السفير السعودي لدى السودان يعلن خطة المملكة لإعادة إعمار ستة مستشفيات في السودان    مليشيا الدعم السريع تكرر هجومها صباح اليوم على مدينة النهود    منتخب الشباب يختتم تحضيراته وبعثته تغادر فجرا الى عسلاية    اشراقة بطلاً لكاس السوبر بالقضارف    المريخ يواصل تحضيراته للقاء انتر نواكشوط    شاهد بالفيديو.. رئيس مجلس السيادة: (بعض الوزراء الواحد فيهم بفتكر الوزارة حقته جاب خاله وإبن أخته وحبوبته ومنحهم وظائف)    الحسم يتأجل.. 6 أهداف ترسم قمة مجنونة بين برشلونة وإنتر    شاهد بالفيديو.. رئيس مجلس السيادة: (بعض الوزراء الواحد فيهم بفتكر الوزارة حقته جاب خاله وإبن أخته وحبوبته ومنحهم وظائف)    شاهد بالصور والفيديو.. على أنغام الفنانة توتة عذاب.. عروس الوسط الفني المطربة آسيا بنة تخطف الأضواء في "جرتق" زواجها    المجد لثورة ديسمبر الخالدة وللساتك    بالصورة.. ممثلة سودانية حسناء تدعم "البرهان" وثير غضب "القحاتة": (المجد للبندقية تاني لا لساتك لا تتريس لا كلام فاضي)    المجد للثورة لا للبندقية: حين يفضح البرهان نفسه ويتعرّى المشروع الدموي    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    الناطق الرسمي للقوات المسلحة : الإمارات تحاول الآن ذر الرماد في العيون وتختلق التُّهم الباطلة    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    قرار بتعيين وزراء في السودان    د.ابراهيم الصديق على يكتب: *القبض على قوش بالامارات: حيلة قصيرة…    هل أصبح أنشيلوتي قريباً من الهلال السعودي؟    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    جديد الإيجارات في مصر.. خبراء يكشفون مصير المستأجرين    ترامب: بوتين تخلى عن حلمه ويريد السلام    باريس سان جيرمان يُسقط آرسنال بهدف في لندن    إيقاف مدافع ريال مدريد روديغر 6 مباريات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    صلاح.. أعظم هداف أجنبي في تاريخ الدوري الإنجليزي    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    خبير الزلازل الهولندي يعلّق على زلزال تركيا    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    المريخ يخلد ذكري الراحل الاسطورة حامد بربمة    ألا تبا، لوجهي الغريب؟!    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    ارتفاع التضخم في السودان    بلاش معجون ولا ثلج.. تعملي إيه لو جلدك اتعرض لحروق الزيت فى المطبخ    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    بيان مجمع الفقه الإسلامي حول القدر الواجب إخراجه في زكاة الفطر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ابراهيم عثمان: التقنيات الخطابية و الأساليب الإقناعية لدى الدكتور حسن الترابي
نشر في النيلين يوم 21 - 01 - 2014

اشتهر المفكر الدكتور حسن الترابي كأحد أفذاذ الفكر و السياسة في السودان ، و يظل الرجل رقماً مهماً وسط الإسلاميين لا يستطيعون تجاوز محطته إعجاباً أو نفوراً ، و للرجل طرائقه الخاصة في الخطابة و الإقناع . فالرجل ليس داعية تقليدي يعتلي المنابر ليحدث الناس عن النجاة الفردية بل هو مفكر صاحب رؤية يترفع بها عن الخوض فيما يعده من الصغائر، و الجميع خصوم و أتباع يعرفون ذكاء الرجل و موسوعيته ، و هو يسرف في السخرية من الدعاة "التقليديين" الذين يرى أنهم يفتون الناس في قضايا شخصية و فرعية و لا يهتمون بالقضايا الكلية و التجديد و الإجتهاد . و هذه محاولة متواضعة لرصد بعض التقنيات الخطابية و الإقناعية التي يستخدمها ، و طريقة مقاربته للقضايا التي يتطرق إليها في خطاباته الجماهيرية . لا أدعي أنها ورقة أكاديمية معمقة و لكنها حصيلة أولية لاستماع لندوات كثيرة سواء مباشرة أو عبر القنوات الفضائية و اليوتيوب .و هي قابلة للنقد و المراجعة والتطوير ، سيكون التركيز أكثر على الشكل و الإخراج مع مس خفيف للمضمون حين يلزم الأمر.
