالينا ذات نفسيهم، أن يعتّب أحد أولياء أمورنا باب المدرسة إلا لشديد قوي، كأن يكون الطالب منا قد إغترف ذنبا يستوجب ان يشهد عقابه طائفة من الأولين والآخرين .. تذكرت تلك المقارنة بالأمس عندما كانت ابنتي البكر تحدثني بإنفعال وسعادة عن استعداداتهم لامتحانات مرحلة الاساس، فقد أنزرتني بضرورة أن (أشد حيلي) واستعد لمرافقتها يوميا لمركز الامتحانات وانتظارها ب (العصير) بعد انتهائها من الجلسات !! كما أخبرهم مشرف الفصل الذي حكى لهم عن تصرفات الأمهات مع بناتهن الممتحنات في السنوات الماضية .. والله ياهو !! أضحكتني المقارنة بين ما تطالبني به ابنتي وبين ما كان من أمري عندما جلست لامتحان الشهادة الابتدائية، فرغم أن مدرستي كانت فركة كعب من البيت، إلا أن مركز الامتحانات كان في مدرسة الحارة المجاورة، وكان المشوار إليها لمن هم في هزالي ودقة حجمي يستغرق قرابة الساعة من المشي الحثيث، وصادفت الامتحانات غياب والديي اللذين كانا يؤديان فريضة الحج وتركونا في رعاية عمتي .. لم تكن حالة كون إني (ممتحنة) لتشكل فارقا في روتين الحياة اليومية في البيت، ولا تحتاج لأن يعلن بموجبها قانون الطواري الذي يبيح للممتحن حرمان أهل البيت من الفرجة على التلفزيون أو حتى أن يطالب بخفض صوت الراديو البلعلع .. قد يستغرب جيل اليوم كلامي وقد يظن بعضهم انني كنت اعاني من التهميش والطفولة المشردة ! اطلاقا .. فقد كان هذا فقة سائر أهل البلد في التعاطي مع موسم الامتحانات، فكل ما كنا نطمح إليه كممتحنين أن نعفى من الواجبات المنزلية وان تتاح لنا فرصة المطربة انغام لنختلي بكتبنا (في الركن البعيد الهادي) .. حكيت لابنتي كيف تآمر طول المشوار لمركز الامتحانات مع أشعة شمس الصيف اللاهب التي تضرب نافوخي رايح جاي، على اصابتي بالحمى والتهاب اللوز قبل نهاية الامتحانات، فكنت اسهر الليل محمومة (أهدهد) وقد جردتني عمتي (زينب) من المحيط والمخيط و(مشكتني) بخلطة مسحوق القرض والشاي الحب والملح المعجونة بزيت السمسم، فكنت استيقظ في الصباح الباكر وانفض عن كاهلي بقايا السهراجة و(احت) القرض جيدا، قبل أن أدرع جلباب المدرسة وانطلق في طريقي لا ألوي على شي .. تقول لي مزازاة أمهات بالضللة وشيل عصاير ؟! الغريبة أن والدي أصر على تقديم مواعيد رحلة العودة دون أن يفصح لوالدتي عن السبب في استعجاله بعد انتهاء مراسم الحج، وقبل أن ينجلي سواد ليلتي الثالثة مع الحمى عاد والديي .. فتحت عيني من النوم لاجد أبي يقف فوق رأسي ويسأل في اشفاق: (الفويلحونة دي مالا ؟) قفزت إلى صدره فرحة وقد زال البي .. لوّثت جلبابه الابيض بالقرض وأنا أجلس على حجره ليحكي للجميع أنه كان يغفو بعد الصلاة فجاءه هاتف بأن (قوم .. منى محمومة) !! اذن لم يكن الأمر جفوة أو تقصير من آباءنا وأمهاتنا ولكنها سياستهم في تربية الابناء على الشدة والبعد عن الرخاوة لكي ينشأوا أسوياء أقوياء قادرين على تحمل امانة الاستخلاف والتكليف. لطائف - صحيفة حكايات [email protected]