الهلال السوداني يلاحق مقلدي شعاره قانونيًا في مصر: تحذير رسمي للمصانع ونقاط البيع    تيك توك يحذف 16.5 مليون فيديو في 5 دول عربية خلال 3 أشهر    "ناسا" تخطط لبناء مفاعل نووي على سطح القمر    ريال مدريد الجديد.. من الغالاكتيكوس إلى أصغر قائمة في القرن ال 21    الناطق الرسمي باسم قوات الشرطة يكشف عن إحصائيات بلاغات المواطنين على منصة البلاغ الالكتروني والمدونة باقسام الشرطةالجنائية    وفد المعابر يقف على مواعين النقل النهري والميناء الجاف والجمارك بكوستي    وزيرا الداخلية والعدل: معالجة قضايا المنتظرين قيد التحرى والمنتظرين قيد المحاكمة    صقور الجديان في الشان مشوار صعب وأمل كبير    الشان لا ترحم الأخطاء    والي الخرطوم يدشن أعمال إعادة تأهيل مقار واجهزة الإدارة العامة للدفاع المدني    الإسبان يستعينون ب"الأقزام السبعة" للانتقام من يامال    مصالح الشعب السوداني.. يا لشقاء المصطلحات!    تكية الفاشر تواصل تقديم خدماتها الإنسانية للنازحين بمراكز الايواء    السودان.."الشبكة المتخصّصة" في قبضة السلطات    ريال مدريد لفينيسيوس: سنتخلى عنك مثل راموس.. والبرازيلي يرضخ    مقتل 68 مهاجرا أفريقيا وفقدان العشرات إثر غرق قارب    مسؤول سوداني يردّ على"شائعة" بشأن اتّفاقية سعودية    السودان..إحباط محاولة خطيرة والقبض على 3 متهمين    توّترات في إثيوبيا..ماذا يحدث؟    اللواء الركن (م(أسامة محمد أحمد عبد السلام يكتب: موته وحياته سواء فلا تنشغلوا (بالتوافه)    دبابيس ودالشريف    حملة في السودان على تجار العملة    إعلان خارطة الموسم الرياضي في السودان    غنوا للصحافة… وانصتوا لندائها    توضيح من نادي المريخ    حرام شرعًا.. حملة ضد جبّادات الكهرباء في كسلا    شاهد بالفيديو.. بأزياء مثيرة وعلى أنغام "ولا يا ولا".. الفنانة عشة الجبل تظهر حافية القدمين في "كليب" جديد من شاطئ البحر وساخرون: (جواهر برو ماكس)    امرأة على رأس قيادة بنك الخرطوم..!!    وحدة الانقاذ البري بالدفاع المدني تنجح في إنتشال طفل حديث الولادة من داخل مرحاض في بالإسكان الثورة 75 بولاية الخرطوم    الخرطوم تحت رحمة السلاح.. فوضى أمنية تهدد حياة المدنيين    المصرف المركزي في الإمارات يلغي ترخيص "النهدي للصرافة"    "الحبيبة الافتراضية".. دراسة تكشف مخاطر اعتماد المراهقين على الذكاء الاصطناعي    أنقذ المئات.. تفاصيل "الوفاة البطولية" لضحية حفل محمد رمضان    لجنة أمن ولاية الخرطوم تقرر حصر وتصنيف المضبوطات تمهيداً لإعادتها لأصحابها    انتظام النوم أهم من عدد ساعاته.. دراسة تكشف المخاطر    خبر صادم في أمدرمان    اقتسام السلطة واحتساب الشعب    شاهد بالصورة والفيديو.. ماذا قالت السلطانة هدى عربي عن "الدولة"؟    شاهد بالصورة والفيديو.. الفنان والممثل أحمد الجقر "يعوس" القراصة ويجهز "الملوحة" ببورتسودان وساخرون: (موهبة جديدة تضاف لقائمة مواهبك الغير موجودة)    شاهد بالفيديو.. منها صور زواجه وأخرى مع رئيس أركان الجيش.. العثور على إلبوم صور تذكارية لقائد الدعم السريع "حميدتي" داخل منزله بالخرطوم    إلى بُرمة المهدية ودقلو التيجانية وابراهيم الختمية    رحيل "رجل الظلّ" في الدراما المصرية... لطفي لبيب يودّع مسرح الحياة    زيادة راس المال الاسمي لبنك امدرمان الوطني الي 50 مليار جنيه سوداني    وفاة 18 مهاجرًا وفقدان 50 بعد غرق قارب شرق ليبيا    احتجاجات