يستخدم الترابي ببراعة أساليب الأداء المسرحي في توصيل أفكاره :
ارتباك و افتعال الاستفتاح : مقدمة خطابات الترابي لا تأتي سلسة بل يتعمد أن تكون بالفصحى و بلغة غير معهودة و جادة ، و أحياناً غير متماسكة ، و فيها الكثير من الإفتعال و عدم التلقائية ، و لكنه سرعان ما يتجاوز ذلك و ينطلق ، في سياحة شاملة تكشف عن تبحره و تؤذن بأداء مسرحي سيتصاعد و يهبط طوال مخاطبته .
لغة الجسد : يعتبر الدكتور الترابي أكثر الشخصيات السياسية استخداماً للغة الجسد لتوصيل أفكاره ، و يكون ذلك أحياناً بشكل مبالغ فيه و ذلك بإستخدام اليدين و الحركات التعبيرية للوجه في توصيل الفكرة التي يريد توصيلها و تكثيف الفكرة و اعطائها فائض قيمة بحيث تصل طازجة واضحة أحياناً ، و أحياناً أخرى يستخدمها لغرض معاكس حيث يقف على اعتاب المعاني في ملفوظاته و يترك مهمة ردم فجوات الفكرة للأداء التعبيري الجسدي ، الذي يوصل رسالته خاصةً في القضايا أو الدعاوي الحساسة حين لا يريد أن يتورط في قول ملفوظ يسجل عليه . و غالباً تكون لغرض إغاظة الخصم و التبشيع به و سحقه تماماً .
الإنتقال - السلس أحيناً و المفتعل أحياناً أخرى - بين الحالات الإنفعالية من غضب و رضا و ابتسام و تجهم ، و المزاوجة بين الفصحى و العامية . و له قاموسه الخاص في الفصحى ، يساعده على ذلك تبحر في علوم اللغة ، و لغته مميزة لا تخلو من جدة و طرافة أحياناً ، خاصةً مع قدرته على تنويع الأداء الصوتي و تلوينه حسب الفكرة التي يريد إيصالها ، و لكن يغلب على حديثه كثرة الضحك الذي تنتقل عدواه إلى جمهور المستمعين على فترات ، فبعض الضحكات تأتي في سياق يخصه وحده قد يبادله البعض بإبتسام و لكن بعض الضحكات المبرمجة تأتي بطريقة لا يملك معها الجمهور إلا مشاركته فيها و سيأتي تفصيل ذلك لاحقاً .
اللجوء إلى استخدام العامية البسيطة في حالة القضية التي يريد أن يرسل فيها رسالة مكثفة قوية ، فهو يلجأ إلى استخدامها بكثرة للإقناع و انتزاع ضحكات الجمهور ، مع التركيز على استخدامها بشكل كاريكاتوري في معظم الحالات بمعنى أنه لا يتحدث بها بتلقائية بل بطريقة تهكمية في كثير من الحالات .
المحاكاة كوسيلة من وسائل السخرية من الخصم تحضر بكثرة في خطابات الدكتور الترابي ، سواء أكان الخصوم سلفيون أو صوفية أو مسؤولون حكوميون أو معارضون في فترة سابقة . و هي أكثر تقنية يستخدمها لإنتزاع ضحكات الجمهور ، و تأتي المحاكاة بعد مقدمة بالفصحى و العامية تنتقد الخصم و تهيئ الحضور ، و تكون الضحكات دلالة اقتناع بالرسالة السابقة للمحاكاة و تأتي الضربة القاضية بالمحاكاة و الضحكات التي تليها التي تعطي الشيخ مؤشر على مدى قبول الجمهور لأفكاره التي سبقت المحاكاة فينتقل إلى نقطة أخرى . و ليس بالضرورة أن تكون المحاكاة بقول قاله الخصم فعلاً و إنما يلجأ الشيخ أحياناً إلى المبالغة في تصوير مفارقة الخصم للمنطق و الحكمة و ذلك بتقويله قول ينطلق من الصورة النمطية للخصم و التي حاول الشيخ تكريسها بنقده السابق للمحاكاة مثل تخيله لتفسير أحد السلفيين لآية "وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ۚ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُون ) و ذلك بقوله بلهجة نجدية ساخرة ( السلاح حرام الطائرات حرام ، ليش ما تطيعون الله و تستعملون الخيل ، و أنتم يا أهل إيران ليش تتسلحون ليش ما تستعملوا الخيل ، في آسيا هناك خيول طيبة ) و يكثر الشيخ من استخدام لهجة أهل نجد في المحاكاة الساخرة من التيار السلفي و لكنه في مقابلة مع صحيفة عكاظ أجاب على سؤال : * دعني أستوقفك هنا يا شيخ حسن، وأنت عندما تستشهد بأقوال المعارضين من العلماء ..تنطقها باللهجة النجدية، ما القصة تحديداً.. وما المغزى النفسي لذلك؟...
