كبار السن يتلقون علاج الإدمان من الخمر الأطفال المتشردون يخضعون لجلسات التعافي من “السلسيون” شاب: أصدقاء السوء سبب مباشر لإدماني طالبة طب: اخترت العلاج خوفاً من المستقبل جلستُ خارج المركز المخصص لعلاج إدمان المخدرات والخمور، قلت من الأفضل أن أرصد المشهد من الخارج أولاً ومن ثم أدلف إلى المكان، الملمح البارز ترجل شباب من أعمار مختلفة من سيارات معظمها فارهة وباهظة الثمن ثم يدلفون داخل المركز، وآخرون يحضرون رفقة من يكبرونهم سناً. داخل المركز تفاجأت برقم لم أضعه في حسباني وأصابني بالدهشة الممزوجة بالحسرة، هنا تلقى مليون ومائتي ألف مواطن جلهم شباب العلاج من إدمان المخدرات والخمور، إذن نحن بمركز “حياة لعلاج الإدمان” بحي الشجرة بالخرطوم. أزمة حقيقية قبل أن نغوص في أزمة الإدمان وعلاجه لا بأس من استدعاء بعض التصريحات والأرقام التي توضح عمق وحجم هذه القضية الكبيرة التي باتت تؤرق المجتمع السوداني، دعونا نستعرض جزءاً يسيراً من الأرقام التي ظلت تكشف عنها وزارة الداخلية التي تقاتل في جبهات متعددة من أجل وأد تجارة المخدرات، ففي البرلمان خلال هذا العام كشف وزير الدولة بالداخلية بابكر دقنة عن زيادة في بلاغات المخدرات ب(950) بلاغاً خلال الفترة من مارس من العام الماضي إلى ذات الشهر من العام الحالي، حيث تم ضبط (78) طن حشيش، (606) كيلو بنقو، و(2.854.836) حبة من الحبوب المخدرة والمهلوسة، بجانب إبادة مساحة (6500) فدان من الأراضي المزروعة بالبنقو، التي تقدر ب(45) طناً، بمنطقة الردوم، إضافة لإعاقتها زراعته بذات المنطقة، في فبراير من العام الجاري، ضبطت كميات قُدرت ب(21) طناً من البذور المعدة للزراعة، هذا ما تمكنت يد الشرطة من الوصول إليه، وبالتأكيد لا يمكن تجاوز الضبطيات الضخمة التي ظلت تنفذها الشرطة بميناء بورتسودان ووضع يدها على عدد من المصانع المحلية للحبوب المخدرة وتلك القادمة من مناطق إنتاج البنقو. إذن فإن المخدرات تمثل هاجساً حقيقياً للجهات الرسمية والمواطنين. حياة وأمل كما أسلفت فإنني فضلت الجلوس خارج المركز لبعض الوقت، ويومها تظاهرت بأنني مدمنة، وقد حضرت لتلقي العلاج، وتحت هذه الذريعة أوقفت شابة عشرينية واستفسرتها عن كيفية العلاج وتكلفته ، فقدمت لي شرحاً مطولاً، وكانت كل مرة تردد “أحسن ليك اتعالجي من هسه”، بعد برهة من الزمن سألتها عن سبب حضورها فكشفت عن أنها أدمنت في البداية تعاطي السجائر في الجامعة مع زميلاتها، ومن قبل لم تكن تعرفه، وتشير إلى أنها بعد ذلك كانت تذهب معهن لتعاطي الشيشة في عدد من المقاهي، وتقول الطالبة التي وللمفارقة تدرس بكلية الطب بإحدى الجامعات المرموقة أنها أدركت خطورة الطريق الذي تسلكه، فاختارت أن تطرق مبكراً باب العلاج حتى لا تمضي بعيداً في إدمانها. وضع مختلف أما الشاب الثلاثيني الذي جلست بجواره، ووجدت صعوبة كبيرة في تجاذب أطراف الحديث معه إلى أن طمأنته بأنني حضرت للمركز من أجل تلقي العلاج لإدماني تعاطي المخدرات، لم أجد غير أن أكذب عليه “الله يغفر لي” حتى أتمكن من معرفة قصته التي أشار إلى أنها بدأت في عامه الأول بالجامعة، حينما أقنعه عدد من أصدقائه بتعاطي الحبوب المنشطة لتساعده على تحمل السهر