لمرضى الكٌلى ببورتسودان    السيسي لترامب: ضع كل جهدك لإنهاء حرب غزة    تقرير يسلّط الضوء على تفاصيل جديدة بشأن حظر واتساب في السودان    استعانت بصورة حسناء مغربية وأدعت أنها قبطية أمدرمانية.. "منيرة مجدي" قصة فتاة سودانية خدعت نشطاء بارزين وعدد كبير من الشباب ووجدت دعم غير مسبوق ونالت شهرة واسعة    مقتل شاب ب 4 رصاصات على يد فرد من الجيش بالدويم    دقة ضوابط استخراج أو تجديد رخصة القيادة مفخرة لكل سوداني    أفريقيا ومحلها في خارطة الأمن السيبراني العالمي    الشمالية ونهر النيل أوضاع إنسانية مقلقة.. جرائم وقطوعات كهرباء وطرد نازحين    السودان.. مجمّع الفقه الإسلامي ينعي"العلامة"    ترامب: "كوكاكولا" وافقت .. منذ اليوم سيصنعون مشروبهم حسب "وصفتي" !    بتوجيه من وزير الدفاع.. فريق طبي سعودي يجري عملية دقيقة لطفلة سودانية    نمط حياة يقلل من خطر الوفاة المبكرة بنسبة 40%    عَودة شريف    لماذا نستغفر 3 مرات بعد التسليم من الصلاة .. احرص عليه باستمرار    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



توزيع المناصب الدستورية: الرشد بعد الغي
نشر في الراكوبة يوم 21 - 04 - 2011


غربا باتجاه الشرق
توزيع المناصب الدستورية: الرشد بعد الغي
مصطفى عبد العزيز البطل
[email protected]
ليست الولايات وحدها هي التي توسعت في المناصب الدستورية فطفقت تخلقها من رحم العدم، وتوزعها على الأزلام والحشم. التوظيف الدستوري البذخي سُنة استنتها الانقاذ على مستوى الحكم الاتحادي، ثم سارت بسيرتها الولايات.
ما معنى وجود منصب في الحكومة الاتحادية تحت مسمى: مستشار بوزارة الإعلام؟! وظيفة وزير الإعلام نفسها لا وجود لها إلا في الأنظمة الشمولية، التي تقوم فيها الدولة بمهمة توجيه الرأي العام، والتحكم في مفاتيح صياغته، وترشيد تدفق المعلومات ترشيداً تموينياً، بحيث تُصرف المعلومة من مخازن الإعلام الحكومي، كما يصرف السُكر والدقيق والزيت في بطاقات التموين، وتلك عاهةٌ فكرية ومذمّة سياسية استخزت منها واستبرأت من وزرها الديمقراطيات المعافاة في العالم كله.
الولايات المتحدة تديرها حكومة برئاسة باراك اوباما تتكون من خمسة عشر وزيراً. وعندنا فى السودان حكومة لولبية لبلابية، تشبه كرشة الجمل، تضم مثل أسماء الله الحسنى تسعة وتسعون إسماً!
توزيع المناصب الدستورية: الرشد بعد الغي
(1)
قرأتُ بمشاعر متناقضة ومتضاربة تصريحات الرئيس المشير عمر البشير، الأسبوع الماضى، التي أقرَّ فيها بترهل بعض أجهزة الحكم، وتوسعها توسعاً عشوائياً لا تستوعبه مصلحةٌ عامة للدولة، ولا تستدعيه متطلبات حقيقية للجهاز التنفيذي. وقد تناول الرئيس بشيء من السخرية - وفق ما نقلت الوسائط الإعلامية المتواترة - ظاهرة المناصب الدستورية المُحدثة والمبتدعة، من شاكلة \"مستشار الوالي\" و\"معتمد الرئاسة\"، التي يبدو أن مبتدعيها - وشاغليها أيضاً - لم يطرق مسامعهم الكريمة بعد حديث قطبنا الأنور: (كل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ فى النار). فما فتئ هؤلاء الدستوريون المبتدعة يكنسون الذهب والنقد، ويأكلون الثريد والشهد، من وراء مخصصاتٍ وامتيازاتٍ ومكرمات تسخو بها الخزينة العامة، دون أن يكون لهم واجبٌ موصوف وعملٌ معروف، وكأنه لم يجئ في الأثر: (من أخذ الأجر حاسبه الله بالعمل). أو هكذا هو جوهر المعنى ومُراد الخطاب، كما جاءنا من لدن الرئيس، و\"الفذلكة\" من عندنا!