الترابي: ( يتكلّم لهجة واحدة كل العلماء "المنغلقون" الذين لا يعرفون مساقات الحياة وأوجه الابتلاء الأخرى غير ما يعكفون عليه من أمور اعتقاد وشعائر ولايذكرون هدى الدين فيها إلا حدوداً لها مصطلحاتها التي لا تعرف النسبية في وقع التكاليف وكسب التديّن. فتوحيد الحياة كلها عبادة، وتوحيد مدى الكسب في الحياة بكل درجة لا يقدّرونها. وهذا مثال للمصطلح المحصور واللغة المحدودة ) ... لم يقل أن ذلك يكون للسخرية و إضحاك الجمهور و إنما جعل من هذه "السلبية" التي تميز خطاباته الجماهيرية احدى إيجابياته التي يلوم "العلماء المنغلقون" على عدم توفر مثلها لديهم ، تخيلوا لو أن أحد علماء نجد استجاب لدعوة الترابي و قرر الرد عليه ساخراً باللهجة السودانية بعد أن يعجن اللهجة و يشوهها و يحاكيه و يقوله ما لم يقله بطريقة كاريكاتورية ساخرة لإضحاك الحضور ، هل كان الترابي سيعد ذلك شئ إيجابي يخرج هذا العالم من زمرة "العلماء المنغلقين" الواقعين تحت أسر "المصطلح المحدود" و "اللغة المحدودة" ؟! . تخيلوا مثلاً لو أن أحدهم خاطب حشداً من الناس و حاكى الترابي قائلاً ( انت يا زول لي تسلي وراء رجل ؟ لازم انت وراء هُرمة تسلي ، هٌرمة شهادة هقو يجي زيادة من شهادة هق زول دكر ، بأدين ليه كل نفر كلام سلف سلف ، سلف دا تأبان و ما إندو إلم و كلام هقوا كلو قديم تأبان أشان كدا لازم نسوي تجديد و أنا ما سني و لا شيئي أنا هاجة كبير كبير مرررة ، و مسيهي يهودي كلو لازم هو يجي يتزوج هرمة مسلم .... الخ ) ، هل كانت هذه المحاكاة المعاكسة ، و المشوهة للغة و الفكرة ستخرج هؤلاء من محدودية اللغة و المصطلح ؟! علماً بأن هذه هي طريقة بعض العرب عندما يحاولون تقليد السودانيين ، إذ المعروف أن أي محاكاة فيها مبالغة ، و المبالغة في حالة محاكاتنا تكون بتضخيم انحراف السودانيين عن النطق السليم للحروف و الكلمات ، علماً بأن الترابي قد يكون أبلغ و أفصح من كثير ممن قد يقلدونه لو وجدت دعوته إياهم لأن يفعلوا مثله استجابة !
