زقاق المدق، زقاق من أزقة منطقة الحسين يسكنه مجموعة من الأشخاص تربطهم علاقات الجيرة والقرابة، حميدة "شادية" الفتاة اليتيمة الطامحة لحياة أخرى أكثر تحررا ورفاهية، تتم خطبتها لحلاق الزقاق عباس الحلو "صلاح قابيل" الذى يقرر السفر الى معسكر الانجليز ليحصل على مال أكثر يكفى به احتياجات حبيبته حميدة، بعد سفره يقوم قواد محترف فرج "يوسف شعبان" بإغواء حميدة، وبعد تورطها تنغمس فى حياتها الجديدة وتنسى عباس وأهل الزقاق، وعندما يعود عباس ويعلم من أهل الزقاق بهروب حميدة، لا يصدق و يقرر البحث عنها، لكنه يفقد الأمل بعد أن يكون قد بحث عنها فى كل مكان، الصدفة وحدها تجمعه بحميدة مرة ثانية فى ليلة مظلمة يملأ صداها صوت صافرة إنذار الغارة، يكتشف حقيقة عملها، فيقع بين عذابين عذاب حبه لها وعذاب انتقامه لكرامته وشرفه، يقرر الذهاب إلى فرج لينتقم منه لكن رصاصة طائشة تصيب حميدة، يحملها عباس ويتجه بها إلى الزقاق ليحاول انقاذها، لكنها تلفظ نفسها الأخير فى قلب الزقاق الذى خرجت منه. زقاق المدق هو أحد الأزقة المتفرعة من منطقة الحسين بحى الأزهر بالقاهرة، وهو زقاق صغير شعبى يتفرع من شارع الصناديقية الموازى لشارع الأزهر، وقد سمى بهذا الاسم حيث كانت تطحن فيه التوابل قبل نقلها إلى سوريا. وزقاق المدق هو رائعة من روائع نجيب محفوظ ترصد الواقع المصرى خلال الحرب العالمية الثانية، ولقد بدأ محفوظ أحداث الرواية بوصفه للزقاق فيقول: "تنطبق شواهد كثيرة بأن "زقاق المدق" كان من تحف العهود الغابرة، وأنه تألق يوماً فى تاريخ القاهرة المعزية كالكوكب الدرى. أى قاهرة أعنى؟ الفاطمية؟.. المماليك؟.. السلاطين؟.. علم ذلك عند الله وعند علماء الآثار، ولكنه على أية حال أثر، وأثر نفيس.. كيف لا وطريقه المبلط بصفائح الحجارة ينحدر مباشرة إلى الصناديقية، تلك العطفة التاريخية، وقهوته المعروفة بقهوة "كرشة" تزدان جدرانها بتهاويل الأرابيسك، هذا القدم باد، وتهدم وتخلخل، وروائح قوية من طب الزمان القديم الذى صار مع مرور الزمن عطارة اليوم والغد". تعجبني في السينما تلك الأفلام التي تجرأت فاقتحمت نصا أدبيا مشهورا ظل لسنين 0 قصرت أم طالت – عالقا في قلوب وأذهان الناس ، وكثيرا ما أعقد مقارنة بين الفيلم السينمائي والنص الأدبي ، وغالبا ما تكون النتيجة لغير صالح السينما ، طبعا أعني بذلك النصوص الأدبية العظيمة والروايات التي كتبها روائيو عظماء حفروا أسماءهم بقوة وثبات في ذاكرة البشرية .. روايات قد تصور سينمائيا وقد تعرض مسرحيا ..ولكن يظل نصها الأصلي المكتوب على الورق أمتع وأكثر جمالا ورقة وإقناعا أيضا . من منا لم يقرأ قصة " زقاق المدق " أو" حميدة " للكاتب الكبيرالفائز بجائزة نوبل نجيب محفوظ ؟ إنها واحدة من عدد كبير من قصص نجيب محفوظ التي نقلت إلى السينما ..