فزت بوظيفة مدرس لغة إنجليزية في المرحلة الثانوية، بعد ساعات من انتهاء آخر امتحان لي في السنة النهائية في الجامعة، وقبل صدور النتائج بوقت طويل، وكنت قد أحرزت مرتبة الشرف في الإنجليزية ولكنني كنت متلهفا لدخول الحياة العملية وبالتالي لم أفكر في البقاء في الجامعة لمتابعة الدراسات العليا، وبما انني صرت موظفا ومعلما في شهر مارس أي مع نهاية العام الدراسي، فقد تقاضيت راتب 3 أشهر بالأوانطة في انتظار فتح المدارس في يوليو، وكان أول ما فكرت فيه مع تسلم أول راتب، التخلص من ملابس المرحلة الجامعية، فلم تكن بينها قطعة واحدة تصلح للحياة العملية، وكان بالخرطوم وقتها محلات تجارية في السوق الإفرنجي لا يفكر أمثالي حتى بمجرد المرور أمامها، وكان حلم حياتي شراء حذاء من متجر اسمه بون مارشيه، وبعد ان تسلمت الراتب الأول دخلت ذلك المتجر، ورأيت فيه أحذية من النوع الذي تستطيع أن ترى انعكاس وجهك على سطح جلودها الناعمة، ولم \"يعبرني\" أي من البائعين في المتجر فقد كان شكلي يوحي بأنني في \"المحل الغلط\"، وكان أرخص حذاء بنحو 15 جنيها أي ثلث راتبي البالغ 45 جنيها، فخرجت منه مكسور الخاطر، وقلت في سري: صبرا يا بون مارشيه فإن موعدنا الدرجة دي إس.. كان الخريج الجامعي الطازة يبدأ السلم الوظيفي باسكيل (الدرجة) كيو، وتليها الدرجة دي إس، ثم اسكيل بي، وكان علي قضاء 4 سنوات في الدرجة كيو، حتى انال الترقية، وبالتالي تأجل شراء الحذاء الراقي 4 سنوات، وعندما نلت الترقية كان المتجر قد أغلق أبوابه، فقد أصيب الرئيس السوداني في تلك الحقبة المشير جعفر نميري بلوثة اشتراكية غير حميدة، جعلته يؤمم ويصادر البنوك والشركات المملوكة للأجانب وكان بمدن السودان المختلفة عدد كبير من الإغريق والسوريين والأرمن والهنود واليهود، فهربوا بما خف حمله وغلا ثمنه، فما كان من نميري إلا ان صادر ممتلكات بعض السودانيين، وشملت المصادرات الاشتراكية مخبز بابا كوستا وبار كوبا كبانا!! كان أكثر ما تاقت إليه نفسي أن أخفف الأعباء التي ظل شقيقي عابدين يتحملها، فقد قطع دراسته وصار كل همه أن نكمل أنا وشقيقي الأصغر محجوب دراستنا،.. كان والدي ميسور الحال حينا من الدهر، ويملك اكثر من مطعم في سوق كوستي ثم أصيب بجلطة سببت له شللا جزئيا، جعله يعجز عن إدارة المطاعم التي تقلصت الى مطعم واحد، فالتحق عابدين بإدارة النقل النهري في وظيفة كاتب.. ولعابدين هذا حكاية عجيبة فرغم أنه يكبرني \"مباشرة\" فإنني عشت سنوات طويلة وأنا لا أعرف أن لي شقيقا اسمه عابدين، فحتى إكمالي المرحلة المتوسطة في البرقيق في شمال السودان، وانتقالي مع العائلة الى كوستي في أواسط السودان، كنت أعرف فقط شقيقي الذي يكبرني مباشرة، عبد الحفيظ، وفوجئت بأن أهل كوستي ينادون عبد الحفيظ الذي أعرفه \"عابدين\".. هي فوضى وللا سايبة تسموا الناس على كيفكم؟ اتضح ان الداية ولسبب ما قررت تجاهل اسم عبد الحفيظ الذي اختاره والدي له، واستبدلته في السجلات الرسمية ب\"عابدين\"، ولم يعرف صاحب الاسم نفسه بالأمر إلا عند التحاقه بالمدرسة المتوسطة عندما حمل معه شهادة ميلاده واتضح ان اسمه الرسمي هو عابدين التفسير الوحيد لتصرف الداية هو أنها لم تفهم من والدي ما هو الاسم الذي يريده لولده ذاك، فبسبب عجمة لسانه النوبي أرجح أنه قال لها إنه يريد ان يسميه: أبد الهفيس أو الهفيد، فلا مكان لحرفي العين والظاء في اللغة النوبية، وكان لفظ عبد الحفيظ بالفعل ثقيلا على ألسنة أهلنا فكانوا ينادونه \"أبدو\" أي \"عبده/ عبدو\".. وصار بقرار من الداية \"آبدين\" وطالما هو من جزيرة بدين... ماشي. أخبار الخليج - زاوية غائمة [email protected]