وقد قرأت بعض ردود الفعل لما بدا لبعض المتفائلين أنه مشروع صحوة جديدة يقودها الرئيس ضد مظاهر الاهتراء والتكلس وموات القلب والأطراف في هياكل نظام الإنقاذ الذي بلغ من العمر عتيا. وكان من أطرف ما قرأت مداخلة في أحد المواقع التفاعلية كتب صاحبها: (لو استمرَّ الرئيس البشير على هذا النهج الصحوي الثوري في التصدي لمظاهر الفساد وهبر المال العام، فلا نستبعد أن نراه ذات يوم معتصماً في ساحة الشهداء، أمام القصر الجمهوري، وفي يديه لافتة تقول: \"الرئيس يريد إسقاط النظام\")!
(2)
أول ما خطر ببالي لدى مطالعتي تلك التصريحات - وأنا مرابط أمام شاشة الحاسوب في عطلة نهاية الأسبوع - أن أبحث في محرك غوغل عن مقالٍ، خيّل لي أنني قرأته قبل فترة قصيرة، للأستاذ سيف الدولة حمدنا الله (حمدنا الله قاضٍ سابق، جلس على منصة العدالة ردحاً من الزمان، ولكن العصبة المنقذة رأت أن المصلحة العامة تقتضي تفريغه للكتابة الصحفية). إذ تواردت وعصفت بذهني على الفور مقارنات ومقاربات مدهشة، حواها ذلك المقال، بين مناصب الدولة ورتب القوات النظامية في سودان الإنقاذ، ونظيراتها في الدول الأخرى. شكراً للسيد غوغل إذ عثرت عنده على ذلك المقال، وعنوانه: \"ميزانية الفيلد مارشال عمر البشير للأمن والدفاع\". وقفت ملياً أمام الفقرة التالية: (نحن رعايا دولة الإنقاذ – لا ندري معيار \"القوة\" الذي يستهدفه الرئيس حتى نكون في مأمن من طمع الطامعين، فنحن – ولله الحمد – ليس لدينا من قوة \"نظامية\" إلا وجلس على قمتها \"فريق أول\"، يعاونه مئات من الفرقاء واللواءات. فالشرطة المصرية \"وتشمل [قوات الشرطة] بالإضافة الى ما يوازي جهاز الأمن والمخابرات لدينا\" لم تشهد في تاريخها من تقلد رتبة أعلى من درجة \"اللواء\". والجيش الأمريكي لا يعرف رتبة \"الفيلد مارشال\" والتي يقال لها في العربية \"مشير\"، إذ يجلس على قمة الهرم العسكري الأمريكي الضابط المحترف جيمس لوفلاس وهو برتبة توازي \"فريق\". وأخيراً، فإذا كان الشاب ريموند اوديرنو قائد القوات الأمريكية لعموم منطقة العراق وأفغانستان يضع على بزته العسكرية شارة \"مقدم\"، فإن جيشنا السوداني قد خصص ياوراً برتبة \"عميد\" للسير خلف الرئيس البشير، بينما كان الياور السابق برتبة \"لواء\")!