سبقتها قبل ذلك " بداية ونهاية " و"اللص والكلاب " و" السمان والخريف "، وتبعها بعد ذلك " الشحاذ والطريق " و" أهل القمة " و" الكرنك " وسواها الكثير ، وحقيقة تراث السينما المصرية يرتكز في أساسه على تلك القصص الرائعة لكتاب أمثال نجيب محفوظ وإحسان عبدالقدوس ويوسف السباعي ويوسف إدريس ، وذلك الجيل من العمالقة الذين أثروا حياتنا بدرر خلدها التاريخ وما يزال ، وأحيانا يخيل لي ما من قصة كتبها المبدع نجيب محفوظ إلا ووجدت طريقها إلى الشاشة الفضية ، تضيئها وتضيء لنا قلوبنا وعقولنا وأحاسيسنا ، بل يمكن أن نقول أن أدب نجيب محفوظ ساهم مساهمة حقيقية في إثراء السينما المصرية فكريا وإنسانيا وإجتماعيا ، وأنها ما كانت ستصل إلى ما وصلت إليه لولا هذه القصص الرائعة التي عرفت كيف تتغلغل في أعماق النفس البشرية وترسم مسارا لعواطفها وأهوائها وجموحها وتمردها وأصالتها . فيلم زقاق المدق من إنتاج عام 1963 ، سيناريو وحوار سعدالدين وهبة ومن إخراج حسن الإمام ، بطولة الفنانة المعتزلة شادية والفنان الراحل صلاح قابيل ، إلى جانب حسن يوسف ، يوسف شعبان ، توفيق الدقن وعبدالمنعم ابراهيم ، والقصة تدور حول " حميدة " لدرجة أن البعض يقول فيلم " حميدة " وهي بنت البلد التي يحبها عباس الحلو وتدفعه للسفر للعمل في أحد معسكرات الجيش البريطاني ، ويظهر في حياة " حميدة " فرج القواد الذي يدير حانة كبيرة ، ويستطيع أن يسلب لب حميدة ويسلب شرفها أيضا ، فتصبح راقصة يقدمها للضباط الإنكليز والأميريكان ... يعود عباس في إجازة وتحمله المصادفة إلى البار ، ويرى حميدة ويفهم كل شيء ،ثم تدور معركة رهيبة يقتل فيها فرج القواد ، كما تسقط حميدة مضرجة بدمائها ، فيحملها عباس إلى الزقاق حيث تلفظ أنفاسها . مخرج الفيلم كما قلنا هو حسن الإمام ، الذي دار حوله الكثير من الجدل ولا يزال خاصة في السودان ، وما زلت إلى اليوم أذكر تلك المناقشات الساخنة التي كانت تدور بيننا نحن عشاق السينما والشتائم التي يكيلها البعض لحسن الإمام وقد كنت أراه كاريزما في السينما المصرية مما جلب لي الكثير من النقد . حسن الإمام مخرج يعشق الأحداث المتشابكة ، والصراعات الإنسانية في القلب البشري ، ويغوص في أعماق الطبقات الشعبية يقدم لنا من خلالها المادة الحقيقية التي يستمد منها مواضيع أفلامه ، قد تتفق معه أو تختلف ... ولكنه يملك جرأة غير عادية في أن يجعلك تشاهد أبطال أفلامه والإستمتاع معها .. وهي ذات الجرأة التي جعلته يتجه إلى نجيب محفوظ ويقع إختياره على قصتين ربما كانتا من أجود وأهم ما كتبه كاتبنا الكبير وهما الثلاثية المعروفة وزقاق المدق ، ولا أبالغ إذا قلت أنها تلك الجرأة والقدرة السينمائية الكامنة في مخرجين سودانيين متميزين هما حسين شريف وابراهيم شداد على الرغم من الموضوعات المختلفة في أفلام حسن الإمام وأفلامهما ، ولا بد أن أقول أن التصدي لهذين العملين السينمائيين اللذين أخرجهما حسن الإمام سلاح ذو حدين ، لأنه من جهة سيرفع من قيمة العمل السينمائي مهما كانت طبيعته ، نظرا لخطورة وخصوبة المادة الدرامية المنتقاة والتي حازت على إعجاب جماهير كثيرة قبل أن تجد طريقها للشاشة ، ولأنه من جهة أخرى سيضطر كل من رأى الفيلم أن يقارنه بالنص الأدبي المأخوذ عنه ، وهي مقارنة قطعا ستكون لصالح الأصل وتراجع الفيلم السينمائي ، فقد قرأت الرواية كما شاهدن الفيلم ثلاث مرات فأحببت الرواية ، وعندما شاهدت أفلام حسين شريف وابراهيم شداد أحببت أفلامهما ، وحتى اليوم ما زلت أبحث عن سر العلاقة بين الأدب والسينما ، ولصالح من يكون الحكم ؟؟؟؟ وقد كنت محظوظا بمشاهد الكثير من الأعمال الأدبية التي أخرجت سينمائيا سواء تلك الأفلام العربية والإفريقية والعالمية وغيرها ، وبإمكاني أن أقدم لكم عشرات العشرات من الأفلام السينمائية المأخوذة أصلا عن روايات عالمية ، ويجدر هنا أن نذكر كيف أفرد مهرجان «كان» للفيلم في دورته السادسة والستين حيزا كبيرا للاقتباسات الأدبية التي تشكل منبعا لا ينضب لكتاب السيناريو مع كوكبة من الأفلام مأخوذة من تحف أدبية مثل «ذي غريت غاتسبي» . سينما جد في فيلم زقاق المدق لجأ حسن الإمام إلى تسميةالفيلم ب " حميدة " ولعل هذا أول أخطائه ، لأنه إختار من مجموعة الشخصيات المتضاربة الأهواء والسلوك والتي جمعها نجيب محفوظ كلها في زقاق واحد مثل عباس الحلو وفرج القواد وغيرهما ، إختار حسن الإمام شخصية واحدة واعتمدها أساسا بطلة لفيلمه ، وجعل مسار حياتها الشائكة هو المحور الذي تدور عليه الأحداث ، بينما كان هدف نجيب محفوظ أن يرسم صورة لزقاق شعبي تجمعت فيه أكثر من شخصية متناقضة يشكل مجموعها بانوراما إجتماعية وسياسية وعاطفية ونفسية لقاهرة الأربعينات أثناء الحرب العالمية الثانية ..أي أن الفيلم باختصار شديد خرج من المجموعة إلى الفرد ، وذلك أول تناقض يقع فيه ، ولا يمكن لكاتب مثل نجيب محفوظ مهموم بكل الشرائح الإجتماعية أن يحصر هدفه في الفرد ، وبعبارة أخرى إنقلب " زقاق المدق " بكل ضجيجه وصخبه وانفعالاته وشخصياته المؤثرة والمختلفة ، والصورة التي رسمها لعالم القاع المصري من خلال زقاق شعبي تتجمع فيه الأحلام والآمال والإحباطات والرؤى الوردية إلى فيلم يحمل إسم " حميدة " ويروي قصة واحدة من ساكنات الزقاق ، تتمتع بجمال وحيوية وطموح ، يدفعها إلى هجران زقاقها ونسيان حبيبها الوطني والإنزلاق وراء شاب فاسد يقودها إلى حياة الليل والفجور التي ستخسر فيها نفسها وحياتها وأحلامها كلها . وهكذا فإن الزقاق في فيلم حسن الإمام إختفى أو أصبح مجرد ديكور خلفي تتحرك فيه " حميدة " ابنة الزقاق ، ونرقب نحن مذهولين مسيرة حياتها المليئة بالدم والورد والموسيقى والدموع ، وذلك ما يختلف فيه النقاد مع المخرج حسن الإمام الذي أعطى لنفسه الحق أن يفعل في قصة الكاتب المبدع نجيب محفوظ ويغير في أجزاء كثيرة من معالمها ... ولكن مهما قلنا فنحن أخيرا أمام السينما ، وفي السينما من البيهيات أن يأتي حسن الإمام أولا ثم يعقبه نجيب محفوظ ، فالسينما جعلت من الأدب تابعا لها عوضا أن تكون تابعا للأدب . ومع ذلك يبقى فيلم " زقاق المدق " الذي كتب له السيناريو كاتب كبير ذو شأن ، ومثلته نجمة تربعت على عرش السينما لسنين من الأفلام الجيدة ، ويبقى أيضا فيلم من الأفلام الجديرو بالمشاهدة لما يحتويه من فكر وإنسانية ونقد إجتماعي وأسلوب مميز لمخرجه . زقاق المدق السينما والرواية إخراج: حسن الإمام مخرج مساعد أنور الشناوي سيناريو وحوار سعدالدين وهبة بطولة : شادية ، صلاح قابيل ، حسن يوسف ، يوسف شعبان وعبدالمنعم ابراهيم .