يقف الترابي السياسي أحياناً أمام طلاقة الترابي المفكر المجدد ، فأحياناً يبدأ الفكرة و يسترسل فيها و ينتقد جملة ممن يقفون في طريقها و ينتبه في غمرة اندفاعته أنها ستصيب ببعض رشاشها حلفاء السياسة فيلجأ إلى تخفيف النقد أو الإستدراك الذي يخرج حلفاءه من المقصودين بنقده ، مثال لذلك سخريته من فكرة المهدوية : ( قام كم مهدي في العالم ؟ .. إنتو طبعاً عندكم مهدي هنا في السودان . أنا ما بطعن في نياتهم و إخلاصاتهم الناس ديل . لكن فكرة المهدي دي ، قام كم مهدي في العالم ؟ .. أعداد ) يمكن بسهولة ملاحظة الإستدراك السريع الذي عطل إنطلاق الفكرة و إنتهى إلى خلاصة مفادها أن هناك عدد من المهديين ظهروا في العالم و كان يمكن تخيل كمية السخرية التي يمكن أن توجه لفكرة المهدي بنسختها السودانية لولا النسب العائلي و التحالف السياسي .الملاحظ أن الترابي المفكر المجدد يكون عادةً أكثر انتقاداً لخصومه الفكريين ممن يختلفون معه سياسياً من أؤلئك الذين يختلفون معه فكرياً و يتحالفون معه سياسياً ، و يصور الخصوم كعقبات في طريق التجديد ، و يجد العذر للخصوم الفكريين المتحالفين معه و يتحدث في نقاط التلاقي أكثر من نقاط الخلاف. يسعى الترابي من خلال تجديده وانفتاحه إلى زيادة قاعدته الجماهيرية و لكن الواضح أن النتيجة معاكسة ، إذ لا تجذب مثل هذه الخطابات من القواعد الشعبية إلا تلك المرتبطة به أصلاً و حتى بعض هؤلاء كثيراً ما تحرجهم جرأة الرجل ، فجملة المواقف السياسية ، و الفكرية التجديدية قد تفيد في تسويق الحزب لدى حلفاء السياسة من قبائل اليسار العلمانيين و تقوية تحالفه معهم لا إقناعهم بأفكاره أو جلب أنصار جدد . يسعى الترابي المفكر أن يخدم الترابي السياسي ، و مهما قيل ألا انفصال بين الإثنين فالإنفصال يظهر جلياً أحياناً في براغماتية الترابي السياسي الذي حكم ،أو ساهم بدرجة كبيرة في الحكم ، في فترة التسعينات التي يمكن إعتبارها التجسيد العملي لكل ما ينتقده الترابي المفكر .
ترقيق الصوت و مط الكلمات و رفع الصوت و تخفيضه و إمالته لجعل الكلام أكثر وقعاً في آذان السامعين . و غالباً ما يكون الموضع الذي يحدث فيه ذلك هو الموضع الذي يسخر فيه من فكرة أو شخص ، و يتم هنا المزاوجة بين حركة الجسد بكامله مع الحركات التعبيرية بالوجه مع حركات الأيادي مع الأداء اللغوي لأسر السامعين و السيطرة الكاملة عليهم حتى لو كانت الفكرة التي يريد إيصالها عادية أو تتناقض مع قول سابق له . فمثلاً يتحدث الشيخ في ندوة جامعةوالخرطوم الشهيرة. عن القضاة قائلاً ( إنهم يقولون لمن يتقاضون أمامهم نحن مساكين عايزين نعيش ما بنقدر نعاكس رأي الحاكم انتو امشوا اتسجنوا نحن ما بنقدر نعمل ليكم حاجة ) و يسوق هذا الكلام بلغة تتوفر فيها الخصائص المذكورة في بداية هذه الفقرة ، و المستمعون الذين وقعوا في أسر هذا الأداء المسرحي الإحترافي لا يملكون إلا الإستجابة بالضحكات العالية دون اعطاء أنفسهم حق سؤاله عن حال القضاة في فترة حكمه و عن مدى إنطباق ذلك عليهم ، بل و عن مصداقية هذا الكلام بهذه الصورة الصادمة ، فحتى لو تم إثبات أن هناك تدخلات سياسية ، لا يمكن تصوُّر أن يعترف القاضي أمام المتقاضين بأنه مأمور و مسكين و أنه سيضطر إلى سجن أحدهم طاعةً للأوامر و حفاظاً على وظيفته .
