بعثة الرابطة تودع ابوحمد في طريقها الى السليم    ياسر محجوب الحسين يكتب: الإعلام الأميركي وحماية الدعم السريع    الفوارق الفنية وراء الخسارة بثلاثية جزائرية    نادي القوز ابوحمد يعلن الانسحاب ويُشكّل لجنة قانونية لاسترداد الحقوق    كامل ادريس يلتقي نائب الأمين العام للأمم المتحدة بنيويورك    شاهد بالفيديو.. شباب سودانيون ينقلون معهم عاداتهم في الأعراس إلى مصر.. عريس سوداني يقوم بجلد أصدقائه على أنغام أغنيات فنانة الحفل ميادة قمر الدين    السعودية..فتح مركز لامتحانات الشهادة السودانية للعام 2025م    محرز يسجل أسرع هدف في كأس أفريقيا    شاهد بالصور.. أسطورة ريال مدريد يتابع مباراة المنتخبين السوداني والجزائري.. تعرف على الأسباب!!    شاهد بالفيديو.. الطالب صاحب المقطع الضجة يقدم اعتذاره للشعب السوداني: (ما قمت به يحدث في الكثير من المدارس.. تجمعني علاقة صداقة بأستاذي ولم أقصد إهانته وإدارة المدرسة اتخذت القرار الصحيح بفصلي)    البرهان يزور تركيا بدعوة من أردوغان    وزير الداخلية التركي يكشف تفاصيل اختفاء طائرة رئيس أركان الجيش الليبي    سر عن حياته كشفه لامين يامال.. لماذا يستيقظ ليلاً؟    "سر صحي" في حبات التمر لا يظهر سريعا.. تعرف عليه    تقارير: الميليشيا تحشد مقاتلين في تخوم بلدتين    شاهد بالصورة.. الناشط محمد "تروس" يعود لإثارة الجدل ويستعرض "لباسه" الذي ظهر به في الحفل الضجة    شاهد بالصورة والفيديو.. المذيعة تسابيح خاطر تستعرض جمالها بالفستان الأحمر والجمهور يتغزل ويسخر: (أجمل جنجويدية)    سيدة الأعمال رانيا الخضر تجبر بخاطر المعلم الذي تعرض للإهانة من طالبه وتقدم له "عُمرة" هدية شاملة التكاليف (امتناناً لدورك المشهود واعتذارا نيابة عنا جميعا)    شاهد بالصورة والفيديو.. المذيعة تسابيح خاطر تستعرض جمالها بالفستان الأحمر والجمهور يتغزل ويسخر: (أجمل جنجويدية)    والي الخرطوم: عودة المؤسسات الاتحادية خطوة مهمة تعكس تحسن الأوضاع الأمنية والخدمية بالعاصمة    فيديو يثير الجدل في السودان    إسحق أحمد فضل الله يكتب: كسلا 2    ولاية الجزيرة تبحث تمليك الجمعيات التعاونية الزراعية طلمبات ري تعمل بنظام الطاقة الشمسية    شرطة ولاية نهر النيل تضبط كمية من المخدرات في عمليتين نوعيتين    الكابلي ووردي.. نفس الزول!!    حسين خوجلي يكتب: الكاميرا الجارحة    احذر من الاستحمام بالماء البارد.. فقد يرفع ضغط الدم لديك فجأة    في افتتاح منافسات كأس الأمم الإفريقية.. المغرب يدشّن مشواره بهدفي جزر القمر    استقالة مدير بنك شهير في السودان بعد أيام من تعيينه    مكافحة التهريب بكسلا تضبط 13 ألف حبة مخدرات وذخيرة وسلاح كلاشنكوف    كيف تكيف مستهلكو القهوة بالعالم مع موجة الغلاء؟    4 فواكه مجففة تقوي المناعة في الشتاء    اكتشاف هجوم احتيالي يخترق حسابك على "واتسآب" دون أن تشعر    ريال مدريد يزيد الضغط على برشلونة.. ومبابي يعادل رقم رونالدو    رحيل الفنانة المصرية سمية الألفي عن 72 عاما    قبور مرعبة وخطيرة!    