[email protected] يقال أن للطريقة التي دخلت بها الأديان و المعتقدات إلى السودان أثرها في تشكيل التركيبة النفسية و الأخلاقية للإنسان السوداني .. إذ هي تتسم بالتصالح الكبير بين العالَمين الداخلي و الخارجي للفرد ، ذكراً كان هذا الفرد أم أنثي. فالعالم الداخلي المتصالح مع نفسه جعل التعامل ، مع ذاك الخارجي ، يتم وفق إشتراطات يأتي على رأسها أن يكون الآتي من الخارج مسالماً و ذا رحابة في تقبل الجانب الفطري ؛ الأمن و السلام و التعايش بكامل الرضى و العفو و الصفح إلى جانب التواضع و التعاون على رفض ما يختلف مع ذلك ، إن لم يكن الآن فبعد وقت ليس إلا. و قت يتطلبه إنكشاف و تكشف أن هذا الوافد يخالف الفطرة و الطبيعة الإنسانية في أسمى معانيها و مدلولاتها .. و التي تشربت بها نفس الفرد و الجماعة السودانية على إختلاف إثنياتها و أديانها و معتقداتها و أعرافها و إرثها الحضاري و الثقافي. لهذا ليس من الغريب أنها كانت تفتح أحضانها ، في تفتُّح شديد ، لكل قادم جديد يلبي هذه المتطلبات ، أو قبوله و من ثم إخضاعه لهذه الإشتراطات .. فدخلت المعتقدات على إختلافها و دخلت الهجرات البشرية فوجدت تربةً كأنما هي تربتها ، فتماهت مع هذه الدواخل فصارت جزءً من مكونها بقبول إختلافات لا تؤثر في البنية الأساسية المتواضَع و المتفق عليها. على ضوؤ ذلك نورد بعض الأمثلة التي تعضدد هذا : يحدثنا تاريخنا القديم عن رفض النفسية و التركيبة الفردية و المجتمعية لإنسان السودان لكل ما يترتب عليه ضرر ، أياً كان هذا الضرر على فرد أو جماعة ، مثل أخذ حق الغير بالباطل عنوةً توسلاً بالقوة و المركز الإجتماعي أو السلطوي أو خداعاً دون اللجوؤ للقوة ، فيأتي حكم الفرد و الجماعة بإرجاع هذا الحق و عزل من قام بمصادرته حتى يثوب إلى الحق و يظهِر كمال توبته . فإن زاد الظلم على ما يمكن أن يُغتفر بالتراجع عنه و التوبة عنه ، فلا مجال إلا بتر هذا الظلم و مقترفه .. لئلا يصبح ظلمه من ضمن نسيج الأخلاق و الأعراف. كما أن تاريخنا المعاصر تحدثنا شهاداته بأن ذلك لا يزال مستمراً رغم تبدل العصور و الأحوال. بقراءة لحاكمية المهدية نجد أن الجاسوس و السارق و هاتك العرض و الغاش و المدلس و المفارق لما أجمعت عليه الأديان و الأعراف و الأخلاق يجد حساباً عسيراً على ضوؤ هذه الشرائع و الأدبيات. العهود الديمقراطية التي تناوبت على حكم السودان حديثاً إمتازت بطهارة اليد و اللسان و السلوك ، ولم تلجأ لأساليب التجسس و التحسس و التعذيب ، و كان كل ما يحدث من هذه الأمور يجد جزاءه وفاقاً ، و يعزى ذلك إلى حد كبير إلى جانب الثوابت المذكورة إلى فاعلية المراقبة و المحاسبة و الفصل التام بين ما هو سياسي و تنفيذي و بين ما هو تشريعي نيابي و بين ما هو عدلي قضائي (الفصل بين السلطات) .. و ذلك على ضوء ما ينص عليه الدستور المكتوب أو الشفاهي. في ظل العهود العسكرية الشمولية أو العقائدية يتفشى الفساد و القمع و الفصل و التشريد و الإعتقال غير القانوني و التعذيب و عدم الفصل بين السلطات ، إما لتعطيل الدستور أو بوضع دستور هلامي يحبك لتُفسَّر بنوده حسب ما يشتهى أهل الإنقلاب. و لكن رغماً عن كل ذلك ، كثيراً ما نجد أن هنالك ضمائر تصحو و تثوب إلى رشدها ، خاصةً في الأجهزة العدلية و النظامية و الأمنية : في عهد الفريق عبود ، و في عهد العقيد المنقلب على الدستورية و المشير لاحقاً جعفر نميري ، نعلم أن ثمة كثيرين قاوموا التجاوزات التي تنص عليها الأديان و المعتقدات و الأعراف و الدساتير و الفطرة الإنسانية السليمة ، و هذا أمر يحدث الآن في عهد العميد المنقلب على الشرعية الدستورية و المشير الحالي البشير. بل أنهم لم يكتفوا بذلك و إنما قاموا بكشف الكثير من التجاوزات ، فمنهم من تعرض لآلة التعذيب الجهنمية التي كانوا حتى أمس قريب جزءً منها ، و منهم مَن لا يزال يقوم بذلك العمل الإنساني الكبير في سرية كاملة و بدافع معتقدي و وطني .. و أولئك هم تحديداً مَن يعلنون إنتماءهم لقوى شعبهم عند المحكات الكبرى كالثورات و الإنتفاضات. في ظل هذه الأنظمة الشمولية ، تستبين أهوالٌ فتصحو ضمائر مدنية أو نظامية ، فتركل كل أشكال الإمتيازات التي توفرها لها هذه الأنظمة لقاء تخدير أو قتل الضمير و السباحة عكس تيار ثوابت و أخلاقيات شعبهم الذي هم جزءٌ منه ، يتوضح ذلك في كتابات كثير من مفكرين هم من ضمن تركيبة السلطة العقائدية القائمة . كما أن هناك قطاعات كبيرة من الشباب بدأت تمسك بنور الحقيقة خاصة وسط الطلاب الذين بدأ صوتهم يعلو طردياً مع إستيقاظ ضمائرهم ذاتياً أو بدفع من الذي يسمعون و يقرأون و يشاهدون ، و هذا ما يدعو للإطمئنان بأن حركة المقاومة الشعبية تكسب كل يوم قطاعات جديدة أصبحت شديدة الإيمان بضرورة ذهاب هذا النظام القائم لظلمه و فساده و مفارقته لكل ما هو ديني و عرفي و أخلاقي و إنساني بصورة لم تعد تحتاج لأي أدلة.