ذكرت على الفور السياسي الجنوبي بونا ملوال وزير الإعلام في العهد المايوي. كان الرئيس السابق جعفر نميري قد ذكر وهو يجلس على المنصة الرئيسية، يخاطب اجتماعاً كبيراً في دار الاتحاد الاشتراكي، أن رئيس الجمهورية صادق ذلك اليوم على قرار بترقية القائد العام للقوات المسلحة الى رتبة المشير. أي بلغة أكثر استقامة أن الرئيس رقَّى نفسه! بعد أن خفت التصفيق وهدأت الأصوات المستحسنة، رفع بونا ملوال إصبعه فلما أعطيت له الفرصة للكلام وقف، فلم يحمد الله، ولم يثنِ على رسوله - كونه مسيحياً - ثم قال: (سيدي الرئيس - أود أن أصدقك الحديث. آخر ما يحتاجه السودان في يومه هذا هو بوكاسا جديد، ما هو العيب في رتبة الفريق أول التي كنت عليها؟!)
(3)
جاء في التصريح الذي نسبته عدة صحف للرئيس: (الولايات بها عدد كبير من الدستوريين بلا مهام، خاصةً من يتولون مناصب معتمدين في الرئاسة، ومستشارو الولاة، مما يشكل عبئاً على ميزانيات تلك الولايات على حساب المواطن. المرحلة المقبلة ستشهد تقليص عدد الدستوريين وتحويل مخصصاتهم لتعيين أطباء اختصاصيين لسد النقص من الأطباء فى الولايات). وورد في إحدى الوسائط الإعلامية على لسان الرئيس: (راتب أربعة دستوريين ولائيين، لا عمل لهم، يكفي مستحقات عشرين طبيباً اختصاصياً. هناك ولايات لو \"رفتت\" أربعة من الدستوريين الما عندهم شغل فإنه يمكنها بمخصصات هؤلاء الدستوريين تعيين عشرين طبيباً اختصاصياً)!
عين العقل والله، والعقل زينة. وكلام الرئيس حلو، مثلما \"أم على بالمكسرات\"، التي تصنعها أختي نعمات. شيء واحد فقط حيرني نوعاً ما في التصريحات الرئاسية وجعلني أضرب أخماساً في أسداس. لماذا جعل الرئيس ملاحظاته قصراً على الحكومات الولائية دون السلطة الاتحادية؟! وكأن الولايات وحدها هي التي توسعت في المناصب الدستورية فطفقت تخلقها من رحم العدم، وتوزعها على الأزلام والحشم. المشهد الشاخص أمام أعيننا يدلنا على أن الحكومات الولائية إنما هي تابعة في هذا المضمار، لا مبتدرة. واقع الحال يقول إن التوظيف الدستوري البذخي سُنة استنتها العصبة المنقذة على مستوى الحكم الاتحادي، ثم سارت بسيرتها الولايات، ولا تثريب عليها. فالولايات في العالم كله على دين مراكزها. ومن شابه مركزه فما ظلم!
(4)
يطلق صديقنا فتحي الضو على حكومة العصبة المنقذة، \"حكومة التسعة وتسعين\". وذلك على أساس أن الحكومة الاتحادية الحالية تضم تسعة وتسعون من الوزراء المركزيون ووزراء الدولة. وأنا أُطلق عليها \"حكومة السبعة وسبعين\"، من منطلق أن الرقم الحقيقي هو سبعة وسبعون، لا تسعاً وتسعون. وأنا رجل \"حقاني\"، لا أحب أن أظلم العصبة المنقذة. والعصبة تعلم عني ذلك ( لذا فإنها تحتمل مقالاتي وترحب بها، ولا تحتمل مقالات فتحي. لأنه يكثر من \"المحلبية\" في الحناء، ويمزج اللبن بالماء. بينما أترك أنا الحناء في غالب الأحوال بغير محلبية، وأبيع اللبن صافياً بدون ماء، فتشربه العصبة - شفاها الله وعافاها - هنيئاً مريئاً).
غير أن أحد زملائي السابقين من الذين لا يزالون في خدمة الحكومة أكد لي مؤخراً - ويا للهول - أن الرقم الحقيقي هو تسعة وتسعون فعلاً، باعتبار أن هناك اثنان وعشرون من شاغلي الوظائف الدستورية داخل الجهاز التنفيذي ممن هم بدرجة وزير، ولكنهم ليسوا أعضاء مجلس الوزراء! فتحي مظلوم إذن، فلا محلبية ولا يحزنون. يا سبحان الله. ماذا يفعل كل هؤلاء الوزراء أياً كان عددهم ومواقعهم في كيان الجهاز التنفيذي؟!