لمراجعة الدروس قبل الامتحانات، ويقول إنه بعد ذلك لم يتوقف عن تعاطي هذه الحبوب إلى أن اكتشف لاحقاً أنها مخدرة وليست منشطة، ويلفت إلى أنه أخذ عهداً على نفسه بعدم الرجوع إليها مجدداً مهما كان الثمن، وأنه سمع بمركز حياة لعلاج الإدمان فحضر إليه، وحالياً يتلقى العلاج، ويؤكد أنه يشعر بتحسن كبير أو بالأحرى في طريقه للشفاء. تردد كبير داخل هذا المركز المشيد من ثلاثة طوابق لاحظت أن حجم المترددين كبير وهو لا يختلف كثيراً عن المستشفيات، وأثناء تجوالي داخله لاحظت وجود عدد من الأطفال وكبار السن، فسألت أحد المواظفين عن ذلك، فقال إن الأطفال بعضهم أدمن تعاطي الحبوب بسبب أصدقاء السوء، وأن أسرهم حرصت على علاجهم قبل أن يتحولوا إلى مدمنين، مشيرًا إلى أن تنامي الوعي بأهمية العلاج من المخدرات حيث تحضر الكثير من الأسر لعلاج أبنائها، عادّاً هذا الأمر تطوراً جيداً وإيجابياً، أما كبار السن فقال إنهم يحضرون للعلاج من إدمان الخمور وأن الكثير منهم تعافى، ويقول الموظف إن المخدرات باتت خطراً حقيقياً يجب على المجتمع أن يتحرك بجدية وسرعة لمحاصرتها، لأنها تهدد مستقبل الشباب. ومن المعلومات التي حصلت عليها أن المركز يوفر العلاج للأطفال المتشردين الذين يتعاطون السلسيون وأنواع المخدرات الأخرى، وبالمركز توجد عدد من الغرف التي تم إعدادها بشكل جيد لاستقبال المرضى. الأرقام تتحدث بعد جولة في المركز الذي يؤدي خدمة في غاية الأهمية، توجهت ناحية مدير الإعلام به وهو محمد أحمد الماحي، الذي إشار إلى أن مركز حياة للتأهيل النفسي والاجتماعي يعتبر المركز الوحيد المتخصص في علاج الإدمان بالبلاد، قلت له “معقول” لأنني تعجبت من وجود مركز واحد فقط لعلاج الإدمان في بلاد تنتشر فيها المخدرات، فأجاب: “نعم”، ويقول في حديثه ل(الصيحة) إن المركز شراكة بين وزارة التنمية الاجتماعية ومركز مدى للدراسات الاجتماعية، مبيناً أنه يعمل على علاج الاضطرابات النفسية والإدمان، وقد تم إنشاؤه في العام 2014، ويقول إن المركز بجانب توفير العلاج للمدمنين فإنه يهتم بتأهيل الكوادر العاملة في هذا المجال، ويضيف: في بداية إنشاء المركز كان الإقبال ضعيفاً بسبب خوف المرضى من نظرة المجتمع، ولكن بمرور الوقت حدث تطور كبير في المفاهيم وبات المركز يستقبل مرضى من مختلف ولايات السودان، والتردد الكبير جعل الإدارة تفكر في إنشاء عدد من الفروع بالولايات، وبخلاف ذلك فإن الإدارة تسعى إلى إيجاد مقر ثابت لأن الحالي ليس ملكاً للمركز. الخطر الماثل وكانت ندوة علمية تزامنت مع المؤتمر الثاني لمكافحة المخدرات، قد كشفت عن انتشار كبير للمخدرات بين الشباب السوداني، وفق تصريحات الخبراء والمختصين، وقال مشاركون في الندوة، إن الأعوام الأربعة الماضية شهدت تزايداً ملحوظاً في أعداد المتعاطين، ولا سيما بين طلاب المدارس والجامعات، أوقف خلالها 41 ألفاً منهم، بينما ضبطت الجهات المختصة ملايين الحبوب المخدرة، وأطناناً من مادة الهيروين والحشيش، ويرجع خبراء ومختصون تزايد الظاهرة إلى النزاع المسلح في مناطق عدة بالبلاد، عدا ارتفاع معدلات البطالة بين الشباب، والتفكك الأسري. دراسة عملية وخلصت دراسة أجرتها مديرة مستشفى التجاني