يسرف الشيخ في انتقاد خصومه السلفيين فيما يتهمهم به من الخضوع للحكام و تطويع الفتاوي لصالحهم و لم يعهد عنه نقداً لهم يشبه هذا في فترة حكمه ، و لكنه لا يعبأ بذلك و يتكلم و كأنه لم يكن حاكماً يستفيد مما يتهمهم به بل و يقرِّع من يفكر منهم في نقد الحاكم بل و تم سجن بعضهم في فترة حكمه ، و هنا يمكننا ملاحظة أن فترة حكم الشيخ لم تشكل لديه عقبة تجعله يحتاط عند الحديث بل هو يتحدث في كثير من الأمور بحديث صاحب الوعود المثالية الذي سيقيم الدولة المثالية ( Utopian State ) . و يستخدم هذه المثاليات كأداة إقناعية لا تقاوم بالذات لدى تلاميذه الذين يسرفون في تمجيده حتى أصبحوا في الفترة الأخيرة يكثرون من الترضي و الصلاة عليه بقولهم ( صلى الله عليه و سلم ، رضي الله عنه ،عليه السلام ...الخ ) لذلك هو يمضي في حديثه غير آبه بما يقع فيه من تناقض اعتماداً على قدسية رأيه بين "كثير" من أتباعه مما يحول بينهم و بين تلمس معالم أي تناقض في المواقف أو الرأي. و له قدرة على تبرير أقواله السابقة ، مثلاً في رده على سؤال عن وصفه للبشير ب"هدية السماء" ( س: هذا العسكري ألم يكن هو هبة السماء بالأمس ؟ ( ج...والشيطان الملعون هو ايضا هبة السماء ..حينما اقول هبة السماء اى ان الله وهب لى زول سااى انت الذى جالس امامى يمكن ان اقول انك هبة السماء لانك قطعا لست هبة من احد .) و كلنا يعلم أنه عندما قال ذلك لم يقله بهذا المعنى بل كان مبالغة في المدح ، و كان في الأمر سعة فبدلاً من إفراغ مقولته ألأولى من مضمونها بمثل هذه الطريقة غير المقنعة كان بإمكانه أن يقول مثلاً حقاً قلت ذلك و لكن اتضح لي لاحقاً أن الأمر غير ما كنت أظنه .
يسرف الشيخ أيضاً في الحديث بتأفف عن عقلية العسكريين و مسألة الأوامر و الطاعة و التنفيذ دون مناقشة التي تحكم عملهم ، و يستخدم كل تقنياته الإقناعية لتكثيف هذه الرسالة و توصيلها و كأنه قد اكتشفها للتو و لم يكن العسكريين هم وسيلته التي اعتمدها لبلوغ السلطة و قال في مدحهم الكثير ، إذ سمعته في ندوة حضرتها في التسعينات يتحدث بإعجاب مبالغ فيه عن عسكر السودان و عدد مظاهر تميُّزِهم و إسلاميتهم ، و سمعته في ندوة في قطر متوفرة على اليوتيوب كانت في سنة 1995 يتحدث عنهم بذات اللغة ، و قرأت له في مقابلة مع "الشرق الأوسط" تمت بعد المفاصلة أنه لم يكن يرغب في أسلمة الجيش و لكن "هو" يقصد البشير أصر على تسييس الجيش و أسلمته !
ينتقد الترابي بعض الممارسات التي يعلم تمام العلم أن خطابه نفسه هو ممارسة لها : ( ''الارتهان للشيخ هذا أو ذاك أو العالم إنما يجمد عقلك، وينبغي أن تمضي حراً ومبدعاً'') بينما نجده ينتقد بقسوة كل من يحاول أن يمارس ذلك بالسخرية اللاذعة منه ، و أنه في شخصه يمثل حالة مشيخية مزمنة لا فكاك لأنصاره المقربين منها ، و ينتقلون معه بمنتهى السلاسة و دون أي تحفظ سواء في نقلاته السياسية أو الفكرية التجديدية الجريئة !