يستدعي الاستغراب والعجب الشديد عندي أن السيد الرئيس يرى في وجود عدة مناصب دستورية، يشغلها على مستوى الولايات، تحت صفة مستشارين ومعتمدي رئاسة، بعض المسترزقين، المتمرغين في تراب الميري، والمستغنين بحلال الحكومة عن حرامها، يرى في ذلك سبباً للثورة على الحكومات الولائية، وفضحها، والتبشيع بها. ثم لا يرى أية غضاضة في أن يشكل، هو نفسه، للبلاد حكومة لولبية، لبلابية، تشبه كرشة الجمل، تضم - مثل أسماء الله الحسنى - تسعاً وتسعون اسماً!
هل تصدق - أعزك الله - أن الولايات المتحدة الأمريكية، سيدة العالم، تلك التي ما تنفك عصبتنا المنقذة تفرش لها النمارق، وتخطب ودّها، وتستعطفها استعطافاً كي ترفع عنا مقتها، وتمحو اسمنا من قائمة الدول الراعية للإرهاب، وتخفف عنا ويلات العقوبات؛ الولايات المتحدة على رفعة شأنها وجلال قدرها تتكون حكومتها الاتحادية من خمسة عشر وزيراً فقط لا غير. يختار رئيس الولايات المتحدة كل واحدٍ منهم بحكم الدستور، ثم لا يجلس الوزير على كرسيه ليباشر مهامه إلا بعد فحص وموافقة وإجازة مجلس الشيوخ له. (الوزراء الخمسة عشر يتولون وزارات: الخارجية، الخزانة، الدفاع، العدل، الداخلية، الزراعة، العمل، الصحة والخدمات الإنسانية، الإسكان والتنمية الحضرية، التجارة، النقل، الطاقة، التربية، شؤون المحاربين القدماء، والأمن الداخلي). حتى العام 2002م كان عدد الوزارات الاتحادية في الولايات المتحدة أربع عشرة فقط، وعندما شنَّ الشيخ أسامة بن لادن \"غزوة نيويورك\" الشهيرة، في الحادي عشر من سبتمبر 2001م، وتداعت الحكومة والكونغرس لتدارس الخلل الأمني والثغرات التي أدت الى الكارثة الفاجعة، تنامت الدعوة الى ضرورة قيام وزارة متخصصة للأمن الداخلي Homeland Security. وقد استغرقت مناقشة وإجازة أمر إنشاء هذه الوزارة الجديدة، في قاعات وأروقة مجلس النواب ثم مجلس الشيوخ، سبعة أشهرٍ حسوما!
(5)
كيف يتم تأليف الوزارات والمناصب الدستورية عندنا؟ تاريخياً، ومنذ استقلال السودان، ظل تأليف الوزارات والمناصب (ربما تعبر لفظة \"توليف\" التي يستخدمها ميكانيكيو السيارات عن المعنى بصورة أفضل) حقاً مطلقاً لرئيس الجهاز التنفيذي، لا تحكمه تقاليد عرفية، ولا تسنده نصوص دستورية. إذا أحبّ الرئيس أن يقتصد شكّل الحكومة من أحد عشر وزيراً، وإذا شاء أن يتبرمك شكلها من تسعين!
