قراءة في المشهد السياسي اضطراب المشهد السياسي! د. الشفيع خضر سعيد (1) الجميع، بلا استثناء، يتحدث عن استفتاء في موعده المحدد يستوفي المعايير المعروفة، في حين أن مفوضية الاستفتاء تشتكي عجزها لطوب الأرض: الميزانية المرصودة لها تبلغ 370 مليون دولار، توفر منها مبلغ \"****\"، حسب أحد أعضاء المفوضية!، وحتى الآن استقال اثنان من مسؤوليها أحدهما رئيس قسم التدريب بمكتب المفوضية بالجنوب، مما يعكس خللاً ما في بنية المفوضية نفسها، بل إن السيد رئيس تحرير صحيفة الأحداث تناول أوضاع المفوضية في أربع حلقات واصفاً إياها بمفوضية \"تقويض\" الاستفتاء!. وعلى الرغم من عدم جاهزيتها الواضح، أعلنت المفوضية تواريخ عمليات الاستفتاء محددة فترة التسجيل ب(17) يوم دون أن تحدد من هو الذي سيسجل، وهل حسمت أعداد الجنوبيين في الشمال (الحركة تقول إنهم في حدود مليون ونصف، والمؤتمر الوطني يتحدث عن 2 إلى 3,5 مليون)، وحتى اللحظة لا يبدو في الأفق اتفاق حول قضايا ما بعد الاستفتاء الحسساسة والمصيرية، وكل ما تم هو مجرد عصف ذهني!. وقبيل مغادرته الخرطوم يوم الأحد الماضي من زيارته الثانية للبلاد خلال أقل من اسبوعين، صرح السناتور جون كيري رئيس لجنة العلاقات الخارجية بالكونغرس الأمريكي، أن الرئيس أوباما حمله مقترحات جديدة وخارطة طريق لحل مشكلة أبيي سلمها للحكومة وحكومة الجنوب، رافضاً الإفصاح عنها قائلاً \"إن القيادة السودانية بوسعها أن تفعل ذلك\".... فهل ستفصح يا ترى؟؟ أحد الأصدقاء ذكر لي أن أحد الدبلوماسيين من دولة مجاورة لخص له السيناريوهات المحتملة للاستفتاء كالآتي: استفتاء في موعده ويشمل أبيي... ضعيف، استفتاء في موعده بدون أبيي.... أكثر ورودا، تأجيل الاستفتاء... مرجح، إعلان الانفصال من داخل برلمان الجنوب... ضعيف لكنه غير مستبعد! وأضاف الدبلوماسي، حسب الصديق، أن القوى الدولية والإقليمية تدرك تماماً أن القوى السياسية السودانية الأخرى لها آراء ووجهات نظر... لكنها ليست قادرة على التأثير!!!، وأن بعض القوى الدولية والإقليمية ستتعامل مع نتائج الاستفتاء بحسب علاقتها بالمؤتمر الوطني: تتبنى موقفه، أو تعاديه!!. حتى اللحظة لم يعلن فشل أو إنهاء محادثات أديس أبابا أو مجهودات السناتور كيري وسكوت غريشن، أو الدور المصري والقطري والإرتري والليبي والتشادي... الخ، ومع ذلك تدخل النمسا في الخط للتوسط بين الشريكين، في إطار مبادرة أوروبية، فيسافر وفداهما بقيادة كرتي وباقان للتفاوض حول الاستفتاء وقضاياه العالقة!! هل خطر ببالك، أيها القارئ العزيز، كم عدد الدول التي \"تتوسط\" الآن في الشأن السوداني؟ ما بال حكام السودان اليوم يجتهدون لشطب أو تلطيخ \"أبداً ما هنت يا سوداننا يوما علينا\"!. (2) مصادر ومواقع إعلامية عديدة تحدثت عن مبادرة أو تعهد أو مشروع صفقة حوتها وثيقة مرسلة من قيادة المؤتمر الوطني إلى الحكومة الأمريكية عبر السناتور كيري، استلمها في الخرطوم بتاريخ الأحد 17 أكتوبر 2010م. ملخص فحوى الرسالة، كما تقول المصادر، هو: أ- تعهد الحكومة بضمان إجراء الاستفتاءين، أبيي والجنوب، في موعدهما. كتاب مواقع الإنترنت كتبوا بسخرية لاذعة أن ترجمة هذا التعهد هي: أن المؤتمر