كثير من الحكم والأمثال تزيّن الصمت ودلالاته على أنّه من الصفات الحميدة التي يجب أن يسعى الإنسان للتحلي بها، وهناك من الأقوال ما يجعل التزام الصمت نوعا من الحكمة والرزانة مدعمة بأدلة فلسفية وأقوال كثيرة. وما جاء من توجيه في قوله صلى الله عليه وسلّم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت›› يدعونا إلى عقد موازنة بين الأمرين أيهما أصلح وفي أي ظروف يتم، كما أنّ ذمّ الصمت جاء في مجال السكوت عن الحقّ فقد أورده أهل العلم في أكثر من مصدر، وذلك كما جاء في مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية: «من سكت عن الحقّ فهو شيطان أخرس». في محاولة ابتكار أشكال كتابية ناطقة، يحاول مستخدمو وسائل التواصل الاجتماعي تسليط الضوء على كتاباتهم من خلال تكثيفها، واختصارها ويساعدهم في ذلك المساحة المحدودة في مثل موقع التواصل الشهير تويتر. وإن كان الغرض فيما يُسمّى تغريدا هو المختصر المفيد فإنّ مستخدميه يحوّلونه بالمشاحنات والعنف اللفظي إلى شيءٍ أشبه بصليل السيوف لا زقزقة العصافير. لم تستثنِ هذه المساحات بعض صنّاع القرار والشخصيات العامة، فتجد صفحاتهم صدى كبيرا عند متابعيهم، وكثير منهم ينكشف حالهم برصد سقطاتهم في هنّات التغريد والتدوين. وفي حين يتعامل الناس مع الشخصية العامة قبل تقديمه نفسه وتواصله مع جمهوره، بحياد تام، لأنّهم يتعاملون معه على أساس الرصد المحايد الذي ينتهجه فإنّه يتم نقل عباراته كما يريد تقديمها، ويساعده على ذلك الطلّة الخفيفة والظهور الموسمي. في هذا الزمن السريع والمكثّف معا الذي يتم فيه تدوين كلّ شيء، الغثّ والسمين، يُعتبر اختصار عدد الكلمات مُعقِّدا للمهمة وفاردا المساحة للعبارات حمّالة الأوجه، ولاستنطاق هذه الكلمات القليلة فإنّ البعض يقوم بتزويدها بأشكال تعبيرية توضّح الحالة النفسية للمدوّن وتترجم إيحاءاته. ثم جاءت مرحلة كتابة الخواطر والنكات القصيرة الذكية منها والسمجة. ولا يفوتنا تركيز البعض على أنّ أغلب التدوينات والتغريدات توحي فقط بما تريد قوله ولا تجرؤ على الإفصاح، إمّا خوفا من الرقيب أو إمعانا في الغموض. استطاعت هذه المواقع أن تفتح نافذة تفاعلية بين المتداخلين القرّاء والصحفيين والكتاب والعابرين. هذا التطور انفتح على ساحة حاسمة ومؤثرة في مسار التفاعل الذي ما بات اجتماعيا فقط وإنّما كلّ يوظفه حسب حاجته وأولوياته في محيط جماعته، وبذا تحول المتابع العادي إلى مساهم أساسي في التخطيط والاختيار والتقييم، وهي حالة بالغة الأهمية للإسهامات الفكرية والإنسانية. ومن ينتبه للإفادة منها يكون بمقدوره التخطيط والقياس لتحقيق التوازن بهذا التفاعل. وهنا تظهر الحاجة للصمت النسبي، أي الكفّ عن بث الزَبَد والإبقاء على ما ينفع الناس. وقد يكون ما ينفع الناس هذا مجرد كلمات قليلة أو إيماءات معبّرة تصبح هي الملجأ البديل عن رغو الكلام، فهي لا تنفد ولكنها تحتاج إلى بصيرة نافذة تختار الأعمق. يكون الحثُّ دائما لطلب الصمت ولكن لا أحد يحثّ على كثرة الكلام، إذ لا ضرورة لذلك لأنّنا نقوم به على أكمل وجه. وها نحن نقول عبر الوسائل المتاحة في هذا العصر ما لم نقله في كل زمان، وبطوفان القول يكون قد تحقق الجزء المقابل لمقولة علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه: «إذا تمّ العقل نقص الكلام». نقلّب أوجه الصمت العديدة لنرى ما بين السطور في نصيحة لقمان لابنه:»يا بني إذا افتخر الناس بحسن كلامهم فافتخر أنت بحسن صمتك». وأخرى تضع النقاط على الحروف: «الصمت فنّ عظيم من فنون الكلام»، كما قال وليم هنريت. وقول آخر لجلاسكو: «لا بد أحيانا من لزوم الصمت ليسمعنا الآخرون». وبعد كل ذلك يجيء قول أبي العلاء المعري للمتحدثين ومستنطقي الكتابة والتدوين الذين لا يخطبون في جماهيرهم إلا بالتلويح بأداة ما والعبارة هي:»إذا قلت المحال رفعتُ صوتي، وإذا قلتُ اليقين أطلتُ همسي». الكاتبة : منى عبد الفتاح