غير أن مقتضى إحقاق الحق يلزمنا بأن نشير الى ان هناك عوامل موازية تلعب دورها في تحديد عدد الوزارات توسعاً وضموراً. عندما شرع القائد الشيوعي الراحل عبد الخالق محجوب في تشكيل حكومة انقلاب الرائد هاشم العطا عام 1971م فإنه - وفقاً لبعض الوثائق بخط يد عبد الخالق التي ضبطها جهاز الأمن المايوي عهدذاك وعرضها في الصحف ووسائل الإعلام - سعى الى تقليص العدد، حيث اشتملت قائمته مثلاً على وزارة واحدة حملت اسم: (الزراعة والري والثروة الحيوانية)، وهي الوزارة التي كان قد أسندها الى المهندس مرتضى أحمد إبراهيم. ولا تخالجني ذرة شك في انه لو كان الله قد كتب لتلك الحكومة أن تعيش، لكان من المؤكد أن يضطر النظام في وقت قريب الى إعادة هيكلة الوزارة وإعادة تقسيمها الى ثلاث وزارات مرة أخرى. لماذا؟
لي تجربة شخصية في معايشة محاولات تقليص الوزارات وضم وحداتها تحت مسميات جامعة. فعندما دمج الرئيس السابق جعفر نميري نفس وزارتي الزراعة والري في حوالى العام 1982م فإنه، وهو العليم بطبيعة الصراعات التي قد تنجم عن الدمج، عين نفسه وزيراً للزراعة والري، ثم عين الدكتور عثمان حاكم وزير دولة للزراعة والسيد/ صغيرون الزين وزير دولة للري. ولكن الصراع بين وزيري الدولة، والزراعيين والبياطرة ومهندسي الري، الذين ضاقوا ذرعاً ببعضهم البعض، وتنازعوا حول السلطات، تنامى واحتدم بصورة فرضت على الرئيس اختيار وزير مركزي، فوقع اختياره على وزير الدولة للزراعة الدكتور عثمان حاكم، وجعل منه وزيراً للزراعة والري. ولكن الروح المعنوية لمهندسي الري والبياطرة تدهورت، واتسع فتق المؤامرات على راتق الصراعات، وتفاحشت تبعاً لذلك ظواهر التعطيل والتدني المقصود في الأداء، فاضطر الرئيس المخلوع الى الإقلاع عن تجربة التوحيد وعاد بحليمة الى قديمها. كذلك كان الحال عند بداية تطبيق تجربة اللامركزية والحكم الإقليمي في السودان عام 1981م، عندما ألغى رئيس الجمهورية عدداً من الوزارات كوزارة الداخلية ووزارة الاعلام ووزارة الحكومة المحلية، وجعل منها وحدات تابعة لرئاسة الجمهورية ورئاسة مجلس الوزراء، فقامت الدنيا ولم تقعد، إذ عجز الكثير من القيادات النظامية والكادرات المدنية التنفيذية عن استيعاب معنى ألا تكون لها وزارات قائمة بذاتها!
إذن ليس هم الرؤساء فقط، بل أن قادة وكادرات الخدمة المدنية يسعون أيضاً بأنيابهم وأظلافهم لتكريس التوسع الأفقي، وترسيخ ظاهرة تمديد المصالح والوحدات الى وزارات، بهدف تركيز الامتيازات الوظيفية، وتثبيت المكتسبات المهنية، فضلاً عن استلطاف القيمة المعنوية والحافز النفسي الذي يحققه الانتماء الى وزارات ذات عماد، عوضاً عن وحدات حكومية فرعية تابعة لوزارات أكبر!
(6)
بيد أن ذلك كله لا يغير شيئاً من حقيقة أن نظام الإنقاذ يظل، بغير منازع، صاحب السهم الأوفر في تاريخ السودان كله من حيث التمدد في كيان الجهاز التنفيذي، والسجل الأحفل من حيث الحاتمية في خلق وتوزيع المناصب الدستورية المتبرجة ذات الامتيازات الجزيلة. ومما هو معلوم من شأن الإنقاذ بالضرورة أن القِدح المعلَّى من ذلك التمدد إنما أُريد به في الأصل تأليف القلوب النافرة، واستيفاء حاجات ذوي القربى العقدية، وملاقاة متطلبات القوى الجهوية من التنصيب الدستوري والتوظيف التنفيذي والدبلوماسي.
