بات عادياً، ويومياً، أن يقال (فلان مشى الدهب)، بل وصل الأمر حداً، سمعنا معه أن رؤساء برلمانات ولائية، وربما معتمدين أيضاً، وأطباء أغلقوا مراكزهم الصحية النائية في الأقاليم و(مشوا الدهب)!، فهل بقي التجار والزارعون؟. علية القوم يرتضون تلك الحفر والبيداء الموحشة إرضاءً لأنفس تذكرك بقول ذهبي لرسول الله (صلى الله عليه وسلم): (لو أن لابن آدم وادياً من ذهبن أحبّ أن يكون له واديان، ولن يملأ فاه إلا التراب، ويتوب الله على من تاب). فهل لدى السلطات المختصة إحصائية حقيقية بخصوص نسبة القوى العاملة التي انشغلت مؤخراً بالذهب عما سواه من أنشطة اقتصادية شديدة الأهمية بالنسبة لحياة الناس؟. إطلاقاً ليس على سطح الأرض ما هو أكثر بريقاً وإثارة للفضول والجاذبية مثل هذا الأصفر النفيس وقد (زيّن للناس) على مرّ الدهور والأجيال ومرّ البلاد والشعوب، لذلك ذهب السودانيون كلهم إلى الخلاء، فأصبحوا لا ترى إلا مساكنهم وفيها أسرهم المنتظرة لليلة القدر. ولكم أُحبط البعض، وكم تجاوز حظ بعضهم حدود الخيال، فوقعت أيديهم على كتل وأرطال، تخطت بهم حاجز المليار، فتغيرت حياتهم، بما أغرى ولا يزال يغري كثيراً جدا من المتشبثين بحبال الأمل المتطاولة المتقاصرة معاً. وإن من أحسن حسنات حمى الذهب الساخنة والمسيطرة على حياتنا هذه الأيام أنها شكلت بديلاً للاغتراب، بعد أن صار الأخير باهتا أمام البريق الأخاذ والسريع، ليس كمثل الاغتراب الذي قد يستغرق عقوداً ليعود أحدنا منه بما قد يعود به من جولة ذهب واحدة لا تأخذ شهرا واحدا. ورغم ذلك يصرّ أساتذة الجامعات على مذهب الاغتراب إلى اليوم. ولكن شكل الذهب خياراً أكثر إقناعاً من التمرد وحمل السلاح، بالنسبة لمن كان هذا النوع من العمل خيارهم الأجدى، على خطى الهمبتة، إلا أنه أفضل من الهمبتة، لكونه يجمع فوق الثروة السلطة أيضا، ولكن الذهب أثبت أنه أذهب للعقول. ثم.. إن كل ما سبق لم يكن مرادي وإنما أردت بيت الشعر القائل: إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا فكم ذهب من السودانيين وفقاً لهذا البيت الذهبي وكم بقي؟. نريد مسحاً إحصائياً علمياً ودقيقاً، تفرزه صحائف استبيان تحوي أسئلة بسيطة ومباشرة من نوع هذا المربع الذهبي: - كم مرة تكذب في اليوم من أجل أن تكسب مصلحة لك أو لجهة تدافع عن مصلحتها؟. - هل كل رزقك مكتسب من حلال أم تشك في بعضه، ورغم ذلك (تطنش)، وهل تسأل نفسك عما إذا كان ما تكتسبه كل مرة حقك أم حق غيرك؟. - كم مرة ترى الحق يغبط في اليوم الواحد أمام عينيك، وكم مرة تنصر صاحبه وتردع ظالمه، وكم مرة تسكت توخياً لمصلحتك وسلامتك؟ - إذا دعيت إلى مصلحة ورأيت من هو أولى منك بها فهل تستعيذ بالله من الشيطان وترجمه بموقف شجاع وصحيح؟ أخيراً يجب أن نتساءل سؤالا: هل كنت أمينا مع نفسك خلال إجابتك عن تلك الأسئلة؟. الآن كم ذهب من السودانيين مع ذهاب أخلاقهم وكم بقي، وهل أنت ممن بقي فعلا؟. صحيفة المشهد الآن