[email protected] مما لا طائل منه الآن التعرض لاخطاء السياسة الرسمية السودانية فقد باتت تتحدث عن نفسها وبلغت مشارف الهاوية وانكبت فيها علي وجهها في جوانب الامن والاقتصاد وصار الحديث عن وعود الاصلاح الاقتصادي وإعادة هيكلته والخطط المصممة لذلك هي اماني لايصدقها الا واضعيها (وفي ذلك شك) فهي في نظر المواطن ليست أرجي من مثيلتها أتفاقية السلام الشامل تلك التي ليس لها من اسمها نصيب فقد ذهبت بثلث الوطن وربع مواطنيه وجل موارده من النقد الاجنبي ولم تبقي علي السلام فقد اعقبتها حرب تتأجج أوارها كل يوم وهي الآن أقرب من ذي قبل الي مركز الحكم. كنت أود وانا اكتب هذه السطور ان يخالجني أدني شك في نجاعة تلك الوصفات الموضوعة للاقتصاد او تلك الحدود والفواصل التي ستحكم مواقف التفاوض مع الجار الجنوبي او في قدرة تلك المتحركات العسكرية علي تحقيق الامن في اطراف البلاد المستعرة. ولكن ماتحمله الاسافير من معلومات لايترك للشك مجالا بل يؤكد يقينا مخيفا بمستقبل مجهول إن عجزنا عن تداركه, ففي غياب مظنة تأثير خطط هيكلة الاقتصاد علي تطوير موارد حقيقية (في ظل صعوبات عميقة يواجهها القطاع الزراعي والرعوي وذهاب عوائد النفط ومحدودية اثر التعدين إذ لايتجاوز دور الدولة فيه التسويق وتقديم الخدمات) او تهئية مناخ مشجع للاستثمار (وسط تصاعد مخاوف عدم الاستقرار السياسي) تصبح كل خطة كورقة التوت لاتستر عورة. من نافلة القول هنا الاشارة الي أن المواطن هو اول من سيواجه إنعكاسات الازمة الاقتصادية الحالية التي يمر بها السودان ومما لا شك فيه ايضا إن عجز المواطن عن مواكبة تسارع تكاليف الحياة سيقوده حتما الي الشارع (وقد حدث) وأن إتساع حدة الرفض الشعبي وتصاعد مطالبه سيتبعه تصاعد في مقاومة السلطة وهو مايمكن ترجمته الي زيادة في الصرف الامني وتعطيل لعجلة الانتاج وهروب الاستثمارات الاجنبية في تفاعل تسلسلي ودائرة جهنمية ستفاقم محنة الاقتصاد وستلقي بظلالها علي الامن والاستقرار السياسي في دراما افضل سيناريوهاتها الحالة المصرية واسوءها مفتوح الاحتمالات ولكنه سيجعل من النموزج الليبي روضة للديمقراطية. المواطن والسلطة لن يكونا الفاعلين الوحيدين في مشهد السياسة السودانية المقبل والتدافع السلمي بالتأكيد لن يكون عنوان ذلك المشهد فحركات التمرد المسلحة ستقفذ بقوة ومحاولاتها الضغط لتوسيع رقع سيطرتها الجغرافية لن تكون الا حدود دنيا لطموحاتها ومساهمتها في إسقاط السلطة المركزية عبر مساعدة قوي الداخل ستحرر رواية الثورة الشعبية المدعومة بالسلاح وفق قواعد جديدة كليا. وليس ببعيد عن ذلك ما ستقوم به الشقيقة دولة الجنوب فلا شك إنها ستعمل علي ضم كل مناطق النزاع الي سيادتها ولن تعبء بعدها بتطاول عمليات التحكيم الدولية اللاحقة هذا إن لم تفلح في إيصال حليفها وربيبها قطاع الشمال الي قصر المقرن لتتم تسوية الملفات العالقة لاحقا وفق قواعد سداد الديون. لو علمنا مساحة مناطق النزاع المسلح الممتدة من حدود السودان مع ليبيا الي تشاد الي افريقيا الوسطي الي كامل الحدود مع الجنوب الي الحدود الشرقية مع اثيوبيا مع إحتمال تفاعل نزاعات قديمة في الاقليم الشرقي يمكن تخيل مساحة الخروج عن السلطة المركزية والتي سيتطلب عودتها جهودا وشروطا تحد الجهويات والقبليات المتنامية من فرصها. ما يتبقي من الدولة السودانية سيرتبط مصيره بتأثير ربع قرن من الحكم الاحادي علي مؤسسات الدولة وبالأخص العسكرية والامنية هو الأمر الذي بأتت تتصاعد أهميته خصوصا مع التفات الانظار الي موقف تلك المؤسسات من محاولة تغيير نظام الحكم فمصير ومسار