الآن بعد ظهور بوادر اندلاع حرب إقليمية ميدانها الفشقة في شرق السودان و غربي إثيوبيا يمكننا قراءة تغريدات ترامب الغامضة خلال هذا العام بوضوح و جلاء .. ففي شهر أكتوبر الماضي ألقى ترامب بتغريدته القنبلة ، بأن مصر قد تضرب سد النهضة . الكثيرين سخروا من هذه التغريدة الغبية في نظرهم ، وذلك لانعدام السبب المباشر الذي يقنع العالم بهذه الضربة ، و كذلك انعدام أي حدود جغرافية تربط بين إثيوبيا و مصر . إلا ان أنظار المراقبين ذهبت إلى السودان والذي ربما يكون ميدانا لهذه الحرب اللعينة بين البلدين . اما الواقع وقتها ينفي ذلك بشدة ، لانعدام أي بوادر نزاع بين إثيوبيا و السودان ليجعل الأخيرة ميدانا للقتال المصري ، فعلاقة السودان بإثيوبيا حتى تلك اللحظة ممتازة !!. لكن بمجرد اندلاع حرب داخلية في إثيوبيا بدأت تتكشف خيوط تغريدة ترامب الأولى، ففي يناير بداية هذا العام قال في إحدى تغريداته أن الرئيس الإثيوبي يستحق جائزة نوبل لأنه أبرم اتفاقا داخليا . وبعد أن منحت نوبل للسلام لأبي أحمد أردف ترامب في تغريدة أخرى بأن الجائزة منعت اندلاع حرب كبيرة ، بل منعت اندلاع حربين في المنطقة … أكثر الناس تشاؤما لا يري وقتها وميضا لهذه الحرب التي تعشعش في مخيلة ترامب . بل وصفها بعض المحللين بالتغريدات الغبية . لكن خيوط التغريدات السوداء بدأت تلوح فجر المناورات الجوية التي أجريت بين الجيش المصري و السوداني بعد زيارة قصيرة للبرهان إلى القاهرة . هذه المناورة وجدت انتقادات لاذعة من الداخل السوداني، لارتباطها بتوقيت سئ صادف اندلاع حرب داخلية عنيفة بين الحكومة الأثيوبية و إقليم التقراي . و معظم المراقبين في السودان يرون بأن الوقت يجب أن يكون لتدخل السودان لتهدئة الأمور في البلد الحليف المجاور ، وليس ممارسة الانتهازية بدق طبول الحرب مع الجانب المصري ضد الحليف الإثيوبي … تطورت الأمور في المنطقة بسرعة شديدة ، و لم تستطع جائزة نوبل من منع وقوع الحربين حسب ما ذكره ترامب ، فالحرب الأولى الآن على مشارف نهايتها بعد أن حسمها ابي أحمد بسرعة غير متوقعة ابدا . و اندلعت أوار الحرب الثانية ، و التي ربما تكون إقليمية شاملة أن لم يتعقل طرفاها السوداني و الإثيوبي … الطرف السوداني كان في وضع لا يحسد عليه عند اندلاع الحرب الداخلية في إثيوبيا ، فالنظام الهش واقع بين مطرقة جهات في الداخل ارتفع صوتها عاليا لاسترداد الفشقة التي تحتلها إثيوبيا لما يقارب الثلاثين عاما . و بين سندان جهات أخرى تنادي بالتعقل و عدم الدخول في حرب مع إثيوبيا على الأقل في الوقت الراهن حتى لا يكون السودان منصة للحرب المصرية التي أشار إليها ترامب و سخر منه الكثيرون … الآن السودان أصبح في نقطة اللاعودة ، فقد كان صوت طبول من ينادون باسترداد الفشقة، أعلى من الذين ينادون بضبط النفس و عدم الانجرار للرغبات المصرية . الآن تم تحرير مساحات شاسعة من الفشقة ، لكن التوجس بدأ يتسرب إلى الجميع ، يظهر ذلك في الاحتفاء الخجول بالاسترداد هنا و هناك … السؤال الآن هل ستستمر التغريدات الغبية لأبي أحمد و الذي يصر حتى الآن بأن ما يحدث في غرب بلاده هو محض تفلتات من بعض التنظيمات و المليشيات الشعبية ؟؟؟ . ابي أحمد رجل الاستخبارات الغامض الذي ظهر فجأة على سطح السياسة الأثيوبية بعد استقالة ديسالين . هو في حاجة إلى راب الصدع في جبهة بلاده الداخلية المتصدعة بين قومياتها المتباينة التي تتصارع حول السلطة . وضح جليا الآن أنه فقد دعم التقراي في الدورة الانتخابية القادمة ، و الجهة التي تدعمه الآن هي قومية الأمهرا التي تسيطر و تستفيد نخبها على مساحات شاسعة من الأراضي السودانية في الفشقة . و خذلانه لهذه القومية في استراد الفشقة يعني اهتزاز كرسي السلطة الذي يتشبث به ، بل و اندلاع حرب واسعة في إثيوبيا تكون سببا لتقسيم و تفتت الدولة الفيدرالية إلى دويلات وقوميات متناحرة. .. إذن يجب فعلا إلا نفرح في السودان باسترداد الفشقة ، فهي الآن على صفيح ساخن و ساخن جدا ، و تبقى طريقة إدارة الأزمة أصعب من استرداد المنطقة بكثير بل بكثير جدا . لأن الأزمة الآن أصبحت سياسية ودبلوماسية و استخباراتية أكبر من كونها عسكرية . لأن الجيش السوداني فرض واقعا مغايرا في المنطقة ،اختلف عما كانت عليه قبل شهرين ، فهو الآن ينتشر في معظم اراضي المنطقة … هناك جيل كامل من الشباب الأمهرا اعمارهم دون الثلاثين، يحملون السلاح ليدافعوا عن أرضهم (الفشقة) حسب وعيهم ، لأنهم ولدوا و ترعرعوا و شبوا في هذه الأرض، ولا ولا يعرفون موطنا خلافا لها و يعتبرونها أرضا لآباهم ، يقف خلفهم نخب سياسية و رجال أعمال يستفيدون من زراعة نصف مليون فدان ، و هناك رئيس شاب ذو طموح سياسي كبير يحتاج لرأب تصدعات دولته ، و هناك الجانب المصري الذي يبحث عن منصة خارج أراضيه لإيقاف سد النهضة . و هناك قوى دولية لها مصلحة في قيام نزاع في المنطقة . كل هذا العبئ أصبح الآن على رأس حكومة سودانية انتقالية هشة تتناوشها الخلافات و المحاصصات حول السلطة ، و مواطنين منقسمين بين مؤيد لها ، و معارض يتمنى سقوطها . اقتصاد شبه منهار بدون ميزانية في العام السابق، و العام الحالي يلفظ أنفاسه الأخيرة ولا أحد يتحدث عنها . هذا الوضع فيه خطورة كبيرة على مستقبل البلاد و على مجمل العملية السياسية و الأمنية في المنطقة . لذا يجب إدارة هذه المرحلة الحساسة بعقلانية، بعيدا عن الهتافات الجوفاء . غير ذلك سندفع ثمنا غاليا يهدد وجود الدولة السودانية و استقرارها ، فاستعادة الفشقة في الوقت الحالي ليس نزهة كما يتوقعها البعض . بل تحتاج إلى جهد كبير ، و كبير جدا . أهم ما فيه توحيد الجبهة الداخلية بإجراء مصالحة سياسية ، الوفاق السياسي في الوقت الراهن هو رأس الرمح في كسب الحرب التي دفعنا لها دفعا دون جاهزية أو تخطيط .. سالم الأمين بشير 25 ديسمبر 2020