الماحي للأمراض النفسية والعصبية بأم درمان الدكتورة نور الهدى محمد، إلى أن 57 في المائة من تجار المخدرات في السودان من الشباب، وأكثر من ثلثي هذه النسبة بين 18 – 44 عاماً، وقالت نور الهدى إن الدراسة التي أجرتها على نزلاء في سجن الهدى العام 2014، أظهرت أن 28.9 في المائة يتعاطون المخدرات “لملء فراغهم”، وأن السجن “ليس عقوبة رادعة”. أسباب متعددة وأرجع العقيد منور محيي الدين أسباب زيادة تعاطي المخدرات إلى النزاعات المسلحة وضعف الرقابة على الشريط الحدودي، إلى جانب عدم توفر المراكز الصحية للعلاج. وأكد تحول البلاد إلى دولة منتجة للمخدرات عبر حظيرة الردوم الواقعة على الحدود بين السودان وأفريقيا الوسطى وجنوب السودان. تنامي الظاهرة ويرى استشاري الطب النفسي وعلاج الإدمان، علي بلدو، “إن تنامي الظاهرة في المجتمع السوداني يعود لجملة عوامل، بينها الاستعداد الوراثي والمشاكل الأسرية وظواهر الهجرة والنزوح والاغتراب”، لكنها تتفاقم “بوجود رفاق السوء والتعليم السالب والتجريب ومحاولة إثبات الشخصية والتأثر بالوافد الثقافي”، وأكد تزايد حالات التعاطي في أوساط الشباب السوداني، ولا سيما طلبة المدراس الثانوية والجامعات، بنسبة 1 إلى 4 في المائة، وتزداد في المناطق الحضرية عن الريفية، وقال إن 90 في المائة من الجرائم يرتكبها مدمنون في العادة، متوقعاً تفاقم ظاهرة تعاطي المخدرات. مراحل العلاج ويعود مدير الإعلام بمركز حياة، ويشير إلى أن العلاج يتم عبر عدد من الطرق منها التنويم المغنطيسي الذي يستمر لخمسة وأربعين يوماً، مبيناً أن العلاج لا يقتصر على داخل المركز بل يمتد ليشمل الرعاية لسنوات قد تصل إلى سبع، وذلك لضمان التعافي الكامل، كاشفاً عن أن أكثر الفئات تردداً على المركز هم الشباب الفئة العمرية بين 18 إلى 25 عاماً، وتكون الجلسات سرية، كاشفاً عن أن عدد المترددين على المركز خلال ثلاث سنوات بلغ مليوناً ومائتي وخمسين ألف مدمن، وأن عدداً مقدراً من المرضى يحضرون عن طوعهم وإرادتهم، مبيناً أن نسبة المرضى من تلاميذ الأساس التي قال إنها تبلغ 1%، وقال أن كل مدمن يتم إعداد ملف خاص بحالته ومراحل علاجه، مبيناً أن كبار السن يحضرون للمركز بأرقام مقدرة للعلاج من إدمان الخمر، وقال إن أسباب الإدمان وبحسب المرضى تنحصر في الفراغ، البطالة، ضعف الوازع الديني، التفكك الأسري وأصدقاء السوء، ورأى أن الفقر والمال أيضاً من الأسباب المباشرة للإدمان، وقال إن أغلب المرضى أصابهم الإدمان بسبب تعاطي الحبوب المخدرة، وكشف عن أن قيمة العلاج تبلغ خمسمائة جنيه فقط، وأن المركز نجح في إعادة كل من تردد إليه إلى الحياة سليماً معافى من المخدرات وآثارها النفسية والبدنية. هل من مزيد؟ يؤدي مركز حياة أدواراً في غاية الأهمية، ومثلما تبذل القوات النظامية وعلى رأسها الشرطة جهوداً جبارة لإيقاف تدفق المخدرات على البلاد والحد من زراعتها، فإن مركز حياة يعمل على توفير العلاج للمدمنين، وحتى تتمكن البلاد من تجاوز هذا الخطر اللعين لابد من توفر المزيد من المراكز العلاجية بالعاصمة والولايات، فإن تمضي جهود الدولة بين المكافحة والعلاج، فإن هذا يعني مستقبلاً أفضل للشباب. الخرطوم: مياه النيل مبارك