مبدأ الفصل بين السلطات «التشريعية والتنفيذية والقضائية» مبدأ دستوري راسخ تقوم عليه الدولة الحديثة، وهذا المبدأ يعني فصل السلطات الثلاث عن بعضها ومنع هيمنة أي من هذه السلطات وطغيانها على الأخرى، وهذا الفصل لا يعني الفصل الجامد، وإنما يكون فصلاً مرناً يؤدي بهذه السلطات للقيام بدورها المناط بها في تسيير دولاب الدولة، والسلطة القضائية خاصة في الدول النامية هي السلطة التي تعاني من تغول وهيمنة السلطة التنفيذية عليها، وأشد ما تكون هذه الهيمنة في الأنظمة الشمولية والدكتاتورية، فالدول التي تتمتع بقضاء مستقل هي الدول التي تسمو فيها قيم الحرية وسيادة حكم القانون، ابتداءً من الضمانات التي يكفلها القانون منذ لحظة القبض وحتى مرحلة المحاكمة العادلة، فيتمتع الشخص المعني بكل حقوقه الدستورية والقانونية، وهذا لن يأتى إلا بقضاء مستقل لا سلطان للسلطة التنفيذية عليه، فاستقلال القضاء يمثل صمام الأمان للمجتمع، ويمكنه من الرُقي والتقدم، والفرد الذي يعيش في ظل سيادة القانون واستقلال القضاء يطمئن لحقوقه ويتمتع بحقه في الأمن وحقه في التعبير وحقه في التنقل وكل الحقوق المنصوص عليها في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان 8491م والحقوق المنصوص عليها في العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، وهذا العهد لم ينص صراحة على استقلال القضاء وإنما نص على الحق في الأمن وعدم التعرض للمعاملة القاسية أو المهينة والحق في المحاكمة العادلة، وهو ما يعني سيادة حكم القانون وبدونه لن تتحقق هذه الحقوق، ويدور هذه الأيام جدل كثيف حول استقلال القضاء السوداني على خلفية نظام المحكمة الجنائية الدولية نظام روما، باعتبار أن الدور الذي يقوم به دور تكميلي للقضاء المحلي، فينعدم سلطان المحكمة الجنائية الدولية عند قيام القضاء المحلي بمحاكمة من تشير إليه أصابع الاتهام، وينعقد لواء الاختصاص لها وفقاً لهذا النظام إذا كان القضاء المحلي عاجزاً أو غير راغب في محاكمة المتهمين، وعدم الرغبة أو العجز لا يمكن إن ينعت بهما نظام قضائي مستقل، وهذا الاتهام غير بعيد عن النظام القضائي السوداني، واقترحت الأممالمتحدة عقد ورش لتأهيل القضاء السوداني. والسؤال الذي يطرح نفسه هل القضاء السوداني مستقل؟ هذا السؤال صعب وستكون الإجابة عليه بنفس درجته صعوبة وتعقيداً. وهنالك حقائق ونقاط لا بد من الوقوف عندها واستعراضها، وبين ثناياها تكمن الإجابة على السؤال المطروح. وأول هذه النقاط تتمثل في بدايات استيلاء الإنقاذ على السلطة، فقد كانت ضربة البداية فصل مائة وخمسين قاضياً في ضربة وقائية عاجلة لتأمين السيطرة المطلقة على السلطة القضائية، دون اعتبار لكفاءة وتأهيل وخبرة هولاء المفصولين، وإحلال العناصر الموالية للنظام بغض النظر عن الكفاءة أو التأهيل، وبهذه الخطوات أحكمت السلطة التنفيذية قبضتها على السلطة القضائية، وتمكنت من السيطرة عليها إنفاذاً لسياسات العهد الجديد في الهيمنة على مفاصل السلطة، والخطوة الثانية تمثلت في الممارسة العملية للقضاء بانخراطهم في معسكرات تدريب الدفاع الشعبي ومشاركتهم في العمليات العسكرية في جنوب السودان، وقد كان بداخل القضائية مكتب لتنسيق الجهاد والتفويج والتدريب، وانتقلت السلطة القضائية نقلة نوعية في مسار علاقاتها بالسلطة التنفيذية، وقد انتبهت الحركة الشعبية في مفاوضاتها مع الحكومة