يزاوج الشيخ الترابي بين النخبوية و الشعبوية في خطاباته ، و عندما يلجأ إلى الشعبوية يأتي بمقولات مثالية يقولها ببراءة تامة و كأنه لم يتم إختبار إلتزامه بها من قبل ، و لم يُعهد عنه خطابات مماثلة أيام حكمه ، فلو صدقنا مثلاً أنه كان يؤمن بعكس ما كان يتم ممارسته على أرض الواقع في فترة وجوده في السلطة لأنه - بحسب دعواه - لم يكن المتحكم الوحيد في الأمور و أنه كان يجد معاندة من بقية زملاء الحكم ، فإن هذه الحجة عدا عن ضعفها فهي لا تكفي ، حتى لو صدقت ، لتبرير غياب هذا النوع من الخطاب في ذلك الوقت ، لم تكن الصورة في كافة المجالات وردية بل كانت في كثير من المجالات أسوأ بكثير ، و مع ذلك كانت كل خطابات الترابي و ندواته و مقابلاته مكرسة للدفاع عن النظام ، و لم يعهد عنه سخرية من العسكر أو الحاكم العسكري المتجبر الذي يأمر فيطاع و لا تحريض للجماهير لأخذ حقوقها ، و لا حديث للأقاليم عن مظلوميتها ، بل واحد من أهم الأسئلة التي يمكن أن توجه للترابي : كيف كان وضع دارفور في عهد مشاركتك في السلطة ؟! و ما الذي قدمته لها و ما الجديد الذي طرأ عليها بعد المفاصلة و الذي ترى أنه برر التمرد إبتداءاً ؟! .. و الترابي يتحدث بمثالية عن طريقة صياغة الدساتير التي ينبغي أن تكون شأناً عاماً ف( الدساتير تكتبها الشعوب ) ! بينما يتباهى تلاميذه بأنه كاتب دساتير الإنقاذ و أنه كاتب دستور 1998 ، و كان بعضهم يعير الحكام بأنهم حتى بعد المفاصلة ظلوا ردحاً من الزمن يحكمون ب"دستور الترابي"!!! بينما كانت لجنة الدستور برئاسة مولانا خلف الله الرشيد الذي تحدث عن دور الترابي قائلاً : (، الترابي نقّص مساحة الحريات التي كانت فيه وعدّل كثيراً من التفاصيل، والغريبة عندما حدث الخلاف قال: العيب في الدستور، في حين امتدحه في الأول.)
الإستدراك السريع : في استرساله كثيراً ما يستدرك الشيخ الترابي و يغير كلمة -أو جملة - بعد أن يكون قد نطقها كاملة أو نطق معظمها و خاصةً الكلمات التي تتناقض أحياناً مع بعض أفكاره ، فهو مثلاً يقول دائماً أنه ليس مفتي و أن اجتهاداته مجرد آراء و في إحدى المقابلات قال متحدثاً عن ظروف أول فتوى تتعلق بزواج النصراني من مسلمة فقال : ( إذا كان الأمر لا يعرضها للفتنة ، في (هناك) بلاد الآن لا يعرضها للفتنة ، هي الآن لا تصوت معه في حزب فضلاً أن .. هو أحياناً ليس له دين ، مسيحيته ليست سوى موروثات ، قد لا يؤمن كثيراً بالمسيح ، حتى ترتد للمسيحية فذلك مستبعد جداً ، و نحن كذلك لا نحمل زوجتنا الكتابية على أن تبدل دينها كرهاً ، طوعاً .. فحدثت ، أفتيت ، ما أفتيت ، غايتو قلت للناس قولة حول مشاكل ، كن يقدمن على الإسلام أسبق من أزواجهن ، فكانوا يصدونهن ، فقلت لا تفعلوا ذلك ، و لو قرأتم كتبكم السلفية لوجدتم ذلك ) .. استدرك الشيخ كلمة أفتيت و لكن كان هناك ما هو أولى بالإستدراك ألا و هي الحجة التي ساقها لتقوية رأيه : لادينية الزوج ، فهل هذه تقوي الحجة أم تضعفها ؟ اللادينيون كفار و أقرب للشرك الذي لا زال يرى أنه يقف حائلاً دون زواج المسلمة حتى بعد أن طور الفتوى/الرأي إلى جواز زواج اليهودي و المسيحي من المسلمة إبتداءاً !!! هذا فضلاً عن عدم توضيح الشيخ لقولته " كانوا يصدونهن" !
