ان الاهتمام بأمر الثقافة على المستوى الرسمي جاء متأخراً جداً.. فلقد كانت اول بادرة لهذا الاهتمام هي انشاء مصلحة الثقافة في ابريل 1972م كجهاز تنفيذي موازي للمجلس القومي لرعاية الآداب والفنون الذي كان قد انشئ قبلها بعام وفق قانون يمنحه شخصية اعتبارية تؤهله للعمل بحرية في هذا المجال على المستويين الرسمي والشعبي. غير ان هذين الجهازين منذ انشائهما والى ان تم إلغاؤهما بقيام الهيئة القومية للثقافة والفنون عام 1992 واجهتهما العديد من المشاكل والمعوقات التي قعدت بهما تماماً عن أداء رسالتيهما أو تحقيق اي من الاهداف وراء انشائهما على الوجه المرجو والمأمول... وكان من اهم تلك المعوقات مايلي:- 1. عدم القدرة على الاستقرار على استراتيجية ثابتة للعمل بسبب تذبذب كل من تعاقبو من التنفيذيين على قيادة الوزارة الام (وزارة الثقافة والاعلام) قرباً او بعداً من العمل الثقافي من ناحية أو بسبب طغيان الاهتمام بالجانب الاعلامي على حساب الجانب الثقافي من ناحية اخرى لما يتميز به الاعلام من قدرة تعبوية محسوسة في مقابل المردود البطئ نسبياً للنشاط الثقافي والذي لا تظهر نتائجه الا من خلال الممارسة الطويلة. 2. ان الهيكل التنظيمي الذي انتظمت فيه اقسام ووحدات هذين الجهازين حبس العمل الثقافي في اطار من الديوانية المركزية التي لا تنسجم مع طبيعته تلك التي تتطلب الكثير من المرونة في اتخاذ القرارات والسرعة في تنفيذ الاجراءات والحرية في الحركة نسبة لأن منتجي الثقافة هم اصلاً ليسو ديوانيين ولا موظفيين لدى الحكومة.. بل ينتظمون في مؤسساتهم الاهلية و تنظيمات المجتمع المدني المختلفة. 3. انه على الرغم من اهميتها وفرط حيوية مهامها الا ان النظر الى الثقافة كان دائماً يأتي في مرحلة تالية لمهام اخرى اكثر حيوية عند وضع الميزانيات وترتيب الأولويات.. مما قعد بالاجهزة الثقافية تماماً عن تنفيذ مشروعاتها وبرامجها الحيوية الامر الذي ادى الى انتشار البطالة بين العاملين فيها وسبب لهم الكثير من الاحباط الذي جعل صفوتهم يهربون بجلدهم الى مواقع اخرى في الداخل أو الخارج حيث يتم استثمار خبراتهم وكفاءتهم بالصورة التي ترضي ضمائرهم على الاقل. 4. انه منذ أن دخل العمل الثقافي في دائرة الاهتمام الرسمي وحتى اليوم لم يتوفر للجهاز الثقافي المقر المناسب الذي يفي باحتياجاته بل ظل يتنقل من مقر الى آخر وظلت اقسامه ووحداته تحشر حشراً كل مرة في مبان خانقة لا تفي بمجرد متطلبات النشاط الديواني اليومي. كل هذه الاوضاع تجعلنا نشعر بحاجة اكيدة الى امعان النظر الشامل والموضوعي في امر هذا الجهاز من حيث الجدوى والاهمية والاهداف والمهام والاختصاصات ونحن نفكر في اعادة انشائه وان نسعى سعياً حثيثاً وجاداً للتعرف على الكيفية التي يمكن ان يحقق بها اهدافه ومهامه واختصاصاته.. وان تحدد الوسائل التي يمكن ان يؤدي بها دوره ((في سبيل خلق التلاحم المنشود بين ابناء هذا الشعب