شاهد بالصورة.. "كنت بضاريهم من الناس خائفة عليهم من العين".. وزيرة القراية السودانية وحسناء الإعلام "تغريد الخواض" تفاجئ متابعيها ببناتها والجمهور: (أول مرة نعرف إنك كنتي متزوجة)    حملة مشتركة ببحري الكبرى تسفر عن توقيف (216) أجنبي وتسليمهم لإدارة مراقبة الأجانب    عزمي عبد الرازق يكتب: عودة لنظام (ACD).. محاولة اختراق السودان مستمرة!    انخفاض أسعار السلع الغذائية بسوق أبو حمامة للبيع المخفض    تونس.. سعيد يصدر عفوا رئاسيا عن 2014 سجينا    ضبط أخطر تجار الحشيش وبحوزته كمية كبيرة من البنقو    البرهان يصل الرياض    ترامب يعلن: الجيش الأمريكي سيبدأ بشن غارات على الأراضي الفنزويلية    قوات الجمارك بكسلا تحبط تهريب (10) آلاف حبة كبتاجون    مسيّرتان انتحاريتان للميليشيا في الخرطوم والقبض على المتّهمين    إسحق أحمد فضل الله يكتب: (حديث نفس...)    حريق سوق شهير يسفر عن خسائر كبيرة للتجار السودانيين    مياه الخرطوم تكشف تفاصيل بشأن محطة سوبا وتنويه للمواطنين    محافظ بنك السودان المركزي تزور ولاية الجزيرة وتؤكد دعم البنك لجهود التعافي الاقتصادي    الصحة الاتحادية تُشدد الرقابة بمطار بورتسودان لمواجهة خطر ماربورغ القادم من إثيوبيا    مقترح برلماني بريطاني: توفير مسار آمن لدخول السودانيين إلى بريطانيا بسهولة    الشتاء واكتئاب حواء الموسمي    عثمان ميرغني يكتب: تصريحات ترامب المفاجئة ..    "كرتي والكلاب".. ومأساة شعب!    ما الحكم الشرعى فى زوجة قالت لزوجها: "من اليوم أنا حرام عليك"؟    حسين خوجلي: (إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار فأنظر لعبد الرحيم دقلو)    حسين خوجلي يكتب: عبد الرجيم دقلو.. إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار!!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نظرات في ترجمة "موسم الهجرة إلى الشمال" إلى الإنجليزية (1) .
نشر في الراكوبة يوم 30 - 01 - 2013

للقاريء أن يتعجب ويستغرب إذا علم أن ترجمة، فريدة كل العصور، رواية (موسم الهجرة إلى الشمال) إلى الانجليزية، قد اكتمل بالتزامن مع الانتهاء من كتابتها !! فكان الطيب صالح كلما فرغ من كتابة فصل من الفصول بخط يده يقوم بتسليمه لدينيس جونسون ليقوم بترجمته إلى الانجليزية وهكذا إلى أن اكتملت الرواية. "كنت اتلقى كل بضعة أيام في مكتبي رزمة من الورق، هي حلقة جديدة في الرواية، وسرعان ما انتهت الرواية مع اكتمال الترجمة في الوقت ذاته تقريبا". (انظر: دينيس جونسون ديفيز- ذكريات في الترجمة) وهذه تجربة فريدة لا اظن انه يوجد ما يماثلها في تاريخ ترجمة الآداب.
سألت دينيس جونسون ديفيز، على هامش ندوه اقيمت بدبي لإحياء الذكرى الأولى لرحيل الطيب صالح- كيف تشرع في ترجمة رواية فصلا بفصل قبل اكتمالها وقبل قراءتها مكتملة. ما الدافع الذي جعلك تفعل ذلك، وكيف عرفت انها ستكون رواية ناجحة؟ قال لي فيما معناه انه كان يؤمن بموهبة الطيب صالح في الكتابة وكان يعرف انها ستكون رواية غير عادية. فهو قبل (موسم الهجرة إلى الشمال) قد اطلع على القصص الأولى للطيب صالح وترجم ونشر (حفنة تمر) و (دومة ود حامد).
