في عام 1994م قمت بزيارة لمكتب الحركة الشعبية السودانية في مقره آنذاك بالحي السابع في ضاحية مدينة نصر بالعاصمة المصرية القاهرة. وقد كان الغرض من تلك الزيارة مجرد التعارف وتبادل الآراء والأفكار. وكان مسؤول المكتب وممثل الحركة المعتمد رسمياً على نحو غير معلن لدى الأجهزة المعنية في الدولة بمصر في تلك الفترة هو السيد دانيال كودي. وفي تلك المرحلة كانت معاناة الحركة من التيار القومي الذي انشق عنها عام 1991م بقيادة كل من د. رياك مشار ود. لام أكول وآخرين قد بلغت درجة شديدة الحدة وثقيلة الوطأة في التأثير عليها. وعلى ما يبدو فإن اختيار قائد الحركة وملهمها ومرشدها د. جون قرنق في ذلك الحين للسيد دانيال كودي لتمثيل الحركة لدى القاهرة لم يكن مسألة تمت دون دراسة هادفة لتحقيق رسالة واضحة، فقد شهدت تلك الفترة الإعلان عام 1994م عن مبادرة إيقاد لإيجاد تسوية سلمية للحرب الأهلية التي كانت قائمة من جانب الحركة بجنوب السودان ومنطقة جبال النوبة في مناهضة ومقاومة مسلحة للسلطة السودانية المركزية الحاكمة من مقرها وموقعها المتميز في مقرن النيلين الأبيض والأزرق بالعاصمة القومية المثلثة. وكان الإعلان عن تلك المبادرة التي أسفرت في خاتمة الطواف ونهاية المطاف عن انفصال جنوب السودان عن الشمال وإقراره في عام 2011م بناءً على الالتزام باتفاقية السلام المبرمة عام 2005م.. كان الإعلان عن تلك المبادرة على النحو الذي تم في عام 1994م قد جاء بعد أن تعثرت وتعذرت وفشلت محاولة مستميتة بذلتها الإدارة الامريكية الحاكمة في البيت الابيض بواشنطن عام 1993م لتحقيق مصالحة بين قرنق والمناهضين له من الجنوبيين الذين انشقوا عليه عام 1991م، مما أدى لدخول الأطراف والأجنحة المتصارعة والمتنازعة في معركة داخلية دموية طاحنة وشرسة أسفرت عن ضحايا فاقت أعدادهم وتجاوزت الأعداد السابقة المتضررة من الحرب الأهلية في المعركة المعارضة للحكومة السودانية المركزية. وبناءً على هذا فقد كان اختيار قرنق لدانيال كودي ابن جبال النوبة والمسيحي الديانة لتمثيل الحركة لدى القاهرة في تلك المرحلة قد جاء على ما يبدو ولأسباب وأهداف لا تخفى في الأجواء التي كانت سائدة والأوضاع في الحركة الشعبية والتوجهات والمواقف المعلنة والمعتمدة لدى الأطراف الإقليمية والدولية المهتمة والمؤثرة والمنخرطة في تقديم المساندة وتوفير المؤازرة للحركة والدخول معها في تفاهم وتشاور وتنسيق. وعلى ما يبدو فقد أراد قرنق بذلك الاختيار إرسال رسالة طمأنة للقاهرة بالإضافة إلى حلفائه من المعارضة السودانية الممثلة للشمال والتي كانت متحالفة مع الحركة الشعبية ضمن ما يسمى التجمع الوطني السوداني المعارض في المنفى آنذاك. وكما هو واضح فقد كانت رسالة الطمأنة المشار إليها متعلقة بالتأكيد على مدى حرص الحركة الشعبية بقيادة قرنق على الوحدة الوطنية للشعب السوداني في الشمال والجنوب. وبناءً على مثل هذه الرؤية وتلك الأجواء جاءت زيارتي المشار إليها لمكتب الحركة في القاهرة عام 1994م، واللقاء مع دانيال كودي حيث دار الحوار بيننا حول ما كان يجري في الحركة من صراع داخلي دامٍ وحامي الوطيس، والأسباب التي أدت لذلك والجهات التي تدفع به او تقود إليه وتقف من خلفه. وباختصار شديد فقد أعرب دانيال كودي عن رأيه وتأييده للاعتقاد الذي كان سائداً لدى التيار المحوري في الحركة بقيادة قرنق في تلك الفترة، حيث كان يرى ان ما يجري داخل الحركة على النحو الذي يقوم بها د. رياك مشار والذين انشقوا معه عام 1991م لا يعدو كونه مجرد مؤامرة خارجية تقودها بريطانيا والأجهزة المعنية بمثل هذه المؤامرات فيها ممثلة في المخابرات البريطانية. وقد كان الزواج بين رياك مشار وزوجته البريطانية الراحلة السيدة «إيما» من الأسباب الرئيسة التي يستند عليها مثل ذلك الاعتقاد لدى تيار قرنق في الحركة الشعبية. وربما كان هذا هو السبب الذي أدى الى حادث الحركة المرورية الذي تعرضت لها الراحلة «إيما» وأودى بحياتها في كينيا عندما كانت تعمل في منظمة إغاثة مهتمة بالأوضاع الإنسانية في الجنوب آنذاك!! بيد أن الذي أفضى للعودة الى ما يجري في تلك الزيارة التي تمت في القاهرة عام 1994م والحوار الذي دار خلالها مع دانيال كودي، هو أنني كنت قد تساءلت أثناء ذلك الحوار عن الأسباب التي جعلت كودي وأمثاله من أبناء المناطق التابعة لشمال السودان ينخرطون في الحركة الشعبية ذات الطابع الجنوبي الطاغي، والذي ربما قد ينتهي بها للانفصال بدلاً من الانتماء للقوى السياسية الوطنية الأخرى الأكثر حرصاً على الوحدة وأكثر تعبيراً عنها حتى ولو كانت في إطار علماني مثل الحزب الشيوعي على سبيل المثال.. وقد كان ما أدلى به دانيال كودي في رده على ذلك التساؤل، هو أنهم في القطاع الشمالي بالحركة الشعبية يعتقدون أن الحزب الشيوعي هو مجرد حزب شمالي برجوازي، وان الضعف الذي يعاني منه هذا الحزب هو الوضع الأمثل والفرصة المهيأة والسانحة التي ستتيح للحركة الشعبية أن تحل محله وتمضي في التقدم والتوغل على المسرح السياسي للعمل الوطني العام في السودان. وهكذا فإنه لا توجد حاجة للإشارة الى ان مثل تلك المراهنة من جانب دانيال كودي لم تكن في محلها. وهذه رسالة نرجو أن تتم الاستفادة منها من جانب الأستاذ ياسر عرمان، وما يسمى بما تبقى من قطاع الشمال في الحركة أثناء المفاوضات الراهنة بأديس أبابا.. وستكون لنا عودة. تنويه: سقطت كلمة منطقة «بارا» في هذا العمود أمس، وذلك لدى الإشارة لزيارة السيد محمد عثمان الختم للمنطقة وزواجه منها والآثار التي ترتبت على ذلك كما أشار لها د. قيصر موسى الزين في المحاضرة التي أدلى بها وقمنا بعرضها.