وبين قيمهم الموروثة والراسخة... وأن نعتمد من الاساليب ما يمكن من اغناء هذه القيم واثرائها بالمفاهيم الجديدة حتى تكتسب الثقافة ابعادها الحقيقية التي تمتد في اعماق الجماهير أصالة ومعاصرة من اجل تربيتها واعادة صياغتها في اطار من الديمقراطية والحوار الجاد والمستمر وصولاً بها الى مراقي النهضة والتنمية الشاملة)) ذلك حتى يكتسب هذا الجهاز منذ البداية فعاليته المطلوبة. ولن يكون جهازاً فعالاً وذا قيمة الا بما يلي:- 1. مدى مساهمته في تغيير حركة المجتمع والرد على تحديات العصر. 2. مدى قدرته على تحقيق مهمه صياغة العقل السوداني والاستفادة في ذلك من جهود المثقفين. 3. مدى قدرته على الربط بين الدولة وهؤلاء المثقفين حتى يتهيأ المناخ المناسب لانتاجهم. 4. مدى قدرته على استطلاع آراء المثقفين أدباء وفنانين بشكل موسع والالتقاء بكافة قطاعاتهم استجلاءً للرؤية واستبياناً لقسمات العمل الثقافي الذي نريده. 5. مدى استعداده للتلاحم بمشاغل المجتمع وهو منكب على جهاده من اجل التنمية والنهوض. 6. مدى قدرته على نشر الثقافة في الجماهير توعية لها ورقياً بمستواها الذهني مساهمة في فتح البصائر والعقليات لتقبل مقتضيات النهوض والتطور. ان امراً كهذا لا يمكن حصره في ((مجرد وزارة)) محدودة المهام والاختصاصات تكبلها النظم الديوانية المركزية الخانقة... فهو امر لا يهم الجهاز الحكومي وحده.. بل يتسع ليشمل كذلك مؤسسات المجتمع المدني من النقابات والاحزاب السياسية واهل الفكر والرأي على قدم المساواة.. ولابد ان يكون هؤلاء جميعاً معنيين يه وبكيفية نشأته وقيامه ورسم استراتيجية حتىيجيئ شاملاُ ومتكاملاً و معبراً تعبيراً صادقاً وأميناً عن تطلعات الأمة... وان انسب الصيغ لعمل كهذا هي الصيغة التي تتيح اكبر قدر من الحوار وتداول الآراء حتى تكون القرارات التي تصدر عنها ملزمة للجميع.. تفادياً للغلو في التخطيط البيروقراطي والديواني الذي تنتفي معه حرية الاجتهاد الفردي وحرارة الحماس الجماعي [والمتمثل في الصيغ الديوانية البيروقراطية من وزارات ومصالح وادارات عامة] ذلك لان مهمة جهاز الثقافة ليست هي صناعة الثقافة بل الاعانة على ازالة العراقيل التي تحد من انطلاقها سواء كانت هذه العراقيل ادبية او مادية.. واتخاذ سائر التدابير التي من شأنها ان تحقق النهوض الثقافي. ذلك لأن الابداع الثقافي جهد حر... وانه حين قيام جهاز رسمي للثقافة ينبغي أن يفهم ان هذا الجهاز لم يقم لينوب عن المثقفين من رجال الأدب والفن والفكر والرأي أو ليحل محلهم... أو يجعل من نفسه شرطياً يطاردهم ويكمم افواههم ويتسلط عليهم ويراقب انتاجهم بحجة مراقبة الهابط منه.. أو يمنحهم التراخيص لمزاولة وممارسة ماتم اعدادهم خصيصا لمزاولته وممارسته من نشاط... فمسألة الرقابة والمطاردة هذه تخطيناها منذ العام 1976م ولا نرى اياً من كان الذي يستطيع ان يدعي انه يمتلك المعايير والقوالب الجاهزة التي يستطع