ومن الطرائف المثيرة التي يذكرها ديفيز في كتابه (ذكريات في الترجمة) عن حكاية كتابة وترجمة ونشر، رواية، موسم الهجرة إلى الشمال، أن الطيب صالح عندما همَّ بنشر النص الاصلي للرواية كان متحرجا من نشر فقرات " آيروسية" فقام بحذفها. وكان ديفيز قد ترجمها سلفا في النص الانجليزي. وعندما شرعوا في نشر الترجمة تساءلوا هل يبقوا على الصفحتين المحذوفين من النص العربي خاصة وان جونسون لا يرى فيهما ما يمكن ان يثير حفيظة القاريء الانجليزي. واستقر الرأي أخيرا أنه لا جدوى من تضمين الترجمة فقرات لا وجود لها في الأصل. يضيف جونسون ديفيز "وفي مكان ما بين أوراقي توجد لدي هذه الفقرات مكتوبة بخط الطيب صالح في ورقتين وربما ستجدان ذات يوم طريقهما الى صالة مزادات لتباعا لقاء مبلغ جسيم الى مليونير يحرص على اقتناء هذه الاشياء المثيرة للفضول".
دينيس جونسون ديفيز مستشرق أو (مستعرب) كما يحلو للبعض، انجليزي، مولود بكندا، وقد عاش جزءً من طفولته بوادي حلفا بالسودان. يقول:" في طفولتي في وادي حلفا كنت قد نشأت بين الأطفال السودانيين. كنت اتحدث العربية بطلاقة إلا أنني نسيت كل كلمة منها فالمرء في طفولته يتعلم لغة ما بسرعة لكنه ينساها بيسر مماثل". وفيما بعد درس دينيس اللغة العربية بمعهد الدراسات الشرقية بجامعة لندن. ولا اشك ان ما تعلمه من العربية في وادي حلفا رغم نسيانه الظاهري، له، ظل محفورا في لاوعيه، يشكل خلفية ترسخ ما يتعلمه في الجامعة. وكان قبلها قد تخصص في الانجليزية بجامعة كمبريدج الأمر الذي أهله العمل محاضرا بجامعة فؤاد الأول بالقاهرة في الاربعينات، واستاذا زائرا بالجامعة الأمريكية بالقاهرة فيما بعد، كما عمل بهيئة الاذاعة البريطانية، وقد تعرف على الطيب صالح بلندن اثناء عمل الاخير بالإذاعة البريطانية. عشق دينيس مصر ولا يزال يعيش فيها حتى الآن وقد ناهز المائة سنة من العمر. ويعد ديفيز رائد ترجمة الأدب العربي الحديث إلى الإنجليزية أو بعبارة الطيب صالح The doyen of translators "سيد المترجمين".
صدرت الترجمة الإنجليزية لرواية (موسم الهجرة إلى الشمال) لأول مرة سنة 1969 أي بعد ثلاث سنوات من صدورها بالعربية وكان ذلك ضمن سلسلة كتاب أفارقة التي تصدرها دار نشر انجليزية مرموقة تسمى هاينيمان Heinemann . ويقول ديفز أن العديد من النقاد الانجليز قد اطنبوا في مدح الرواية عند صدورها بالانجليزية، حتى أن صحيفة الصنداي تايمز قد اختاراتها "رواية العام".
غير أن الطيب صالح يتوقف في المقدمة الانجليزية التي كتبها لطبعة "بنجوين" للأعمال الكلاسيكيةPenguin Classics ، للرواية، الصادرة سنة 2005 يتوقف عند رأي سالب عبر عنه ناقد انجليزي وقت صدور الرواية، وذلك بالملحق الادبي لجريدة "التايمز"، يقول الطيب، كان ذلك الكاتب حاد المزاج، ومتغطرسا، فاصدر حكما مبتسرا على الرواية، واصفا أياها بكل عجرفة انها تدور حول حدث واحد رئيسي episodic وهذه نقطة الضعف التي تسم كل الكتابات العربية!! .