يستسهل الشيخ الترابي الإنتقاد الجماعي ففي فترة حكمه أرجع مشاكل مشروع الجزيرة إلى "كسل المزارعين" ، و فيما بعد المفاصلة أرجعها إلى "فساد المسؤولين من المشروع و من يعلونهم" . و في حوار مع صحيفة عكاظ أقر بكسل السودانيين و أخذ يجتهد في رد ذلك الكسل إلى جذور يرى أنها تتسبب فيه ، و أيضاً في ذات الحوار تحدث عن ضعف الدين لدى بعض قبائل السودان العربية ( عندنا بعض القبائل العربية المغرقة في بداوتها والذين إذا أقسموا بالله ولم تُصدّقهم يقولون لك: واللات والعزى، وهم لا يُدركون الأصول الجاهلية لذلك بل هو قسم موروث) و غيرها من الحالات الشبيهة و هذه تضعف من قدرته الإقناعية إذ تستعدي بعض القطاعات مسبقاً و له بعد المفاصلة خطابات مشهورة في انتقاد جهات من السودان و اتهامها بالسيطرة على السلطة و الثروة على حساب مناطق أخرى . فالنقد الجماعي لفئات كالجيش مثلاً و مناطق و مهن فمثلاً قد يسخر من مهنة لمجرد أن خصماً له قد مارسها غير عابئ بأن رشاش تلك السخرية قد يمس بعض مناصريه من ممارسي تلك المهنة .
يلجأ الترابي أحياناً إلى الإشارة إلي الخصوم دون تسميتهم و يقرعهم بلغة تدرّٓب تلاميذه على فك طلاسمها فيبادلونه بالضحكات المجلجلة . و هذا النوع من النقد من أكثر ما يأخذه خصوم الشيخ عليه . و خاصة حين ينتقد بعض خصومه في الحكم بأشياء تعاكس تماماً رأيه فيهم و في أشياء بطبيعتها ليست عرضة للتبدل مثل القصة التي رواها الدكتور التجاني عبد القادر ( أذكر في هذا الصدد أني التقيت بالدكتور الترابي في لندن أواخر عام 1988م أو أوائل عام 1989م، وكان فى زيارة خاصة إلى بريطانيا، ولكنه كان يتعجل العودة إلى السودان، وذلك أبان حكومة الصادق المهدي ومعارضة الجبهة الإسلامية لها، وكان يبدو عليه القلق ويتخوف من مقالب السياسة السودانية، ثم ذكر لي أنه لولا وجود الأستاذ علي عثمان لأزداد خوفه وقلقه، ولكن وجود علي عثمان على القيادة السياسية للتنظيم يعيد إليه الاطمئنان، لأنه لا أحد من قيادات الأحزاب الأخرى يستطيع أن يخدع علي عثمان، «وهذا نص حديثه» ثم ذهب يعرض بما وقع للقيادات الأخوانية الأخرى في تعاملها مع الشريف الهندى والصادق المهدى إبان معارضة الجبهة الوطنية لحكومة جعفر النميري في السبعينيات، مفضلاً الأستاذ علي عثمان على تلك القيادات التي تكبره في السن. فقلت له: ألا يرجع ذلك للتجربة التنظيمية الطويلة التي أتيحت للأستاذ علي عثمان؟ فنظر إلى بامتعاض ثم قال: «مش التجربة ، المخ ، المخ» ، وأشار إلى رأسه، أي أن علي عثمان لم يتميز بفضل التجربة التنظيمية الطويلة فحسب، وإنما تميز برجاحة العقل. )) فهذه الرواية تناقض قوله ( وعلى عثمان ليس نديدى ولا دفعتى ولا انا شايقى ولاتربيت بالخرطوم ولكن هو الذى وجدناه حينما احببنا ان نشرك الشباب غيره هاجر للعلم وللمال وللولايات فاعطيناه منصب نائب الامين العام وانت تعلم انه منصبا شرفيا فقط بلامسئوليات ) فهذين القولين يتناقضان و لكن أيضاً يستبطن أولهما اتهاماً "للقيادات الإخوانية الأخرى" التي تعاملت مع الشريف الهندي و الصادق المهدي في السبعينات ، و أيضاً لتلك الموجودة بالداخل من الشباب الذين لم "يهاجروا للعلم و المال" بأن أفضلهم كان متواضع القدرات !!