عملية التغيير المحتملة مرتبط بصورة جوهرية بمدي استعداد تلك الاجهزة لتقبل بديل من غير المؤتمر الوطني والا فالبديل حالة من الاحتراب الداخلي تتطاول معها معاناة الشعب السوداني فالقبضة الامنية للسلطة ليست بالضعيفة وهي وإن كانت لا تتمتع بالدعم السياسي من قوي دولية كما هو الحال في الحالة السورية فمازالت تتمتع بدعم طائفة مقدرة من الاسلاميين مستعدة للدفاع بشراسة عن النظام لدوافع عقائدية او لمصالح مرتبطة ببقاء النظام في سدة الحكم وهو ما سيعمل علي حفظ مؤلم لميزان القوي بين ما سيتحول الي فصائل متحاربة وما سيجعل مصير الثورة السودانية يتراوح بين الحالة الليبية او السورية ليحدد التدخل الدولي من عدمه ايهما سيري النور. معطيات السياسة السودانية تظهر مؤشرات بالغة الخطورة أولها حتمية تغيير جزري في بنية السلطة فمما لاشك فيه ان الانقاذ قد استنفدت مسوغات بقاءها. والمؤشر ثاني قدرة مشكوك فيها لقوي المعارضة التاريخية علي إدارة الازمة الحالية وتحريك الشارع بما يفضي الي تغيير في نظام الحكم فالحزبين الرئيسين يعدا في خانة الشريكين فعليا إما بشكل ظاهر او من الباطن وعلي الرغم من ان قرارات المشاركة لا تعبر بصدق عن قاعدتهما العريضة الا انها توضح غياب الديقراطية في مؤسسات يفترض بها ان تعمل علي ترسيخها. أما بقية الفاعلين في المشهد المعارض فهما المؤتمر الشعبي والذي ماتزال تغمزه بقية الاحزاب بدوره في الانقلاب علي الديمقراطية والآخر هو الحزب الشيوعي والذي يعمل في إطار من الصفوية والنخبوية بعد تأثر امتداده الشعبي كبقية الاحزاب بعمليات تدجين مؤسسات العمل المدني من نقابات وروابط. أعتقد أن تجربة السودان في الثورات علي انظمة الحكم الشمولية قد خلقت حالة من الوعي المتقدم بضرورة الاطمئنان الي البدائل قبل الشروع في الثورة وعزز من ذلك مشاهدات لواقع الربيع العربي فتجربة خيبة الامل التي مني بها الشعب عقب كل ثورة قللت من حماسه بشكل واضح للورثة التقليديين وفي ظل حالة الشلل الذي اصاب الممارسة السياسية لعقدين من الزمان لا يبدو في الافق بديل يتوافق عليه الناس. من المخيف الآن التفكير في حجم الضغوط التي يعيشها صانع القرار في الحزب الحاكم ومن المفزع التفكير في شكل القرارت التي يتخذها فما بين مطرقة الداخل وسندان الخارج يفترض به ان يقضي في مستقبل جغرافيا وديموغرافيا السودان فأجل الاشهر الثلاث المرسوم لحسم ملف ما يعرف بالقضايا العالقة مع الجنوب من الحدود والمواطنة والنفط صار غاب قوسين او ادني. لايبدو اي من سيناريوهات الثورة المحتملة غير كارثيا فنجاحها في ظل المعطيات الحالية سيتم بداية عبر ثمن باهظ كما انه سيعمق من أزمات البلاد في صعدها المختلفة فلن تسلم الحدود من الانتقاص كما لا يمكن التنبوء بما ينتج عن حالة هشاشة الانتماء للدولة السودانية في ظل دعاوي الانفصال التي صدحت بها كثير من جماعات العمل المسلح ناهيك عن الاضرار الجسيمة التي ستلحق ببنية الدولة وليس بأفضل من نجاح الثورة فشلها إذ انه في الحد الادني سيحافظ علي عجلة التقهقر التي تسير فيها الدولة كما سيحافظ علي وضع العزلة الدولية ويعمق من عدم إطمئنان النظام لسنده الشعبي. أفضل الخيارات إتفاق علي إنتقال سلمي للسلطة يأتي عبر إنتخابات مبكرة يرتضي المؤتمر الوطني الا ينافس الا في ثلث مقاعد البرلمان القومي وبرلمانات الولايات والا ينافس علي مقعد رئاسة الجمهورية او ان يتم الاتفاق علي حكومة قومية تهئ المناخ لصياغة دستور يشارك فيه كل قطاعات الشعب تعقبه إنتخابات تعددية تفتح الباب لمستقبل أفضل. منتصر أحمد إبنعوف 24/يونيو/2012