صحفي و باحث في العلوم السياسية التعايش السلمي: يقصد بالتعايش السلمي في الدوائر السياسية و في الاصطلاح السياسي لدى أصحاب الاختصاص \"انقضاء سوء التفاهم بين دولتين أو طرفين مختلفين و إيجاد نوع من التقارب و التعاون بينهما و القبول بفكرة التعدد في النوع أو المفاهيم أو الأفكار أو المعتقدات و الثقافات و غيرها من المختلف عليه بين مجموتين او اكثر \". و نشأ هذا الإصطلاح أبان الصراع بين القوتين العظميين الاتحاد السوفيتي و الولاياتالمتحدة أي دول المعسكر الاشتراكي و دول المعسكر الرأسمالي حيث كان يستخدم مصطلح التعايش السلمى بقصد إيجاد صيغة للتواصل و الاعتراف المتبادل بين كتلة و أخرى من الطرفين المصطرعين وقتها، ثم مالبث و أن شاع في أوساط مجتمعات مختلفة حتى داخل الدولة نفسها و اتسع نطاق استخدامه بين الدول التي يكثر فيها التنوع العرقي و الآثني و الديني حين أصبح \"التعايش السلمي\" حاجة للتعبير عن الاعتراف المتبادل بين المجموعات المختلفة و الثقافات المختلفة داخل القطر الواحد. ولما كان بروز ظاهرة الدولة الحديثة في القارة الأفريقية جاءت نتيجة لقرارات الدول المستعمرة جاءت و معها اختلافات عرقية و تباين آثني و تعدد ثقافي و ديني و ذلك نتيجة لحدود الدول الأفريقية ما بعد الاستعمار الغير طبيعية من حيث النشأة لأنها كانت تعبير عن حاجة إدارية و سياسية بهدف إحكام السيطرة على الدول الافريقية من قبل الدول المستعمرة ، و نشأت الدول الأفريقية و هي تحوى الكثير من التعدديات المختلفة فكانت الحاجة إلى إيجاد مفهوم يتفق عليه يجعل الحياة المشتركة بين البشر على اختلافهم ممكنة و ذلك باستخدام قاعدة ترضي الجميع فولد مفهوم التعايش السلمي كضرورة لاستمرارية الدولة و المجتمع و ضمان بقاءهما. أسس التعايش السلمي: يقوم التعايش السلمي في أي بيئة اجتماعية على قاعدة الاعتراف المتبادل بحق الأفراد في الوجود أولاً ثم حقهم في الاختلاف بما يتضمنه ذلك من ملكيتهم لثقافتهم و حقهم في السعي لتطويرها و الحفاظ عليها و الحق في التخاطب بلغتهم التي اختاروها و حقهم في السعي لنشرها و دعوة الآخرين للتعامل بها، مع الاحترام المتبادل للعقائد الدينية و السعي لنشرها دون المساس بحقوق الآخرين المختلفين في الثقافة و الدين و اللغة. و تستدعى فكرة القبول بمبدأ التعدد الإقرار بالديمقراطية كحق للجميع حيث يعتبر الإقرار بالتعدد نفسه شرطاً لإقرار مبدأ التعايش السلمي بين جميع المختلفين يضاف إلى ذلك الإقرار بضرورة الحل السلمي للمنازعات عبر وسائل حضارية بعيداً عن العنف. كما أن الاتفاق على إحلال الحوار بدلاً عن الصراع يعتبر محفزاً لاستمرارية التعايش السلمي بين المكونات المختلفة و كل ذلك للمتأمل لن يتأتي إلا بوجود بيئة ديمقراطية كمسرح للتعايش السلمي و ذلك لضمان التفاعل الطبيعي بين تلك المكونات المختلفة. إن إيداع هذه المفاهيم في جميع البيئات و المكونات الاجتماعية المختلفة ثقافياً و اجتماعياً و دينياً و تزاد الحاجة إلى ترسيخ تلك المفاهيم خاصة في ظل الصراع الذي دار و يدور في منطقة أبيي. حالة أبيي: تشترك الجغرافيا مع غيرها من العوامل في صناعة التاريخ يحدث هذا في بلدان مختلفة في أنحاء العالم و لكن في حالة أبيي نجد أن الجغرافيا و حدها هي التي صنعت تاريخ أبيي القديم و الحديث. أن اتساع نطاق الأراضي الخصبة العامرة بالحشائش و توفر غذاء الحيوان كان دافعاً لمجموعة المسيرية للتواجد في أبيي مع شركائهم دينكا نقوك حيث عاشوا لفترة طويلة و لكن نفسها الجغرافيا التي استدعت المسيرية أسفرت عن ما يجعل الأمم تصطرع وذلك بظهور البترول في المنطقة و بكميات مقدرة مما خل عملية شد و جذب بين الأطراف المختلفة الحكومة في الشمال و الحركة الشعبية في الجنوب و بالتالي مجموعة المسيرية التي تنتمي بالضرورة إلى الشمال و مجموعة دينكا نقوك