ان يصب فيها ابداعاً ثقافياً ليحدد صلاحيته من عدمها أو هبوط مستواها من رقيه... المجتمع وحدة هو الذي يستطيع ان يفعل ذلك بحسه وذوقه الفطري فيقبل هذا ويرفض ذلك. ان عالم الثقافة ذو طبيعة خاصة لا يمكن ان تشبه بغيرها من النشاطات سواء بالنسبة للمبدع الذي ينتج الثقافة أو المتلقي الذي هو صاحب الحق في هذا الانتاج وهذا العطاء، أو الدولة ذلك المنشط الذي يرعى الاثنين معاً.. فهناك مواطن للثقافة يكون للدولة فيها حق الملكية ومواطن تكتفي فيها الدولة بالقيام بالنواحي الترتيبية فحسب وفي احيان اخرى لابد ان تقوم بدور المناصر للثقافة بينما لا يكون هذا الدور في احيان اخرى الا مجرد حافز من الحوافز المنشطة وعموماً فانه دور ابعد ما يكون عن النمطية أو التحجر... بل هو دور متغير و متجدد ومتطور حسب مقتضى الحال... ((فإذا تخلت الدولة في موطن من المواطن عن دورها الذي يجب ان تقوم به فليس للمبدع ولا المتلقي حول ولا قوة في ذلك... واذا تخلى المبدع أو المتلقي عن الدور الذي يتحتم عليه القيام به فلا الدولة ولا اي قوة اخرى تستطيع ان تحل محله او تنوب عنه)). ومجالات الثقافة التي تعمل فيها الدولة كثيرة قد يدخل بعضها في اطار الوزارة المزمع انشاؤها مرة اخرى.. كما يقع كثير منها خارج مظلة هذه الوزارة.. وهي مجالات يمكن للدولة ان تستثمر فيها او تقوم بصونها وحفظها او ترفيعها وتطويرها أو العمل على ترويجها ونشرها ورعايتها ولعل هذا الجهد في مجمله وكلياته يجعلنا نقترح قيام مجلس اعلى للثقافة يستطيع لم هذا الشتات وبلورة اختصاصاته وتحديد اهدافه ورسم استراتيجياته والتنسيق بين خططه وبرامجه من خلال صيغة ادارية تنسجم وطبيعة العمل الثقافي . صيغة تمزج بين سلطة الدولة التي لابد منها وطبيعة العمل الثقافي التي تخرج عن كنه اي سلطة. صيغة يصبح العمل الثقافي فيها متكاملاً بين صانعي الثقافة من مبدعين ومنتجيين وقائمين على مؤسساتها وبين الجمهور. صيغة تجعل من الامكان اتخاذ القرارات وسن التشريعات التي تكون قابلة للتنفيذ لانها اتخذت من خلال تداول الادوار الذي يتم في تناغم تام بين هيكل اداري وتنفيذي يمثل ظل الدولة وسلطتها وهيكل مواز له يتمثل في مجالس مختلفة ودوائر وامانات ولجان متخصصة تمثل الحياة الثقافية في المجتمع وتجسد ابعادها الحقيقية. ان صيغة المجلس الاعلى للثقافة هي الاوفق لادارة الهم الثقافي بواسطة الدولة حتى تتمكن من انجاز مهام محدودة في مجالات لا تملك الدولة الا ان تعمل فيها وفاءً بالتزاماتها الاستراتيجية واهدافها العليا بما للدولة من قدرة اكبر على التمويل وقوة اشد على الالزام القانوني. إذن فهو مجلس اعلى للثقافة يكون على رأسه وزير للثقافة تعاونه أمانة عامة تنفيذية يرأسها أمين عام بدرجة وكيل وزارة وينتظم هيكله الاداري والتنفيذي في شكل سكرتاريين وأمناء لجان وشعب وأمانات وعدد محدود من الموظفين الديوانيين. والله الموفق،،، والسلام ختام،،