من ناحية أخرى، يرى الطيب صالح، في مقدمته، لطبعة دار بنجوين المشار إليها، أن الاحتفاء الذي قابلته الرواية في باريس في ترجمتها الفرنسية اكبر بكثير من ذلك الذي وجدته الرواية في لندن. ويقول ان الترجمة الفرنسية ظهرت بعد مدة وجيزة من صدور الترجمة الانجليزية، وان المستشرق الفرنسي الكبير، جاك بيرك، الأستاذ بالكوليدج دي فرانس، بباريس، والذي يُحظى باحترام وسط المثقفين العرب، قد تفضل بكتابة مقدمة وافرة الثناء generous للترجمة الفرنسية، وأن الصحف الباريسية الكبرى قد حفلت بالمقالات النقدية المقرظة للرواية ومن ذلك أنه قد جاء في مقالة للكاتب فرانسوا مورياك: " لم يحدث أن قرأنا شيئا كهذا من قبل، ونحن الذين قد قرأنا كل شيء".
وعطفا على ذلك يذكر للطيب صالح في مقدمة طبعة بنجوين، ان سيدة باريسية، حكت له: أنها التقطت الرواية عن طريق الصدفة من أحدى المكتبات الباريسية وبدأت في قراءتها في القطار المترو، فاستغرقتها الرواية، حتى تجاوزت، من غير أن تدرى، المحطة التي كان عليها النزول عندها".
هذا، وقد تُرجمت الرواية، حسب الطيب صالح وديفيز، إلى إحدى وعشرين لغة معظمها ترجمات ثانية عن ترجمة ديفيز الانجليزية. وبعيد رحيل الطيب صالح في 2009 أصدرت دار "نيويورك ريفيو بوكس" New York Review Books بنيويورك الرواية لأول مرة بترجمة دينس جونسون ديفيز، بمقدمة ممتازة كتبتها الكاتبة والروائية الجزائرية ليلى لالامي. ونُذكِر بأن الملتقى الادبي بالنرويج كان قد اختار سنة 2002 الرواية بين أعظم مائة أثر أدبي عبر التاريخ. كما أن الاكاديمية العربية بدمشق كانت قد اختارت سنة 2001 الرواية، أفضل رواية صدرت بالعربية في القرن العشرين.
وبالنظر إلى الترجمة التي أنجزها جونسون ديفيز لهذه الرواية المعجزة، نقول أن هذه الترجمة، ترجمة نموذجية بكل المقاييس وأنها تُشكل مثالا يحتذي لما يجب ان تكون عليه الترجمة الأدبية. فاذا كانت الترجمة فن وإبداع، فدينيس، قد تفنن وأبدع في انجاز عمل عظيم. ومن أولى الدلائل على ذلك أن القاريء لا يكاد يحس بأنه يقرأ نصا مترجما. وآية نجاح الترجمة الأدبية، بل وكل ترجمة، ألا يشعر القاريء أن النص الذي أمامه منقول عن لغة أخرى وهذه مهمة عصية المنال لا يقدر على الوفاء بها إلا الأقلون. ولا أخالني أغالي إذا قلت أن المتعة التي أحسها في نص الرواية المنقول إلى الانجليزية لا تقل كثيرا، عن تلك التي أحسها في الأصل العربي.
وإذا كان أهم ما يميز رواية موسم الهجرة إلى الشمال، هو لغتها الشعرية والنبرة الغنائية الساحرة، والبنية الروائية الحاذقة والمذهلة، فان الترجمة الانجليزية قد نجحت في نقل هذه الشعرية وهذه الغنائية والبناء الحاذق، إلى القاريء الانجليزي بكل دقة وشفافية ورشاقة وسلاسة، وطلاقة، وانسيابية، ومطابقة، ولا أقول حرفية. ويكفي دليلا على كل ذلك عبارات المديح التي قيلت في حق الرواية من قِبَل النقاد والأدباء المتكلمين بالإنجليزية.
فقد جاء في صحيفة الاوبزيرفر البريطانية في وصف الرواية: An Arabian nights in reverse.., Powerfully and poetically written and splendidly translated by Denys Johnson-Davies' “الرواية، ألف ليلة وليلة، أخرى... لقد كتبت برصانة وشاعرية فاتنة وترجمها ببراعة إلى الانجليزية دينس جونسون ديفيز".
