بدأت في مطلع هذا الأسبوع بمباني محكمة العدل الدولية في لاهاي جلسات المرافعات الشفهية لدى محكمة التحكيم الدائمة لحسم النزاع بين حكومة السودان والحركة الشعبية حول حدود منطقة أبيي وحشد كل طرف كل ما من من شأنه أن يرجح دفوعاته لكسب الجولة الحاسمة بعد أن عجز الطرفان عن الخروج من نفق هذه القضية المعقدة التي أوصلت الطرفين إلى مشارف مهاوي ما قبل نيفاشا في مناسبات كثيرة والتحكيم مبدأ قديم عرفته المدن اليونانية بحيث كان لها مجلس دائم للتحكيم لفض المنازعات وفق ما جاء في موقع محكمة العدل الدولية الذي قال أيضا كانت الدول قديمًا تستعين بالتحكيم عند قيام نزاع معين، ثم تطورت الأمور فأصبحت تتفق مقدمًا، في معاهدات تبرمها لهذا الغرض، على الرجوع إلى التحكيم لدى اندلاع نزاع حول تفسير للمعاهدات أو تنفيذها، أو الحدود. والتحكيم الدولي، بشكله الحديث، ظهر بقضية السفينة ألاباما في 1872 التي اتهمت فيها الولاياتالمتحدة، بعد انتهاء الحرب الداخلية فيها، المملكة البريطانية بانتهاك قواعد الحياد والسماح ببناء سفن حربية في مرافئها لحساب الولاياتالمتحدةالأمريكيةالجنوبية المتمردة، ومنها سفينة ألاباما التي أنزلت أضرارا جسيمة بالولايات الشمالية، وطالبت واشنطن بتعويضات عن الخسائر واتفق الطرفان على عرض النزاع على التحكيم و كانت هيئة التحكيم مؤلفة من 5 أعضاء، ثلاثة منهم لا يحملون جنسية إحدى الدولتين وقد ألزم قرار التحكيم بريطانيا بدفع تعويض (15,5 مليون دولار) للولايات المتحدة وامتثلت بريطانيا للحكم نفذته وكان ذلك من المستجدات الايجابية التي استرعت انتباه المجتمع الدولي ودفعها للمضي قدما في هذه التجربة وتطويرها فكانت الخطوة الأولى والأهم في مؤتمر لاهاي للعام 1899 الذي تبنى اتفاقية حول تسوية المنازعات الدولية بالوسائل السلمية وكان الجزء الرابع منها المواد 15-57 مكرسًا لموضوع التحكيم، وفي مؤتمر لاهي الثاني للعام 1907 أدخلت تعديلات على اتفاقية التحكيم وبعد الحرب العالمية الأولى شهد التحكيم ازدهارًا عندما تبنت جمعية العصبة في 26/09/1928، الوثيقة العامة للتحكيم، وعندما اقدمت دول عديدة على عقد اتفاقيات ثنائية حول التحكيم وبعد الحرب العالمية الثانية أبدت الاممالمتحدة اهتماما أكبر بالأمر فأعادت الجمعية العامة في العام 1949، النظر في الوثيقة التي وضعتها العصبة، وكلفت لجنة القانون الدولي تدوين قانون التحكيم، وتقدمت اللجنة بمشروع اتفاقية في العام 1955، إلا أن الجمعية رفضت فكرة إصدار اتفاقية حول التحكيم لا حقا تقرر إنشاء محكمة التحكيم الدولية في مؤتمر لاهاي الأول وجعلت ولايتها اختيارية لأن الدول الأعضاء فضلت أن تبقى حرة في الاحتكام إلى أي هيئة أخرى تختارها ولم تكن هذه المحكمة مكونة من قضاة معينين ودائمين أي قضاة موجودين دائما في مقر المحكمة للنظر في المنازعات التي تعرض عليهم وإنما كانت هناك قائمة بأسماء عدد من الرجال القانونيين المشهورين تختارهم كل دولة عضو في الاتفاقية لمدة ست سنوات قابلة للتجديد بمعدل أربعة لكل دولة على الأكثر ومن هذه القائمة تختار الدول المتنازعة هيئة التحكيم التي تتألف من خمسة أعضاء و قد فصلت المحكمة التي تتخذ من قصر السلام في لاهاي مقرا لها حتى الآن في أكثر من (30) نزاعا في قضايا مختلفة ومن أبرز القضايا النزاعات الحدودية التي فصلت فيها. النزاع بين دولتي اليمن واريتريا حول جزر حنيش في البحر الأحمر التي أوصلتهما إلى المواجهات العسكرية وانتهت بعرضها على محكمة العدل الدولية التي حكمت لصالح اليمن عام 1998. الصراع الليبي التشادي على قطاع (اوزو )الواقع على الحدود بين الدولتين الذي تسبب في معارك مريرة لم توقف إلا بعرض المشكلة على طاولة محكمة العدل