لمسألة استقلال القضاء، فجاء بروتكول ميشاكوش مشتملاً عليه، وقد كان مثار جدل كثيف في محادثات نيفاشا عندما طالبت الحركة الشعبية بتعيين رئيس قضاء جديد، إلا أن إصرار المؤتمر الوطني على رئيس القضاء وقتها ترتبت عليه موافقة الحركة الشعبية على استمراره، مع إنشاء مفوضية قضائية توضع في يدها كل السلطات اللازمة لإصلاح القضاء. وقد نصت المادة «921» من الدستور الانتقالي على إنشاء المفوضية القضائية، وقد نصت اتفاقية نيفاشا على «العمل على إصلاح القضاء بما يحقق استقلاله»، فهذا اعتراف صريح من طرف الاتفاقية بحاجة القضاء للإصلاح وعدم استقلاليته. ولكن تطبيق الاتفاقية على أرض الواقع لم يؤد للاستقلال المنشود. ولم يخرج اتفاق القاهرة 5002م عن هذا الإطار عندما نص على استقلال القضاء. فتوقيع الحكومة على هذه النصوص التي تشير صراحة وليس دلالة على استقلال القضاء يؤكد على هذه الحقيقة، والتطبيق العملي لاتفاقية نيفاشا واتفاقية القاهرة لا يكشف عن خطوات تم اتخاذها في هذا الاتجاه، وقد كان الأمل كبيراً في المفوضية القضائية في لعب هذا الدور إلا أن المفوضية فوضت كل سلطاتها للسيد / رئيس القضاء السابق، ولم تتم خطوات ملموسة في إنفاذ ما نصت عليه اتفاقية نيفاشا. وقد نص الدستور الانتقالي لسنة 5002م على مبدأ استقلال القضاء في المادة «821» . وأنيط بالقضاة مهمة صيانة الدستور وحكم القانون وإقامة العدل بجد وتجرد ودون خشية أو محاباة، ولا تتأثر ولاية القاضي بما يصدر من أحكام، وهذا النص يؤكد على مبدأ الاستقلالية ويطرح فهماً متقدماً لدور القضاة ويبين المسؤولية الكبيرة الملقاة على عاتق القضاة، وأية شبهة ولاء القضاء لجهة سياسية معينة يفرغ هذا النص من مضمونه، فاستقلال القضاة يعني التجرد والإخلاص والحيدة والنزاهة بعيداً عن الهوى السياسي والتحزب وهوى النفس، والقضاء يجب ألا تنبعث ولا يشتم منه رائحة الولاء السياسي أو التنظيمي، فالقضاء السوداني مشهود له عبر حقبه المختلفة بالكفاءة، وقد أثرى رؤساء القضاء وقضاة المحكمة العليا الإرث القانوني بالمبادئ القانونية التي تقف الآن شامخة وهادية ومعينة للقضاة المتعاقبين في الفصل في القضايا وإصدار القرارات التي تحقق العدالة. والحقيقة التي يعلمها الجميع أن القضاء قد تأثر بالجو المحيط به مع الفكر السائد، ولا بد من إعادة هيكلة القضاء على أسس موضوعية وقانونية بعيداً عن الافكار السياسية، ويمكن أن يكون مدخلاً لهذه الخطوة قرار السيد رئيس الجمهورية بإعادة المفصولين للصالح العام، وهيكلة السلطة القضائية لا تعني عدم كفاءة الكادر العامل الآن الذي يتمتع بعضه بالكفاءة القانونية التي لا جدال حولها. فالظرف الآني يحتم هذه الوقفة، والظرف الدقيق الذي يمر به الوطن يستوجب اتخاذ القرارات المناسبة التي تعيد ثقة المؤسسات الدولية في القضاء السوداني، لئلا يوصم بعدم القدرة أو الرغبة في التصدي العادل للجرائم التي تقع في دائرة اختصاصه، ولعل أبرز المآخذ على استقلال القضاء تهمة الولاء السياسي للنظام القائم، والمحاكم الخاصة التي تختص باسترداد مديونية بعض الهيئات، والتزام تلك الهيئات بإعداد وتأهيل هذه المحاكم وتحفيز العاملين عليها، ودخول السلطة القضائية في مجال الاستثمارات يؤثر في هذا الاستقلال، فعلى رئيس القضاء الجديد اتخاذ الإجراءات الكفيلة بتحقيق استقلال القضاء. * المحامي والكاتب الصحفي الصحافة