بين اليقظة ... والأحلام..! محمد عبد الله برقاوي.. [email protected] لشاعرنا الراحل /طيب الله ثراه ..عبد المنعم عبد الحي ..اغنية اثيرة الي النفس...جمعته في غربته التي لم يعد منها مع الملحن عبد اللطيف خضر الذي كان طالبا بمصر والفنان حمد الريح وهو يقضي شهر العسل وقتها ..في ربوع الكنانة في ذلك الزمان من اوخر ستينيات القرن العشرين..لا زالت اصداء كلماتها ترفرف حية في ما تبقي من فضاءات الذاكرة وتعزف نغماتها علي الوجدان رغم ازدحامه بتراكمات الحياة الضاغطة ..و تنطلق جناحات الخيال الي تلك الأيام ونحن طلابا في المرحلة المتوسطة ..حينما نعود اخر الأسبوع الي القرية..حيث لم يكن من سلوي في الليالي التي لم تعرف الكهرباء حينها الا المذياع الذي نلتف حوله في سهرات الخميس.. فانطلق صوت حمد في تلك الأمسية الصيفية التي غسل فيها ضياء القمر وجه الكون ..مثلما امتدت نبرات شجنه لتنتشل من الأعماق شيئا من وعثاء الوحشة وعناء التحصيل.. ( بين اليقظة والاحلام..بين اجفان تقول للنام اريت النوم يزورني اليوم ..أنوم لو ليلة في كل عام ) وتظل الجمعة في حياتنا تلك ايام بل و منذ الآزل يوما متميزا رغم أنف السبت الذي نافسها في استعجال الناس لعجلة اسبوع العمل في ايامنا هذه ..رغم ان الخميس الذي يسبقها بساعاته اللاهثة لها لم يعد دائما ( للصفقة والرقيص ).. كما كنا نسمع ونري في ازمنة الفرح الغابر في ثنايا سودان الأمس..الذي كنسته اللحي التي تعادي ..لمة الجمال وجعلت الناس شتاتا في فجاج الأرض.. لان وراءها وجوه تري فيها مهددا للقبح الذي يسكن دواخلهم.. كانت لجمعة ذلك الزمان صباحات تبدا بحقيبة الفن .. ورمية المقدمة لاولاد شمبات...جلسن شوف ..يا حلاتن .. ثم يدخل عليك صوت استاذنا الراحل.. المبارك ابراهيم .. ويلامس مسامع الناس بلغته الرصينة وعمقه المعدني وكأنه عزيز يرتمي علي صدرك بعد أغتراب وشوق.. ثم يتنادي الناس كبارا وصغارا عند ظل الضحوية للفطور المبكر كل اسند الي بطنه ما أشتهه نفسه يبسطه في بشر يفتح النفوس..التي يكتمل كيفها بالشاى ثم الجبنة .. ولا تلبث تعسيلة ما قبل صلاة الجمعة أن تتسلل الي الأجفان ويغرق الكل في بحور احلام شتي .. الآن .. نحن في زمن مختلف..الأبناء يعيشون على صعيد اخر وفي عوالم لم نعشها ..يحلقون في فضاءات ما كنا نمتلك المتون التي تأخذهم اليها.. هموهم غير همومنا تلك .. مساحات خيالهم وأحلامهم أوسع من ترع البلهارسيا التي كنا نسبح فيها ..فتجرفنا امواجها الخاملة الي شفخانة الحكيم ليسلم أفخاذنا النحيلة واذرعنا الهزيلة ( لكورس ) حقن الفوادين و الأنتمون الذي لا ينتهي الا وينتظرنا من بعده آخر... حتي رحلتنا الي المدارس الابتداية من قبل كانت علي ترحيل الدواب الجماعي يزفنا معها الغبار ..ليزيد من مبرر عقابنا في الطابور بتهمة الوسخ علي اجسادنا الذي يصل الي مرحلة......( الكشكة ) والتي يتم اثباتها بالتفتيش الصباحي اذ لا يسلم من هجمته الداخلية علي ملابسنا الا الذي يكتشف انه قد جاء (فرة ) لايتعاطي مع الجزء التحتاني من تلك الملابس..معتذرا في نظرة حياء طفولية تتكاسل خجولة من تحت الرأس المنكس.. ونسعد بحصة الفطور وهي تتفاوت بين شراكة التعريفة والقرش عند ميسوري الحال الذين يرتادون بها قفة الحّاجة لشراء الطعمية .. ومن يحملون بسكلة أو كورية البايت التي تصبح معلقة علي مشلعيب الوالدة.. أخذتني تلك المشاهد بعيدا اذ تسللت الي حافة الذاكرة من شريط ينام في ثنايا الذات ويستيقظ بين الفينة والفينة ليقتحم زحمة الحياة الصاخبة .. باصوات السيارات وهي تسطو علي وحشة الليل وسكونه كاللصوص من نوافذ الشقق العالية في مدن الأسمنت..والنيكل.. التي يحجب عيوننا خلف زجاجها خرير الرطوبة .. فترتد ببصرها الي الشاشات التي تشدها نحو أحداث الثورات وهي تفرض حضورها المتواصل منذ شهور ثلاثة وكانها مسلسل طويل ..كتلك التي تعرضها الفضائيات ..تركية ومكسيكية ..تخلب الباب اولادنا وبناتنا الذين لا يحفلون بأخبار تعز اليمن..ولا بانياس سوريا..أو مصراتة ..وأجدابيا ليبيا.. طالما أن مهند ونور يتناجيان كالعصافيرمع الأنسام علي الأغصان في حدائق الرومانسية..فيما تكتفنا نحن الكبار حبال تداعياتها المتوارة كرا وفرا.. فهو هم واجب نتتبعه..و لا مندوحة عنه الا..العودة اليه ... ونمني النفوس بان يكون حالنا حال الذين يحتقرون الموت ليعيشوا أبدا.. ونسرح بالفكر بعيدا .. عن الجسد وننداح وراء موجات الاستشراف لتبدل الحال.. مع يقيننا ان ما مضي لن يعود.. ولكنه يظل غذاء لمسامات الروح..وهي تشدو بنغم الذكريات.. التي تخلد وان مضي العقل والجسد..وتنسل الي أوتار الحس المفعم خلف جدران الغربة بقية الأغنية الحكاية( اه تطلع بدمع العين ..زفرة بتشعل انفاسي ..لا اه بتداوي فينا حنين .. ولا زفرة بتجيب ناسي... لو عبرة بتزيل غصة او ذكري بتهدي حنان..لو انسان صبح قصة .. أنا القصة يا السودان ) رحم الله عبد المنعم الذي ترك ارثا من غربته ..يخفف من غربة كل الذين يعيشونها بالداخل قبل الخارج ومتعكما الله بجمعة سعيدة ..حمد وعبد اللطيف.. بل جعل كل ايامكما هناء وانتما ..تلامسان حواف السحاب لتبتل عندها حلوقنا العطشي للنغم النبيل... والدعاء موصول لكل من عانقت عيناه هذه القسمات الباسمة بألق الماضي .. فهي ذكريات لم تزل في مآقينا وفينا ..قد تنادت وتنامت ايقظت حبا دفينا.. داعبت حسي رؤاها..عزفت لحنا حنونا ..يشعل الأشواق طورا ..ويثير الدفء حينا ....رعاك الله.. (وطن الجمال..) انه المستعان ..وهو من وراء القصد..