كنت عند نهاية كل شهر أتوجه الى وزارة التربية والتعليم لأتقاضى راتبي الشهري، ناقصا علاوة غلاء المعيشة، شأني شأن كل معتقل ما زال في السجن أو معتقل سابق، وكنت مستمتعا بالبطالة المجزية، لأنني تفرغت تماما للقراءة في غرفتي البائسة في عمارة في سوق الخرطوم بحري الجديد، وتعرضت في أكثر من مرة ل\"كمين\" من الأستاذين عبدالفتاح أحمد عيسى وحمزة مدثر اللذين كانا وقتها في إدارة التعليم الثانوي بالوزارة، وكانا يريدان مني المثول أمام مجلس التأديب حسب توجيهات الحكومة لينتهي الأمر بكتابة المعتقل المفرج عنه تعهدا بعدم ممارسة أي نشاط معارض للحكومة ويعاد الى الخدمة، (أو يفصل، في حالة السياسيين المحترفين)، وكنت أزوغ من الكمين تارة متعللا بأنني \"مشغول\"، وتارة بأنني أخضع للعلاج، كنت أعرف أن قلب أساتذتي شاغلي المناصب العليا في الوزارة علي، ويريدون لي العودة الى العمل، ولكن وعندما \"زنقوني\" ذات مرة قلت لهم: شوفوا يا جماعة.. أنا عايش مبسوط وأقبض راتبي الشهري ناقصا نحو خمسة جنيهات من دون أن أفارق غرفتي، فلماذا \"أغلِّب نفسي وحالي\" وأعود الى العمل، بينما التنقل من والى المدرسة التي س\"تدبسوني\" فيها سيكلفني أكثر من خمس جنيهات شهريا،.. وذات يوم جاءني من يبلغني ان مدير عام الوزارة الأستاذ دهب عبدالجابر يريد مقابلتي، فأدركت أنني رحت فيها، ليس فقط لأن دهب كان تربويا وإداريا مهابا ومحبوبا، ولكن لأنه أيضا \"من أندنا\" أي نوبي، وكانت تربطني به مودة، وكنا رغم فارق السن نأنس بصحبة بعضنا البعض، فأزوره في بيته الحكومي قرب حديقة اركويت في الخرطوم بحري. لم يكن أمامي من خيار سوى التوجه الى الوزارة لمقابلة الأستاذ دهب الذي ما أن رآني أدخل عليه حتى صاح ضاحكا: أهلا بالمناضل الطفيلي.. كان يقصد انني دخلت السجن كمعارض لحكومة جعفر نميري ثم صرت أتحايل لرفض استئناف العمل لأنني أتقاضى راتبي الأساسي كاملا!! شعرت بالخجل وقلت له إن كتابة التعهد بعدم معارضة الحكومة فيه إهانة وإذلال.. وكنت صادقا في ذلك، ولكنه قاطعني: خلاص عملنا ليك مجلس التأديب ووقعنا التعهد نيابة عنك.. وهذا ما حدث بالضبط، فقد فبرك الجماعة في إدارة التعليم الثانوي مجلس تأديب في غيابي وسجلوا محضرا ثم وقعوا نيابة عني عليه وعلى التعهد.. ولما قلت له إن شرطي الوحيد هو العمل في مدارس الخرطوم، قال لي دهب عبدالجابر إنني سأعمل كمدرس جوكر، وشرح لي مقصده: هناك نقص في مدرسي اللغة الإنجليزية وبالتالي تشهد العديد من المدارس إضرابات عن الدراسة واضطرابات طلابية، وحيثما حدث ذلك يتم نقلي الى واحدة من تلك المدارس الى حين الحصول على مدرس ثابت وأنتقل أنا إلى مدرسة أخرى وبعد استقرار الأوضاع يتم نقلي الى مدرسة الخرطوم بحري الثانوية الحكومية.. وخلال شهرين كنت قد علمت في 3 مدارس ثانوية، كانت آخرها مدرسة خاصة تدعمها وزارة التربية بمعلمين في المواد الأساسية ولكنها كانت هايصه ولايصه ولا علاقة لها بالتدريس او التربية، وعدت الى دهب، وقلت له إن السجن أحب إليّ من البقاء في تلك المدرسة، فكان ان حولني الى مدرسة التجارة الثانوية الملاصقة لوزارة التربية كي أكون \"تحت عينه\" على حد تعبيره، ليستدعيني للعب دور الجوكر متى ما تطلب الأمر ذلك، وقضيت في تلك المدرسة عاما دراسيا ممتعا، لأنها كانت من المدارس العريقة وبها طلاب منضبطون ومجتهدون معظمهم من الأرياف، وبحكم انها مدرسة متخصصة في العلوم التجارية والمحاسبة إلخ، فقد وجدت فيها مدرسين أمضوا فيها ثلاثين سنة متصلة، ولكن العمل في تلك المدرسة كاد ان يعيدني الى السجن مرة أخرى لولا أن أستاذي دهب استخدمني كجوكر لإخراجي منها قبل أن يكمشني جماعة الأمن. أخبار الخليج - زاوية غائمة [email protected]