الدولية التي أعادت قطاع اوزو الذي يمتد 800 كلم ويبلغ عرضه 100 كلم إلى تشاد ومن أشهر القضايا الحدودية التي استطاعت المحكمة طيها بسلام التجاذب بين مصر وإسرائيل على شريط طابا وجاء الحكم لصالح مصر منهية الإدعاءات الإسرائيلية. والملاحظ هنا أن كل الأحكام التي أوردناها قد تم الالتزام بها من الأطراف غير أن ذلك لا يعني كل القرارات التي صدرت من وجدت القبول و لعل آخر الأحكام الخاصة بالقضايا الحدودية التي لازالت معلقة هي تلك المتعلقة بمناطق (زالامبيا، بادمي ، إيروب إليتينا) التي تتصارع حولها اريتريا وأثيوبيا بسبب رفض الأخيرة الاعتراف بالحكم الذي صدر لصالح الأولى وإعلان ذلك رسمياً في 19 سبتمبر 2003م. ورغم أن معظم القضايا الحدودية مصدرها العالم الثالث إلا أن بعض دول العالم الثالث لا تثق في القضاء الدولي وبالتالي يقل عدد حالات قبولها للاختصاص الإلزامي لمحكمة العدل الدولية أو رفع المنازعات إليها. و يرجع ذلك إلى أنّ غالبية القضاة ينتمون إلى الدول الرأسمالية الغربية وأنّ القانون الدولي الذي تطبقه المحكمة ما هو إلاّ نتاج لقواعد عرفية جرى إنشاؤها إبان عصر الاستعمار وتخالف مصالح دول العالم الثالث. بالعودة إلى أبيي فإن مواقف الطرفين حسب مرافعات الطرفين متباعدة الأمر الذي دفع الخبير القانوني المعروف نبيل أديب إلى استبعاد احتمال أن تنتهي القضية بالتوفيق بين الطرفين مما يعني أنها ستصل إلى مرحلة الفصل بالتحكيم من قبل الهيئة وحول قبول المحكمة النظر في أبيي رغم أن جنوب السودان ليست دولة قائمة بذاتها كما يشترط النظام الأساسي الذي يقول يجب أن يكون طرفا أية قضية تنظر لها دولتان قال أديب إن الجهة التي تنظر في القضية ليست محكمة العدل بل هيئة التحكيم بتراضي الطرفين المتنازعين الذين اختارا المحكمين وقطع بأن الحكم الذي سيصدر من الهيئة ملزم ولا يمكن استئنافه إلا في حالة واحدة هي فساد المحكمين كأن يكون أحدهم مثلا تلقى رشوة وفي هذه الحالة فقط يمكن الاستئناف لدي محكمة العدل الدولية لكنه قال إن القانون الدولي في كثير من الحالات كما هو الحال في محكمة الجنايات الدولية ليس له أسنان أو جهات تنفذ القرارات الصادرة عن محاكمها لكنها يمكن أن تجلب على الدولة الرافضة ضغوطا من المجتمع الدولي خاصة تلك الراعية للمحكمة وأضاف لكن أية دولة تحترم نفسها يجب أن تقبل بالتحكيم طالما أنها وافقت على التحكيم ووقفت أمام الهيئة أو المحكمة بكامل رضاها. ويخشى المراقبون رفض أي من الطرفين لقرار لجنة التحكيم في حال لم يكن في صالحها ويحذرون من أن عدم تقيد أي طرف قد يعيد البلاد إلى مربع الحرب وفي ذات السياق انتقد الدكتور شيخ الدين شدو أستاذ القانون الدولي بجامعة الخرطوم الأصوات التي تتحدث عن رفض قرار الهيئة إذا لم يكن في صالحها حتى قبل صدور القرار نفسه وقال إن الطرفين يجب أن يرضخا لحكم الهيئة مهما كان فحواه مشيرا إلى أن القضية قضية قانونية بحتة وبما أنها كذلك يجب ان نحترم حكم القانون ومن يذهب إلى القضاء يجب أن يذهب بأيدٍ نظيفة ونبه إلى أن رفضه من طرف وإن كان لا يترتب عليه عقوبات قانونية دولية سيكلف البلاد غاليا ويمكن أن تنتكس مسيرة السلام وأن نعود إلى الحرب ومآسيه التي لازالت آثاره باقية فضلا عن أن البلاد بها ما يكفي من المشاكل. وأمن شدو على نزاهة هيئة التحكيم وقال إنه جهاز قانوني يصدر أحكاما مسببة وبمعنى أن أحكامها تأتي مصحوبة وبالأسباب والحيثيات التي تدعم القرار والتي مصدرها شهادات الخبراء والأفراد والمستندات التي تقدمها الأطراف المتنازعة. ويقول المراقبون إن لاهاي هي آخر العلاج وإذا لم يستجب لها الطرفان ويسلما بقرار هيئة التحكيم ستعود بالجميع إلى متاهة الحرب بكل مساوئها ومآسيها .