التي تنتمي بالضرورة إلى الجنوب. نيفاشا: رغم شمولها على الكثير من قضايا السودان الاجتماعية و الاقتصادية و الإستراتيجية لم تضع اتفاقية السلام التي وقعت في نيفاشا في يناير من العام 2005م حداً للنزاع في منطقة أبيي الغنية بالنفط و المراعي الخصبة حيث تم تركها إلى مرحلة ما بعد التوقيع على اتفاقية السلام حين أفردت لها بروتوكولاً عرف ببروتوكول حل النزاع في منطقة أبيي. و أقر البروتوكول وضعاً إدارياً خاصاً و وصف البروتوكول شعب أبيي على أنه و جميع المواطنين بما في ذلك المجتمع الرئيسي في المنطقة و الذي يشكل المسيرية و دينكا نقوك أغلب سكانه و بأنهم مواطنين في ولايتي جنوب كردفان و بحر الغزال حيث أعطى البروتوكول السكان الحق في التمثيل في الهيئتين التشريعيتين في ولايتي جنوب كردفان و بحر الغزال و في جانب الثروة نص على حق معلوم من مداخيل البترول بهدف تنمية المنطقة و إنشاء صندوق للأعمار و التوطين كما نص البروتوكول على أن تقوم حكومة السودان بمناشدة المجتمع الدولي و الدول المانحة لتسهيل عملية عودة النازحين إلى منطقة أبيي. مبادئ الاتفاق: في مارس من العام 2004م وافق كل من علي عثمان محمد طه نائب الرئيس وقتها و الدكتور جون قرنق رئيس الحركة الشعبية و قائد الجيش الشعبي على نص المقترح الذي قدمه المبعوث الأمريكي الخاص السناتور جون دانفوث و الذي عرف بمبادئ الاتفاق بشأن أبيي حيث وصف المقترح منطقة أبيي باعتبارها جسراً للتواصل بين شمال السودان و الجنوب و احتوى مقترح دانفورث تفصيلات لحل الأزمة في جوانب مختلفة منها السياسي الذي يتعلق بكيفية الإدارة وصولاً إلى المشورة الشعبية المزمع القيام بها عقب الانتخابات العامة القادمة في أبريل من العام 2010م و منها السياسي الذي يحدد الصلاحيات للأجهزة المختلفة في منطقة أبيي وصولاً إلى الاقتصادي (النفط) في الثروة و طريقة تقسيمها على المكونات المختلفة حيث أعطت الحكومة الاتحادية 52% و حكومة الجنوب 42% و ولاية بحر الغزال 2% و ولاية جنوب كردفان 2% و 1% لدينكا انقوك و 1% لمجموعة المسيرية و اشتملت وثيقة دانفورث على الهيكل الإداري الذي بموجبه منحت المنطقة وضعية خاصة حيث نصت علي قيام مفوضية لتحديد حدود أبيي و مهمتها تحديد و ترسيم حدود منطقة مشيخات دينكا نقوك التسع التي حولت إلى كردفان في العام 1905م و لم يحالف التوفيق الجهود الوطنية التي قامت بها كل من الحركة و المؤتمر الوطني لوضع حدود نهائية لمنطقة أبيي مما جعلهم يقومون بالاستعانة بمحكمة بالخبراء حيث تم رفض تقرير الخبراء أيضاً و ذهبوا بقضية أبيي إلى محكمة العدل الدولية بلاهاي حيث تم الفصل في القضية و وافقت كل أطراف النزاع على كم محكمة العدل الدولية باعتباره حكماً نهائياً. مرحلة ما بعد التحكيم: نص بروتوكول حل النزاع في أبيي في المادة (9) على إجراء عملية مصالحة تبدأ عند التوقيع على اتفاقية السلام الشامل و أوصت رئاسة الجمهورية (الرئيس و نائبه) ببدء مسألة مستعجلة لعملية السلام و المصالحة في أبيي و تمظهر حراك الرئاسة في تكوين الطرفين لصندوق دعم الوحدة الذي يرتكز على منطقة أبيي كجغرافية و مجتمع مناسبتين لها لخلق بيئة تصالح و سلام و تعايش سلمي حيث تعتبر أبيي المدخل الأفضل لتعزيز فرص الوحدة الوطنية و هي فرصة لاختيار الوحدة في الاستفتاء المزمع قيامه في العام 2011م في جنوب السودان. كما أن الجهود الرسمية ظهرت من خلال اتفاقية السلام خاصة في بنودها التي تنص على إجراءات أمنية مشتركة بين الطرفين و تعزيز قدرات المراقبين الدوليين في المنطقة و تقديم المساعدة للجهاز الإداري الخاص بالمنطقة و الشروع في إنشاء مفوضية استفتاء أبيي لإجراء الاستفتاء بالتزامن مع استفتاء جنوب السودان حيث يترك الخيار لمجتمع أبيي أما أن يكونوا جزءاً من الشمال (الوضع الحالي) أو يكونوا جزءاً من ولاية