كان على سَمْته البادي للناس شيءٌ من وقار ومسحة من تدين، إذ لم يحدث إطلاقاً أن مسّ شعرات لحيته، منذ أن أذن الله لها بالبزوغ أوّل مرّة بشفرة حلاقة، أو وضعها بين يَدَيْ حلّاق عابث فلعب بها.. حاشاه أن يفعل، ومستحيل عليه أنْ يقترف هذا الإثم، ويقع في هذه الجريرة، فيحصد غضب الله.. لهذا السبب كان ينظر شذراً الى أصحاب اللّحى الحليقة، ويرمقهم بنظرات ناريّة يتطاير شررها. أما الشارب فسياسته معه كانت مختلفة تماماً، فقد كان أكثر تسامحاً معه، ولا بأس عنده إطلاقاً من تهذيبه وتزويقه.. وحتى إن رأى أن يُزيله بالكامل فلا حرج عليه إنشاء الله، ولعنة الله على أصحاب الشوارب الكثّة الكبيرة، أولئك الجاهِلِيُّون الذين دائماً ما يعكسون الآية، فيستأصلون بدأبٍ ومثابرة ما يجب تركه، ثم يُطلقون دون مساس وبخيلاء ما ينبغي تقييده وجزّ رؤوسه كلما استطالت.. ألا قاتل الله الجهل!. أما الزِّي واللباس فقد كان صاحبنا لا يَفْتأ يرتدي الجلباب والعُمامة وعلى أقلّ تقدير الطاقية، ومستحيل عليه أن تجده في قميص وبنطال، إذ هذه في نظره من أزياء الفرنجة وتقاليد الكفار. وبعد أن مكث دهراً طويلاً يتقلّب في جمر الفقر، ويصطلي بناره، فتحت الدنيا أمامه أبوابها، ومَدَّت اليه بأيديها.. كيف لا، وقد كان عضواً بارزاً نَشِطَاً في الحزب الذي غدا بين ليلة وضحاها حاكماً بأمره على طول البلاد وعرضها، ليس عن طريق اختيار الناس الحُرِّ، وإنّما عن طريق غلبة العسكر، وقهر القوة، وعنفوان سطوتها..ومن ثَمَّ صارت البلد كلها، بكل ثرواتها ومقدراتها، ألعوبة في أيديهم. وحذار أن تفتح فمك بكلمة، حينها ستطاردك اللعنات، وتتربَّص بك كلاب الجحيم وذئابها. وكان من نصيب صاحبنا بعد أن وُزِّعَت الغنائم وتمَّ اقتسامها، أن صار مديراً لمؤسسةٍ كبيرة من مؤسسات القطاع العام.. ولا غضاضة إن قلت أنه قد صار مالكاً لها، حيث لا فرق إطلاقاً في أعراف الجماعة، بين المدير وبين المالك. وفي ذات صباح حضر الى مؤسسته في رفقة سائقه الخاص فلمح في الناحية المقابلة للمدخل بائعة شاي تجلس خلف موقدها تحت شجرة ظليلة وبعض زبائنها يَتَحَلَّقُون حولها يرشفون الشاي بتلذُّذٍ واستمتاع، فآذاه هذا المشهد وإذا به يستشيط غضباً ويغلي الدم في عروقه، وبحسب زعمه أنَّه إذا غضب فلا يغضب إلا لله، لذا قبل أن يصل الى مكتبه قام بإستدعاء مسؤول الأمن بالمؤسسة، وأمره في صرامة وحِدَّة أنْ يُسرع لطرد هذه المرأة، ويكنس آثارها تماماً من أمام مدخل المؤسسة ومن الشارع كله، وحذار ثم حذار أن يخرج ويجدها.. وهكذا وجدت المسكينة نفسها في مَهَبِّ الريح. وللمفارقة العجيبةأنَّه بعد أن عاش في النعيم زمناً، وتَقَلَّب وانغمس فيه حتى الغَرَق، تلاشت عنه كثير من تَحَفُّظاته السابقة، وتَغَيَّرت عنده قناعات، وحَلَّ محلَّها أخرى، وصار أكثر جُرْأة ووقاحة في اقتحام أبواب كان يَعُدُّها أيام شقائه وحرمانه من الخطوط الحمراء، التي كان يستشعر لها الإثم والحَرَجَ في نفسه بمُجرَّد أن تطوف بخياله.. مع أنَّ الدِّين ثابت لا يتغيَّر، ومُثُله وأخلاقه وقِيَمَه لا تتأثر بعوامل الجغرافيا وتقلُّبات الطقس. لذا لم يكن غريباً ولا مفاجئاً أنَّه بعد أن أجرى الكثير من التعديلات على مكتبه، حتى غدا آية في الفخامة والجمال، إذا بأفراد ومسؤولي الأمن بالمؤسسة، يتهامسون فيما بينهم ويَتَسَارُّون بأصناف النساء اللاتي يَفِدْن عليه في مكتبه، تحت ذريعة أنَّ بعضهن كما يُقَدِّمْنَ أنفسهن لموظفي الإستقبال، مندوبات مبيعات، وبعضهن صاحبات شركات إعلانية وتجارية، وبعضهن جامعيات يجرين بحوثاً عِلميَّة هامَّة، وما الى ذلك من إدعاءات.. وإذا هو يستحلي هذه المغامرات ويتمادى في استغباء الناس. والله حليم ستَّار لا يريد لعبده الفضيحة إلَّا إذا أرادها هو لنفسه، ففي إحدى مداهمات الشرطة لشقة من الشقق المشبوهة، وبناءاً على معلومة مؤكدة قد تَمَّ تسريبها إليهم، يُفاجأ أفراد القُوَّة المداهمة بعثورها على صاحبنا نفسه بشحمه ولحمه، وهو في أحضان فتاة، وفي أكثر لحظاته حميمية، فيسقط في يده وإذا هو يستميت مستعطفاً هذه القُوَّة أنْ تستره.. ولأنَّها قد سترته، فقد شاع خبره وفاح، وصار حديث الناس وفاكهة المجالس.. وإذا به يُسارع معالجاً الموقف، بإعلان توبته وأوبته لا الى الله، وإنَّما الى المُتَنَفِّذِين في البلد ليرضوا عنه. لكن العُقْدَة لازمته، وظلَّ ظِلُّها يُخَيِّم عليه، كُلَّما ألَمَّ بالناس وكان بينه وبينهم لقاء.. وجعل لا يجلس مجلساً في مكان عام أو خاص، إلا وابتدر كلامه مُشَنِّفاً أسماع الحاضرين بقوله: إننا لسنا ملائكة، وأرجو من الناس ألا تطلب مِنَّا ما هو فوق مقدور البشر.. نحن بشر يا اخوان. المعز عوض احمدانه [email protected]