ووصفتها صحيفة الناشرون الاسبوعية اللندنية: An arresting work "عمل أدبي آسر" بينما وصفتها جريدة النيويورك تايمز الأمريكية بالقول:A brilliant miniature.., Swift and astonishing in its prose." "تحفة حاذقة...تمتاز برشاقة اسلوبها وبسلاستها المذهلة".
(ملحوظة : أخذنا هذه الاقتباسات من الإفادات المكتوبة على الأغلفة الخلفية للطبعات الإنجليزية للرواية). وكل هذه الإفادات في مدح الرواية تؤكد براعة الترجمة ودقتها ولولا ذلك لما أحدثت الرواية هذا الأثر الفعّال والعميق لدى النقاد وقراء الانجليزية ولضاعت عليهم قيمة ومتعة الرواية.
من القضايا التي تواجه أي مترجم لنقل نص أدبي، بل وكل نص، ترجمة الخصائص الثقافية والعاديات واسماء الأدوات والأشياء والأمثال والعبارات الاصطلاحية التي لا يوجد ما يقابلها في اللغة المنقول إليها. والخيارات المتاحة أمام المترجم هي إما أن ينقل هذه الاشياء نقلا صوتيا كما هي في لغة النص أو أن يلجا إلى ما يسمى بالترجمة التفسيرية أي ان يقوم بنقل المعنى الدالة عليه هذه الأشياء.
وهذا ما اتبعه دينس جونسون بحصافة في ترجمة موسم الهجرة إلى الشمال. فالأشياء التي يوجد ما يقابلها في الانجليزية يورد هذا المقابل، كإيراده لكلمة acacia مقابلا لشجر الطلح، مع أن الأكاسيا فصيلة، تشمل الهشاب، والطلح. ولكن ذلك أفضل بكثير من الاكتفاء بإيراد لفظ "طلح" كما هو في الترجمة. أما الاشياء التي لا يوجد ما يقابلها في الانجليزية فعمد الى نقل بعضها كما هي في لغة النص إذا رأي أن القاريء يمكن أن يدرك المعنى من خلال السياق العام أو بالرجوع إلى المعاجم والمصادر الاخرى أو ان شيئا لم يفوته إذا لم يلم بطبيعة الشيء المعين. ومن اسماء الأدوات والاشياء التي ينقلها نقلا صوتيا كما هي في النص الاصلي:
ديوان – وادي – سنط – سيّال – عرقي – عفريت – جني – حراز – صندل- أردب – كاكي- جبة – جلابية – كُحل، وغيرها.
ولكنه حينما يرى ان المعنى يمكن ان يضيع على القاريء الانجليزي اذا أبقى على الكلمة كما هي في لغة الأصل، فانه يلجأ إلى الترجمة التفسيرية ومثال ذلك ترجمته للكلمات الآتية ترجمة تفسيرية:
سبحة، فروة الصلاة أو المصلاية، برش، ساقية، قربة، دلكة، فركة القرمصيص إلخ. فقد ترجم السبحة: string of prayer-beads وترجم البرشstraw mat وترجم الساقيةwater-wheel وهكذا.
أما الأمثال والعبارات الاصطلاحية التي تجري مجرى الأمثال- فمهمة ترجمتها أصعب ولكن دينس جونسون اجتهد ببراعة في ايجاد المقابل لهذه العبارات ومن ناحية أخرى عمد إلى ترجمة بعضها ترجمة تفسيرية، وقد وُفِق في ذلك أيما توفيق. جاء في الرواية: "وضربني ود الريس بكوعه في جنبي قائلا: " قالوا نسوان النصارى شيء فوق التصور؟ فقلت: لا أدري. فقال: أي كلام هذا؟ شاب مثلك في عز الشباب يعيش سبع سنين في بلاد الهنك والرنك وتقول لا أدري؟"
فكيف يمكن نقل عبارة "بلاد الهنك والرنك"؟ لقد أوجد دينيس عبارة في الانجليزية مقابلة تماما لهذه العبارة وهي عبارة:land hanky-panky . وفي ذات السياق يرُد بكري على ود الريس قائلا:" النسوان نسوان في مصر أو السودان أو العراق أو واق واق. السوداء والبيضاء والحمراء كلهن سواسية". من المتوقع من اي مترجم اخر ان يترجم عبارة "الواق واق" ترجمة صوتية وينقلها كما هي على اعتبار أنها اسم لبلاد بعينها. ولكن لا توجد في الواقع، بلاد تسمى، الواق واق. والغرض البلاغي من هذا التعبير، المبالغة والايغال في الغرائبي والمستحيل. والعبارة مستوحاة من لغة "قصص ألف ليلة وليلة" وكان دينس واعيا بذلك، لذلك لم يكتف بنقلها كما هي، بل اجتهد وأوجد المقابل الذي ينقل الغرض البلاغي لهذه العبارة بكل ما تحمله من ايحاءات اسطورية وسحرية، فترجمها إلى الانجليزية بعبارة :the land of Mumbo-jumbo التي تعطى ذات الدلالة البلاغية.