من الوجهة النظرية، ومن وجهة الممارسة على أرض الواقع العالمي أيضاً، فإن الأصل في خلق المناصب والوظائف هو أن يتم في المبتدأ إقرار وترسيم الحاجة الى المنصب أو الوظيفة. أي ظهور \"الدور\"، وبروز مقتضيات الوفاء به (كما ظهرت الحاجة في الولايات المتحدة لخلق وزارة متخصصة للأمن الداخلي في العام 2001م). ثم يلحق ذلك بحث ودراسة نطاق الاختصاص، ويتلوه صياغة ما يعرف بالوصف الوظيفي. فإذا تحققت القناعة، وتأكدت الحاجة الى خلق المنصب أو الوظيفة، وتم تحديد نطاق الاختصاص والوصف الوظيفي، يجري بعد ذلك الاتفاق على المؤهلات والصفات النوعية الواجب توفرها في الشخص الذي يتم إسناد الدور له. فإذا اكتمل ذلك كله جاءت الخطوة الأخيرة، وهي اختيار الشخصية المناسبة التي تتماهى مؤهلاتها ومقدراتها مع مقتضيات الدور الجديد. ولا جدال في أن نظام الإنقاذ بحكم طبيعة بيئته الداخلية البالغة التعقيد، لا يحتمل مثل هذا المذهب النظامي والنسق العلمي الشديد الانضباط في إدارة الدولة. خلاصة الأمر أنه في دولة الإنقاذ يوجد أولاً \"الشخص المطلوب تنصيبه\"، ثم يتم خلق المنصب تبعاً لذلك وتسكين \"الشخص\" داخله!
وبخلاف التوزير المركزي، فقد توسعت العصبة المنقذة في ظاهرة تعيين وزراء الدولة والمستشارين، بحيث صار التعيين في هذه المناصب سبيلاً معتمداً من سبل كسب العيش في السودان. في مصر القريبة يتم خلق منصب \"وزير دولة\" فقط لأغراض تغطية حالات الوزارات المبتدئة، حديثة العهد بالارتقاء الى الرتبة الوزارية. فعندما بدأت مصر تجربة إنشاء وزارة للهجرة، فإنها أقامت الوزارة، ولكنها لم تضع عليها وزيراً مركزياً كاملاً، بل تواضعت لسنوات طويلة على تسمية المسؤول السياسي عن الوزارة \"وزير دولة لشؤون الهجرة\". ومؤخراً قررت مصر خلق وزارة منفصلة للآثار، ولكنها لم تشأ أن تجعل عليها وزيراً ذا صفة كاملة، فقامت بتسمية الدكتور زاهي حواس \"وزير دولة للآثار\". ولذلك يظل تعيين \"وزراء دولة\"، مع وجود وزير مركزي، أمراً محدوداً ونادراً يمثل الاستثناء فى دول العالم الاخرى، بينما صار تعيين وزراء الدولة فى السودان بمثابة القاعدة الثابتة. وقد استنت الإنقاذ سنة وجود وزيري دولة، وأحياناً ثلاثة وزراء دولة، داخل الوزارة الواحدة، دون أن تكون هناك اختصاصات وتوصيفات وظيفية مكتوبة ومحددة لأي من هؤلاء. وأنا أحمد، حمداً كثيراً، للخال الرئاسي، الأستاذ الطيب مصطفى وزير الدولة السابق بوزارة الإعلام، موقفه الوطني وشجاعته النادرة، كونه كان أول وزير دولة في تاريخ الإنقاذ، يستقيل من منصبه، ويتخلى عنه طواعية، ثم لا يجد في نفسه حرجاً من أن يصرح بأنه استقال لأنه اكتشف انه ليست هناك اختصاصات حقيقية لمنصب وزير الدولة بوزارة الإعلام، وانه يستنكف ويأبى ويربأ بنفسه أن يكون \"جمل طين\" يجلس على كرسي فاخر دون عمل! الخال الرئاسي رجل متطرف، نعم. ويجوز أن يقال عنه أنه رجل عنصري، نعم. ولكنه لا يأكل المال الحرام، ولا تغره المناصب والامتيازات. وتلك محمدة تقضي روح الإنصاف أن تُنسب الى صاحبها.
