[email protected] ان تفكيك الواقع السوداني نتاج لمحاولات التجريب من قبل مجتمع التحولات ونخبه باستخدام الرؤية العربية أو الغربية أو المزج بين الرؤيتين داخل الواقع كل ذلك لم يعني سوي مزيد من التفكك للثقافة السودانية والدولة السودانية. فالرؤية التي تسيطر على مجتمع التحولات (مجتمع الوسط) لا تعترف بالانسانية الا لذلك الإنسان فقط دون غيره من المجتمعات السودانية. وسجنت النخب ذاتها داخل رؤيتها دون السعي إلى الوعي بالذات والاخر المجتمعي فكان الرفض هو فقط ما يقابل المجتمعات الاخرى مع اختلاف للتوصيف السلوكي أي ذلك الرفض من خلال فعل سلوكي محدد. من الاغتيال المعنوي إلى الاغتيال المادي أي من صفة العبيد والكفار ومتخلفين إلى الحروب والدمار. ورغم سعي المجتمعات إلى المطابقة بين الإنسانية والانسان السوداني الا ان النخب لم تلبي طموح المجتمعات إلى الان فقد تقلبت المجتمعات بين عدة نخب ولكل رؤيتها ولكنها في الاخر كانت تعني مجتمع التحولات فقط اذا كانت الحكومات الديكتاتورية أو الديمقراطية واذا كانت الرؤي الشيوعية أو العربية أو الديمقراطية أو الاسلاموية فكلها رؤي نتاج لواقع اخر وعند تنزيلها على الواقع السوداني لا تستوعب سوى مجتمع التحولات فقط. وهنا يجب ان نفرق بين الرؤية والمجتمع فتلك الرؤي نتاج لواقع اخر تحاول النخب ان تشكل الواقع بناء على تلك الرؤية. اما مجتمع التحولات فهو نتاج لكل الواقع السوداني فهو مرحلة بين المجتمعات القبلية والمجتمع الثقافي لذلك كان يكتشف مبكرا قصور الرؤية عن استيعابه الكلي فهو ليس مجتمع واحد ولكن في محصلته النهائية هو مجموع المجتمعات السودانية جينيا بل ويقود التغيير من خلال ترميز الحلول داخل الاشخاص من شخص إلى الاخر ومن قيمة إلى أخرى للوصول لحالة التوازن الممكنة. فيجب عدم الربط بين مجتمع التحولات وبين النخب فوعي المجتمعات عبارة عن وعي سلوكي فهي لا تعي المقولات إلا من خلال انعكاساتها على الواقع. وعلى المستوى التاريخي للدولة السودانية أدي تمكن الرؤية العربية داخل الواقع السوداني وتلك الرؤية التي هي مزيج من قيم سلوكية عربية تاريخية تم استيعابها داخل الرسالة الإرشادية بالإضافة إلى الجين العربي ادت تلك الرؤية إلى تشوه الثقافة السودانية. وقد كان استمرار التحولات يظهر تلك الرؤية على حقيقته في استيعابها لمجتمع محدد فقط وليس المجتمع الكلي للثقافة السودانية، ففي حكم الاسلاميين وضح تطبيقها العملي في تمييزها لمجتمع التحولات عن المجتمعات السودانية الأخرى. وقد ظلت النخب (والى الان) تميز في رؤيتها للإنسانية بين السودانوية وبين الإسلام والعروبة وهو ما جعل الشقة تبدو بعيدة في الديمقراطية الثالثة بين الحكومة في ذلك الوقت وبين د. جون قرنق وهو ما دفعه إلى عدم ترك السلاح لعدم تلبية الديمقراطية التي تجسدها رؤية تلك النخب في ذلك الوقت لذاته ولمجتمعه ولذلك كان اصراره على مقاومته للحكومة المنتخبه فما تقدمه تلك الحكومة لم يقنع د. جون والنخب الجنوبية التي كانت تحمل السلاح بان المزايدة التي يقوم بها البعض باسم الإسلام واسم العروبة لا يمكن ان تشكل وطن يحيا به الجميع متساويين تخدمهم الحكومة كما هم لا كما تريد ان يكونوا. وحقيقة بدأت المفاوضات في تلك الفترة ولكنها لم تكتمل، ونحن على قناعة بان تلك المفاوضات ما كان لها ان تكتمل لانها لم تكن على قناعة بطرح الجنوبيين ولكن لان الجنوب في ذلك الوقت كان في مركز قوة. فإذا كانت تلك الاحزاب مقتنعة بما تطرحه النخب الجنوبية في ذلك الوقت لسعت إلى تعديل رؤاها وبرامجها لتستوعب تلك النقاط فهي احزاب تقدم نفسها لخدمة كل الوطن ولكن في الحقيقة هي تخدم رؤية محددة لم تنتج من داخل الواقع لذلك لا تري الواقع ولا تستوعبه. والتاريخ يعيد نفسه الان بصورة اقوى من الاول فقد انتقل الاختلاف من الاختلاف الظاهري الكلي الذي كان يشكله الجنوب إلى الاختلاف المجتمعي فقد وضح للنخب في دارفور وجنوب كردفان والنيل الازرق ان الرؤية التي تتحكم في المركز لا تستوعبهم بل حتى لا ترااهم ولا تسعي لرؤيتهم. فنتمني ان تسعي نخب الوسط خطوة إلى الامام في سبيل السعي بالثقافة السودانية عن طريق النقد الذاتي (أو جلد الذات كما قال د. حيدر) أو السعي إلى نخب المجتمعات الاخرى اذا كانت دارفور أو جنوب كردفان أو النيل الازرق أو غيرها في محاولة لاستيعاب طرحهم. فالثقافة السودانية احوج ما تكون لتنظيم النخب لذاتها وتكوين المجتمع النخبوي الذي يتبني الإنسانية داخله على اساس السودانية أي بعيدا عن الاسلاموية أو الحداثة، حتى تتفرغ النخب إلى رؤية الواقع كما هو وتتمكن من اختزال الافكار دون هاجس الاغتيال المعنوي. والنخب ليس اختيار ارادي فيجب ان نفرق بين النخب والتكنوقراط أو الاكاديميين أو المتخصصين في مجال معين، فالنخب تطرح علاقة الاجزاء ببعضها البعض والمعاني الكلية، وهي في بحثها الدائم ذلك لمعني الإنسانية والثقافة والاخر والإله عليها ان تطرح كل تلك الأسئلة على طاولة النقاش مع تثبيت محدد الواقع ككونست (const)، وبما ان الواقع أو المجتمع أو الثقافة ايضا متغير فان ذلك يفتح المجال امام التداول النخبوي فكل نخب تري واقعها بناء على تاريخيته ولحظته الراهنة وهكذا يمكن لكل نخب ان تسلم الاخرى في سبيل الإجابة على أسئلة التحولات الاجتماعية.