وحرصا من المترجم على نقل النص دون أدني غموض أو ابهام لا يكتفي بالترجمة التفسيرية بل يلجا إلى التصرف في النص، تصرفا ربما يرى فيه البعض نوعا من التجاوز، ولكنه تجاوز حسن لا يغير في النص شيئا بل يجعله أكثر وضوحا وفهما للقاريء الانجليزي. ومثال ذلك تصرفه في نقل المثل السوداني السائر:" الغزال قالت بلدي شام". ففي مجلس اُنس ومسامرة، ضم عجائز فوق السبعين، يرفهون فيه عن انفسهم باحاديث الصبا وذكريات الشباب، يحكي جد الراوي: حاج أحمد، عن سفره إلى مصر وعرض أحد المصريين عليه الزواج من أحدى بناته، ولما يهم بذلك ياتيه تلغراف من البلد بوفاته والدته، فيعود إلى ود حامد. فيعلق ود الريس على حكاية حاج أحمد بقوله: "يا خسارة. الدنيا هكذا تعطى لا يريد أن يأخذ. على اليمين لو كنت في محلك كنت عملت عمايل. كنت تزوجت وقعدت هناك وذقت حلاوة الحياة مع بنات الريف. ماذا أرجعك لهذا البلد الخلاء المقطوع؟". فيرد بكري على ود الريس:" الغزال قالت بلدي شام". فيترجم دينس المثل ترجمة تفسيرية مع شيء من التصرف بإضافة عبارة "فاستشهد بكري بالمثل" محل عبارة :" قال بكري " الموجودة بالأصل. وذلك لكي يفهم القاريء الانجليزي ان ما قاله بكري مثلٌ، وليس حديث عادي. وجاءت الترجمة كما يلي:
“The gazelle said; to me my desert country is as beautiful as Syria", Bakri quoted the proverb.
لاحظ أنه ترجم المثل ترجمة تفسيرية واتى بكلمة سوريا مكان الشام وذلك خشية ان تكون كلمة شام غير معروفة لكثير من القراء، ولا بأس في ذلك. وأبقى على "غزال" كما هي لانها جزء من المثل وربما لظنه انها سوف يشكل فهمها على القاريء، ولكن لا أرى بأسا لو أنه ترجم "غزال" إلى الانجليزية لان جريان الأمثال والحكم على لسان الحيوانات معروف في ميثيلوجيا شعوب العالم. وعلى أية حال فان دلالة المثل تتضح أكثر بربطه بجملة ود الريس السابقة له مباشرة، وهي قوله لحاج أحمد: "ماذا أرجعك لهذا البلد الخلاء المقطوع؟". وما أجمل ترجمة دينيس جونسون لهذه العبارة:
What brought you back to this barren good-for-nothing place?'
أما جملة " بنات الريف" الواردة في قول ود الريس:" لو كنت في محلك كنت عملت عمايل. كنت تزوجت وقعدت هناك وذقت حلاوة الحياة مع بنات الريف" فقد تصرف فيها بأن ترجمها تفسيريا بعبارة: Egyptian girls وحسنا فعل ذلك، لانها سوف لن تعنى شيئا للقاريء الانجليزي إذا ما اكتفى بنقلها كما هي.