الوطني لا يمانع في ضم أبيي للجنوب مثلما لا يمانع في انفصال الجنوب! ب- تعهد الحكومة بالتعاون الوثيق، سياسياً وأمنياً واقتصادياً، مع دولة جنوب السودان الجديدة. ت- على أن تتعهد الإدارة الأمريكية بالتطبيع الكامل لعلاقاتها مع الخرطوم، وتلتزم بتحريك مجلس الأمن الدولي لشطب دعوى المحكمة الجنائية الدولية ضد البشير، وشطب السودان من القائمة الأمريكية للدول الداعمة للإرهاب، وشطب ديون السودان الخرجية.!! (3) بدعوة من القسم السياسي لمكتب الأممالمتحدةبالخرطوم (UNMIS)، التقى وفد من الحزب الشيوعي السوداني بالسيدة هيروكو ميامورا، منسقة مكتب الأمين العام للأمم المتحدة المختص بدعم الاستفتاء، ومقره نيويورك. أفادت السيدة هيروكو أن المكتب كونه الأمين العام للأمم المتحدة برئاسة الرئيس السابق لجمهورية تنزانيا، وعضوية وزير خارجية البرتغال السابق وخبير دولي من نيبال، وذلك استجابة لطلب مكتوب جاء في رسالة مشتركة من المؤتمر الوطني والحركة الشعبية، طلبا فيه تدخل الأممالمتحدة للمساعدة في إنجاح الاستفتاء. في اللقاء، أمطرت السيدة هيروكو وفد الحزب بوابل من الأسئلة حول: تحليل الحزب للوضع الراهن وما هي توقعاته، كيف يمكن عبور محطة الاستفتاء بهدوء وسلام، ما هي مقترحات الحزب لحل أزمة البلاد، كيف يمكن لمحادثات الشريكين حول القضايا العالقة أن تنجح، هل ستندلع الحرب!! وفد الحزب اغتنم لحظة التقاط السيدة هيروكو لأنفاسها، فسألها عن مغزى تمسك المجتمع الدولي بحصر التباحث حول مصير السودان في الشريكين فقط مع استبعاد وتجاهل كل القوى السياسية الأخرى، علما بأن هذا المنهج هو الذي حكم مفاوضات نيفاشا، كما حكم تنفيذ الاتفاقية خلال الفترة الانتقالية، وأثبت فشله تماماً، بدليل التصدعات التي يشهدها السودان. لم تجب السيدة هيروكو بصوت، بل اكتفت بابتسامة مهذبة مع رفع كتفيها، وكذلك حاجبيها، إلى أعلى قليلاً، في إشارة إلى أن هذا السؤال خارج صلاحياتها، رغم تعاطفها مع منطقه ومعقولية محتواه! (4) بعد عدة زيارات ماراثونية نفذتها القيادة المصرية ما بين القاهرةوالخرطوم وجوبا، كشف السيد وزير الخارجية المصري عن المقترح المصري بإقامة كونفدرالية بين الشمال والجنوب إذا جاء الاستفتاء بالانفصال. في البداية أعتقد لا بد من تثمين الجهود المصرية التي لم تكل أو تمل أو تيأس في البحث عن صيغة للحفاظ على وحدة السودان. ثانياً، أرى أن ردة فعل الناطق الرسمي باسم الحركة الشعبية، غير مبررة حيث هاجم الاقتراح المصري بعنف معتبره مضيعة للوقت ويؤدي إلى تعكير الأجواء بين الشريكين، مشيراً إلى أن المقترح سبق وأن تقدمت به الحركة أثناء مفاوضات نيفاشا ورفضه المؤتمر الوطني!!. قد أجد عذراً لردة الفعل العنيفة هذه لأن الوزير المصري ربط المقترح بتأجيل الاستفتاء، ولكني لا أرى في المقترح ما يمكن أن يعكر الأجواء بين الشريكين، التي لم ترى الصفاء أصلا. وهل تعكرت أجواء مفاوضات نيفاشا عندما طرحت الحركة خيار الكونفدرالية ورفضه المؤتمر الوطني؟ وإذا كنا قد طرحنا موقفا معيناً في فترة ما ورفضه الآخرون، ثم عادوا وقبلوه في مرحلة لاحقة، حتى ولو لأسباب انتهازية، هل سنرفض قبولهم وتغيير موقفهم هذا لمجرد موقفهم الرافض السابق؟. من ناحية أخرى، أرى أن البعض يتحدث عن الكونفدرالية وكأنها طرح جديد، في حين هي موجود ضمن أدبيات الحركة الشعبية، كما تم تناولها بنقاس واسع وعميق في مؤتمر التجمع الوطني الديمقراطي للقضايا المصيرية (أسمرا، يونيو 1995م). وقد شارك في ذلك النقاش، من موقع الحكمة والفهم العميق لواقع السودان، القائد الراحل د. جون قرنق، مساهماً في تضمين الكونفدرالية في قرارات ذلك المؤتمر، حيث تقول إحدى فقرات القرار الخاص بتقرير المصير: تتخذ قوى التجمع الوطني الديمقراطي موقفاً موحداً إزاء الخيارات التي ستطرح للاستفتاء في الجنوب، وهي: أ- الوحدة (إما على أساس فدرالي أو كونفدرالي). ب- الاستقلال. وعموما، أعتقد أن المفاوضات الجادة والموضوعية لقضايا ما بعد الاستفتاء، والتي تضع مصالح الشعب فوق أي مصلحة، وبعيداً عن الاعتبارات الانتهازية والضيقة، يمكن أن تفضي إلى نوع من العلاقة الإستراتيجية بين الدولتين الوليدتين، في حال الانفصال، قد تصل إلى حد الاتحاد الكونفدرالي. (5) تقدم حزب مؤتمر البجا بمبادرة كريمة يدعو فيها كل القوى السياسية داخل وخارج الحكومة، للتوافق من أجل دعم الوحدة والسلام في البلاد. وقد وجدت المبادرة منا كل الترحيب اللائق بها وشاركنا في اجتماعها الأول بمنزل الشيخ موسى محمد أحمد، رئيس مؤتمر البجا، الذي أخطر الاجتماع بإتصاله المسبق مع الرئيس البشير حول المبادرة وترحيب الأخير بها. وبعد نقاشات مستفيضة، أجمع الحضور على رفض منهج المؤتمر الوطني في إدارة شئون البلاد في ظل أزمتها المستفحلة، وطلبوا من مؤتمر البجا مواصلة اتصالاته لإنجاح المبادرة، بما في ذلك الاتصال بالمؤتمر الوطني وحثه للسير في طريق الإجماع الوطني بعيدا عن أجندته الخاصة وأسلوبه الخاص في إدارة الأزمة، والمرفوض من قبل القوى السياسية الأخرى. وبينما نحن في انتظار نتائج تحركات مؤتمر البجا، طالعتنا صحف الاثنين 8 نوفمبر بخبر تشكيل لجنة عليا من القوى السياسية برئاسة البشير لدعم الوحدة!. إنه نفس المنهج العقيم السابق الذي لن يقدمنا شبرا واحدا، كما أن فيه تجاهلا لمبادرة مؤتمر البجا وإتصالاته بالمؤتمر الوطني. أعتقد أن أي قوى سياسية، تحترم نفسها، لن تشارك في أي عمل لم تساهم هي في نقاش حيثياته وإقتراح أدوات تنفيذه. لقد فهمنا من تحرك السيد رئيس مؤنمر البجا أنه سيطلب من رئيس الجمهورية دعوة رؤساء الأحزاب لإجتماع يناقش أزمة الوطن وكيفية الحفاظ على وحدته، على أن يحدد الاجتماع جدول أعماله وكيفية التحضير المشترك لأي إجتماعات تالية. وهو تحرك نرحب به. لكن دعوة السيد رئيس الجمهورية، كما جاءت في الصحف، بعيدة كل البعد عن هذا الفهم، وسيكون مصيرها كسابقتها. أقول هذا الكلام وفي ذهني تصريحات د. نافع أمام المجلس الأعلى للسلام والوحدة بولاية الخرطوم، والمنشورة في صحف الاربعاء 10 نوفمبر، حين قرر بأنهم \"هم\" لن يمنحوا الجنوبيين الجنسية المزدوجة، وقرر \"هو\" بأن دعاة الإنفصال \"خونة\"، ثم سخر من الأحزاب ووصفها بالعجز عن الدعوة للوحدة وأنها \"قاعدة في النقعة\"!! السؤال هو: ألم يتشاور رئيس الجمهورية مع مساعده قبل أن يدعو الأحزاب \"القاعدة في النقعة\" للانضمام للجنة الحفاظ على الوحدة؟؟ الاحداث