يلجأ أحياناً لتقنية لكل مقام مقال بطريقة قد تجلب له النقد و الإتهام بالتقلب فالمتابعة الجيدة تكشف عن بعض مظاهر تطبيق هذه المقولة بطريقة تتنافى مع السياق الطبيعي و المقبول الذي ترد فيه ، فالترابي في الشمالية مثلاً له كلام يختلف عن كلامه في دارفور مثلاً ، في الشمالية يكون الخطاب مركزاً على انحرافات الحاكم و التهميش الذي تعاني منه الأقاليم بما فيها الشمالية بولايتيها و عندما يخاطب أهل دارفور مثلاً يحدثهم بخطاب مماثل مع إضافة بعض الغمز من قناة المركز و هاتين الولايتين ، فمثلاً في قضايا السدود تحدث الشيخ كثيراً عن مظلومية المتضررين من قيام سد مروي و لكنه لأهل دارفور يتحدث عن محاباة المركز لمتضرري سد مروي ! و قد قال ذات مرة : ( ابنوا لأهل دارفور مساكن كما بنيتم لمتضرري سد مروي ! و أنا هنا لا ألومه على المطالبة بإعطاء أهل دارفور حقوقهم و لكن فقط استغرب للمقارنة هذه تحديداً فالتعويضات بالمنازل و غيرها تمت لكثيرين في مناطق مختلفة من السودان تضرروا من سدود و شوارع و جسور و غيرها.
يكرس الرجل صورته كرجل استثنائي يؤثر و لا يتأثر ، لذلك لا نكاد نجده يعترف بأحد من السلف أو الخلف و حتى من يلتقي معهم لا يعطيهم حقهم من الإطراء أو حتى مجرد الذكر إلا فيما ندر ..( * لنعد إلى سيرتك ونسألك عن الشخصيات التي تأثرت بها في تلك السن الصغيرة،طبعاً يبقى الفتى في تلك الفترة يبحث عن نموذج وقدوة ينجذب إليها كما تعلم؟
الترابي - لعلّ الكتّاب تكاثروا عليّ لدرجة ما تركتني أنجذب لأحد منهم ولا أبالغ في ذلك لأني كنت كثير القراءة لاسيما في الجامعة ) فهو ينشغل تماماً بذاته كمصدر فكر و إشعاع يجب أن يتجه التلاميذ إليه مباشرة بدلاً من الإتجاه إلى ملهميه إذا كان قد اعترف بهم و تحدث عنهم ، و إن كان ثمة إعتراف بشئ فهو فقط بسعة الإطلاع .
خاتمة :
الدكتور الترابي شخصية فذة ذات قدرات استثنائية ، له قدرات غير منكورة في إقناع مستمعيه من المعجبين به ، و لكن طريقة الأداء المسرحي هذه رغم أنها تأسر أتباعه و عبرها يستطيع أن ينقلهم بسلاسة معه في انتقالاته الفكرية و السياسية ، إلا أنها تفعل العكس لدى غيرهم ، فالإسراف في الأداء المسرحي يضعف من حظوظ الإستماع الجاد للقضايا الجادة التي يخوض فيها بعمق و لكن بطريقة هزلية ساخرة ، فضلاً عن أنها توصد الباب تماماً أمام فرصة اقتناع الخصوم الفكريين بها ، فلو ركز الشيخ على الحجج المضادة للرأي الآخر و التي لا تنقصه البراعة فيها بطريقة جادة و بلغة هادئة توضح وجهة نظره بعيداً عن العدائية التي تميز لغته عندما يتحدث عن خصومه و السخرية التي تغلق مباشرة باب النقاش أو التفهم ، لكان ذلك أدعى لتوصيل رسائله . و ملاحظة أخرى أن أغلب خطابات الرجل لا تخلو من خصومة مع جهةٍ ما أو رأيٍ ما و استهدافها و القسوة في نقدها أحياناً في ذات المحاضرة التي يكون عنوانها احترام الآخر و حرية الرأي و حرية الإجتهاد إذ كثيراً ما تتوارى الحجج المضادة التي يمكن أن تتناسب مع سياق المحاضرة أو تتقزم لمصلحة السخرية التي تشكل مفتاح الإقناع لديه . و السخرية قد تنجح في جذب إنتباه السامعين و إضحاكهم و مرمطة الخصم و لكنها تعطي إنطباع ، قد يكون كاذباً ، عن شخصية عدوانية تستلذ بمرمطة الخصم و الإستهانة به و عدم إحترامه . مما يثير علامات إستفهام لدى كثيرين لا يهضمون بسهولة فكرة أن داعية التوافق بين الأديان المرن جداً غير السني و لا الشيعي و المتعايش مع العلمانيين سياسياً و إلى حد ما فكرياً ، يكون في ذات الوقت تجسيد عملي لكل ما يناقض ذلك في حالة خصومه من الإسلاميين من السلفيين إلى الصوفية أو غيرهم .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.