لقد مرت القوى التي مثّلت ثورة ديسمبر رسميا (أو في الواقع مثّلت بها) حتى الآن بمرحلتين في طريقها الحتمي نحو الزوال. 1- الفشل في المعركة الأخلاقية و فقدان المشروعية الأخلاقية. هذه هي أخطر مرحلة من مراحل السقوط و لكنها تحدث بسبب الاغترار بالقوة و بنشوة الانتصار، و ربما حدثت أيضا في حالة ثورة ديسبمر بسبب ضعف و هشاشة قوى الثورة. في هذه المرحلة فقدت هذه القوى سلاح التفوق الأخلاقي على العدو، و أصبح اعتمادها على القوة وحدها. 2- فقدان الكتلة الثورية الحية بسبب الفشل السياسي بالدرجة الأولى، و الفشل الأخلاقي بالدرجة الثانية. و هذه المرحلة استمرت في تصاعد وصولا الى مظاهرات 19 ديسمبر التي أكدت بما لا يدع مجالا للمغالطة الانفصال بين السلطة الانتقالية و الشارع، و تحديدا بين ما كان يُعرف بالحرية و التغيير و الشارع. في هذه المرحلة تصبح السلطة بدون مشروعية أخلاقية أو سياسية و تعتمد على حكم الامر الواقع. فلا مشروع سياسي، و لا مبررات أخلاقية أو سياسية لوجودها و لا سند جماهيري. مجرد سلطة فوقية تعتمد بشكل أساسي على جهاز الدولة. 3- المرحلة الثالثة و الأخيرة هي مرحلة الغضب و الانفجار الجماهيري. و هي المرحلة قادمة اذا استمر هذا الوضع. حاليا قد يكون هناك تردد ناتج عن الصدمة و الإحباط و غياب الأُفق، و لكن كل هذه الأمور قد تتحول لاحقا الى بركان من الغضب. كل عوامل الانفجار موجودة الذي ينقصها هو الانفعال الغاضب و الانفجار. بالطبع في السياسة ليس هناك شيء اسمه فات الأوان، ببساطة لأننا لا يُمكن أن نتجاهل مصيرنا و نتركه بيد العبث. إطار ثورة ديسمبر كما شكلته قوى الحرية و التغيير لم يعد صالحا و لم يعُد قابلا للاستمرار، فحتى هذا التحالف نفسه قد تصدع فما بالك بالإطار الذي وضعه هذا التحالف للواقع السياسي ؟ أعني ب"إطار ثورة ديسمبر" تلك التصورات (و الأوهام) التي تشكلت مع الثورة و صعود قوى الحرية و التغيير و خطابها حول الفترة الانتقالية و مهامها و من يحق (و من لا يحق ) له المشاركة في النقاش حول قضايا و مهام الفترة الانتقالية و ما هي أساسا هذه القضايا و المهام، و جملة من الافتراضات حول الشعب و الديمقراطية و مفاهيم العدالة و مفاهيم الحرية و الموقف من الانتخابات و مدة الفترة الانتقالية و قضايا التأسيس ووو و هذا الإطار في النهاية تم تجسيده على الأرض من خلال وثيقة كورنثيا و السلطة الانتقالية و الحكومة، و ممارسات هذه الحكومة و الطبقة المساندة لها و كذلك المعارضة لها من فصائل لجان المقاومة و غيرها كلها ظلت تدور داخل هذا الإطار. حتى القوى التي خرجت من تحالف قحت هي ما تزال تتبنى نفس الإطار. هذا الإطار هو إطار هش و مرتبك و فاسد من البداية، و كانت نتيجته الفشل الأخلاقي (المرحلة الأولى في السقوط) ثم الفشل السياسي و تصدع تحالف الحرية و التغيير نفسه، ثم أخيرا القطيعة مع الشارع كأحد أهم مرجعية للسلطة بوصفها سلطة ثورة. الحل المثالي هو ما ظللنا نطرحه من ضرورة إعادة طرح القضايا الوطنية خارج الأفق الضيق و المسدود لثورة ديسبمر كلها، لأنه أفق ساذج صنعته قوى هشة مرتبكة و تابعها في ذلك شارع ساذج سياسيا. طرحها في أفق وطني للتوافق و التصالح و الوحدة بدون أي تنازل عن القضايا الجوهرية و التي هي – بشكل نظري مجرد- نفسها أهداف الثورة؛ أقول بشكل نظري مجرد لأن أهداف الثورة على أرض الواقع تم الانحطاط بها الى مستوى أطماع و أجندات تافهة لقوى سياسية و للشلليات و أشخاص. دون التنازل عن هذه الأهداف المتمثلة في الديمقراطية و العدالة و سيادة القانون و الحريات و الحكم الرشيد و السلام و الاستقرار و التنمية ،يُمكن العمل على ترسيخ توافق و وحدة وطنية تكون هي الانطلاقة الصحيح نحو المستقبل. و لكن في غياب هذا الحل المثالي فإن هناك حلا عمليا واحدا هو الذهاب الى الانتخابات، و الانتخابات هنا ليست بديلا لمشروع سياسي أو لطرح سياسي مغاير تتبناه السلطة الحالية و أحزابها، و إنما لأن ليس هناك أي مشروع أصلا، الانتخابات هنا مطروحة مقابل استمرار الفشل و الوصول الى مرحلة الانهيار الحتمي و سيناريوهات الثورة المتفلته و الانقلابات و الحروب، أو أي سيناريو كارثي لا يخطر على البال يقود اليه هذا الوضع العبثي.