من المعلوم بالضرورة أن اسماء الأعلام (الأشخاص) لا تترجم ولكن من التجاوزات الابداعية أن دينيس تصرف في ترجمة الاسم "آمال" الوارد في قول الراوي:" وابنتي اسمها آمال". وذلك بنقله إلى كلمة Hope الانجليزية. وقد يبدو ذلك غريبا ومستنكرا لأول وهلة. ولكن السياق والدلالة العامة وادراك الغرض البلاغي من ايراد هذا الاسم تحديدا في هذا السياق هو الذي أملى على المترجم هذا التصرف. فقد جاء في الرواية في واحدة من أكثر الفقرات شاعرية وغنائية: "استلقيت على الرمل واشعلت سيجارة، وتهت في روعة السماء...في ليلة مثل هذه تحس انك تستطيع أن ترقى إلى السماء على سلم من الحبال. هذه أرض الشعر والممكن وابنتي اسمها آمال. سنهدم وسنبني وسنخضع الشمس ذاتها لإرادتنا وسنهزم الفقر باي وسيلة".
اسم "آمال" هنا ليس مجرد اسم عابر يمكن لاسم آخر أن يحل محله، ولكنه مقصود لذاته وفي ذاته، لدلالته اللغوية المعنوية والايحائية التي تستمد ظلالها من الرغبة في الهدم والبناء وهزيمة الفقر واخضاع المستحيل للارادة في التغيير وتحقيق الآمال والطموحات. وقد فطن المترجم لكل ذلك فعمد إلى ترجمة اسم آمال إلى ما يقابله في الانجليزية حتى لا تفوت دلالته هنا على القاريء الانجليزي، ولو انه أورده في صيغة الجمع لكان أجمل، ولكن يبدو أن ذائقته الإنجليزية لم تستسغ أن يأتي اسم لمفرد في صيغة الجمع.
ومن الأمثلة التي يمكن ان تثير اعتراض البعض التصرف الذي أجراه المترجم لواحدة من الشتائم وهي عبارة "ابن الكلب" حيث لم يلتزم دينيس بحرفية النص وأوجد شتيمة اخرى مقابلة يكثر استخدامها في الانجليزية وهي عبارة you son of a bitch!. جاء ذلك في حديث الراوي عن التهذيب الذي قابله به مصطفى سعيد في بداية تعرفه عليه حين قال: "لماذا لا يترك هذا الأدب ونحن في بلد إذا غضب فيها الرجال قال بعضهم لبعض :يا ابن الكلب!"
هنا يبدو أن هدف المترجم كان منصبا على إيراد أقرب شتيمة يمكن أن يتلفظ بها الرجل الانجليزي إذا غضب من أحد، فأوردها مقابلا للشتيمة الواردة في الأصل.
بل ان دينيس حرصا منه ألا تفوت القاريء الانجليزي أي صغيرة أو كبيرة عمد إلى اكمال ما تحرَّج الكاتب من التلفظ به في الأصل وترك مكانه خاليا مع وجود النقط (...) للدلالة عليه. وهو قول مصطفى سعيد:" سأحرر أفريقيا ب...ي". لا شك أن القاريء للنص العربي سوف لا يتردد لحظة واحدة في ملأ هذا الفراغ في صمت. ولكن دينيس جونسون لم يرى في التصريح بالشيء المحذوف ما من شانه اثارة حفيظة القاريء الانجليزي فحذف النقط وذكر المحذوف مكانها.
في الحلقة القادمة سنعرض لرأي يرى غير ما نرى في هذه الترجمة البديعة.
المصادر:
1- Season of Migration to the North, Heinemann, London, 1969
2- Season of Migration to the North, Penguin Classics ,London ,2005
3- Season of Migration to the North, New York Review Books, New York, 2009
4- دينيس جونسون ديفز، ذكريات في الترجمة، ترجمة كامل يوسف حسين، اليربوع للنشر والتوزيع ، دبي، ط1 2007.
5- الطيب صالح، موسم الهجرة إلى الشمال، دار العودة، بيروت ط،13، 1981.
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.