بحر الغزال و بالتالي من جنوب السودان . الدور الاقليمى والدولى : شهدت اتفاقية نيفاشا حضورا دوليا مكثفا من كافة ارجاء المعمورة فكانت الولاياتالمتحدة حاضر بقيادة وزير خارجيتها وقتها كولن باول ومن خلفها الاتحاد الاوربى عبر بعض وزراء خارجية دوله اضافى الى كل الدول المجاورة للسودان تقريبا ، من ناحية مقبولية الاتفاقية على الصعيد الاقليمى والدولى حصلت نيفاشا على اعلى درجات التأييد ربما كان اكبر اجماع تشهده اتفاقية فى القارة الافريقية حيث التزمت جميع الاطراف بدعم السلام فى السودان وتقديم المساعدة للجنوب والشمال خاصة من الولاياتالمتحدة و دول الاتحاد الاوربى وغيرهم من الدول الكبيرة مثل الصين ، الا ان هذه التعهدات خاصة المالية منها لم تصل بصورة ترضى طرفى الاتفاقية وقد عبرا عن ذلك مرات عديدة من خلال الحكومة الانتقالية التى جاءت بها اتفاقية نيفاشا حيث ترى الحكومة ان الدول المعنية بتقديم المساعدات لم تفى باتزاماتها تجاه عملية السلام فى السودان وذلك بتزرعها بضرورة انهاء الصراع فى دارفور كشرط لتقديم الدعم المالى والاقتصادى للسودان فى الشمال والجنوب مما اثر فى سير اتفاقية السلام لانها بنيت على طموحات عالية فى نشر التنمية والتوزيع العادل للثروة ! كل ذلك ترك اثاره على الصراع فى منطقة أبيي صاحبت الوضع الاستثنائى حسب بروتوكول الخاص بها . الحلول المجتمعية: ان مستقبل سكان منطقة ابيي يتوقف الى حد كبير على خلق أليات للتعايش السلمى بين مكوناتها والعمل على تنمية المنطقة فى مجالات الزراعة والانتاج الحيوانى وايجاد فرص عمل للشباب واصحاب المؤهلات العلمية وتوفير فرص التاهيل والتدريب للسكان المحليين فى المجالات المختلفة بهدف الانتقال بالمجتمع الى آفاق اقتصادية واجتماعية ارحب . ان حركة تطور المجتمعات لا تتوقف على جهود الدولة و حدها ممثلة في الجهود الحكومية إنما تستلزم بالضرورة تحرك جميع الفاعلين في الشأن العام من أحزاب سياسية و منظمات مجتمع مدني و منظمات أهلية و تكوينات اجتماعية من قيادات مثل الإدارة الأهلية العمد و المشايخ إضافة إلى دور المثقفين و طلائع الشباب و المرأة و وسائل الإعلام التي يناط بها لعب دور فاعل و مؤثر على الأطراف المتنازعة مثل دورها في الضغط على الأطراف حين اندلع القتال بين المجموعات الآثنية المسيسة حيث حزرت من خطورة استمرار القتال و تحوله إلى حرب أهلية جديدة. و رغم أن هناك جهوداً مبذولة في المساعدة على حل النزاع إلا أنها محدودة و ضعيفة بالمقارنة بحجم ما دار من صراع و قتال في أزمة سابقة في منطقة أبيي. و تبقي مسائل مثل الاستمرار في عملية التنمية في المنطقة محفزاً لاستمرار حالة التعايش السلمي التي تشهدها منطقة أبيي و واجب الجهات الرسمية و غير الرسمية أن ترعي هذا التعايش الاجتماعي السلمي و الطرق على أن السلام ضرورة تنموية و أن التنمية تعزز السلام مع العمل على ضمان حرية التنقل و التحرك للأفراد و المجموعات و إقرار الاعتذار المتبادل على كل أخطاء الماضي و العمل على تطوير الإدارة الأهلية و معالجة قضية المجندين في الأجهزة المختلفة و سحب السلاح من أيدي المواطنين و إنشاء وحدات سكنية للنازحين و متضررى الحرب و ضمان استمرار عائدات النفط المنصوص عليها في بروتوكول أبيي لكل الأطراف. إن تذكير الطرفين المتنازعين حول أبيي بالتاريخ المشترك و المصالح المشتركة التي جمعتهما خاصة دينكا نقوك و المسيرية بكل أطرافهم يعزز أسس التعايش السلمي على قاعدة المصالح المشتركة الاقتصادية و الحياتية. إن فرص التعايش السلمي في أبيي مكوناتها المختلفة تبقي متوفرة و تحتاج إلى تعزيز ولابد من التعامل معها باعتبارها هدفاً قومياً يمس كل السودانيين و وحدة أراضيهم بهدف جعل التعايش السلمي في أبيي فرصة داعمة لاختيار شعب الجنوب الوحدة و الصديق لها في استفتاء العام 2011م