(7)
كان وزير المالية الأسبق إبراهيم منعم منصور يقول عند بدايات تنفيذ مشروع الحكم الاتحادي في ثمانينات القرن الماضي: (أردنا أن نعطي أهل الأقاليم سلطات، ولكننا اكتشفنا أننا بدلاً من السلطات أعطيناهم سلاطين)! الرئيس محق بغير شك في توجيهه سهام النقد الى الولايات وممارساتها فيما يتعلق بأمر المناصب الدستورية وتوزيعها. ولكنه غير محق قطعاً في تجاوزه المثير للحيرة عن ظواهر التضخم الفلكي في أبنية السلطة الاتحادية نفسها، وتصويره الأمر وكأنه رزيةٌ حصرية تبوء بها الولايات. ليس صحيحاً أن مناصب المستشارين الوهمية قصرٌ على الولايات، وإلا فلتقل لنا العصبة المنقذة ما معنى وجود منصب في الحكومة الاتحادية تحت مسمى: مستشار بوزارة الإعلام؟! العالم الحر كله اتجه الى إلغاء وزارات الإعلام نفسها، ناهيك عن تعيين مستشاريين لوزرائها. وظيفة وزير الإعلام لا وجود لها إلا في الأنظمة الشمولية، التي تقوم فيها الدولة بمهمة توجيه الرأي العام، والتحكم في مفاتيح صياغته، وترشيد تدفق المعلومات ترشيداً تموينياً، بحيث تُصرف المعلومة من مخازن الإعلام الحكومي، كما يصرف السكر والدقيق والزيت في بطاقات التموين. وتلك عاهةٌ فكرية ومذمّة سياسية استخزت منها، واستبرأت من وزرها الديمقراطيات المعافاة في العالم كله، وانطلقت الى آفاق جديدة في عصر الحريات والكمالات الإنسانية. وقد كان آخر الملتحقين بقائمة الشرف الديمقراطية في سُنة إلغاء \"وزارة الإعلام\" والتنصل من عارها دولة مصر الشقيقة، التي جاءت حكومتها الجديدة برئاسة الدكتور عصام شرف خلواً من دور ومنصب وزير الإعلام.
وها أنا أدعو السيد الرئيس من منبر \"الأحداث\" هذا، والبلاد تدخل مرحلة ما بعد تقلص مداخيل البترول، أن يُبادر فيلتمس لنفسه دور القدوة في صحوته المبروكة لصون المال العام، وغزوته المرهوبة لحماية مقدرات البلاد، وذلك بافتراع حملةٍ منظمة لترشيد هياكل وبنيات أجهزة الدولة، وتقليص مناصبها ووظائفها، ومراجعة امتيازات شاغلي المواقع الدستورية. أقترح على السيد الرئيس أن يبدأ بنفسه فيتنازل طواعيةً عن رتبة \"المشير\"، متراجعاً الى رتبة الفريق أول، أو الفريق، بما يجسد رمزية القدوة، ويؤكد حيوية المثال. وأن يُلزم من يليه من السياسيين والعسكريين أجمعين بأن يتراجعوا بمخصصاتهم وامتيازاتهم، خطوة أو خطوتين الى الوراء.
وقبل ذلك كله وبعده فإنه ينبغي أن تتخلى دولة الإنقاذ، تحت قيادته، قولاً واحداً، عن ذلك النموذج الديناصوري الكاريكاتوري لكيان القيادة الانقاذوية التنفيذية الذي يجلس على قمته تسعة وتسعون وزيراً!
نصوص خارج السياق
\"أنتم فى السودان ليست عندكم ظاهرة المسئولين الذين ينقلبون على الرؤساء بمجرد فقدانهم للسلطة كما هو الحال عندنا فى مصر. وفى مقالك فاتك ان تشير الى أن ذم الرؤساء السابقين وتشويه صورهم وهدم تراثهم عادة فرعونية قديمة، كانت تشمل تشويه وتحطيم التماثيل، ومحو الأسماء والانجازات من على جدران المعابد. وبما ان هذه ليست من صفاتكم، حيث انكم لا تعرفون هذه الممارسات، لا فى التاريخ ولا فى الزمن الحاضر، فإن هذا فى حد ذاته أكبر دليل على انكم لستم فراعنة كما تدعون. وان ما تحكيه بعض منابركم عن الآثار وترهاقا ودوركم الحضاري وبناء اهلكم النوبيين للاهرام وغيره، كلام مشكوك فيه، او على الاقل لم (يحوق فيكم)!\"
(مجتزأ من رسالة الكترونية خاصة بعث بها صديق دبلوماسى مصرى مشاكس، يعلق فيها على مقال الاسبوع الماضى المعنون \"ثوار ما بعد الثورة\") .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.