من أين أبدأ؟ انا استذكر اريد استدعاء المعلومات التي ستساعد أجيالا تأتي بعدي, وكنت أظن أن المعلومات ستحضرني صافية واضحة وعلى قدر المطلوب, ولكن ما أن بدأت أصابعي تطرق لوحة المفاتيح حتى شعرت بأن الرأس بدأ يشتعل وتضج فيه حركة مرور تتزاحم فيها كل خلائق سفينة نوح في مساحتها المحدودة, عصفٌ كعصف يوم القيامة, أشياء مؤلمة طُمرتْ في الذهن لا يُنوى أبرازُها بدأت تتدافع للخروج من محبسها في الدماغ وتضايق المفيد الذي يُرادُ نشرُه. كل ياقوته ادخرتها لهذه اللحظة كانت لا تنزلق لوحدها... وتنزلق معها فحمة. كنا كمن ينقب عن الذهب في زريبة فحم. وإذا كانت "العبرة بالنتائج". فنحن لم نُحَقِّق إلا الحدّ الادني: "المحافظة على الشعور بالمهانة" و"تغذية الأمل" و"الأيمان بقدرة الجماهير على تخّير الوقت الملائم للنهوض" . ونثر الشريف في مثل هذه الأقوال المُنًبِّهات الموقظات في الصحف والمجلات والندوات وفي شرائط الفيديو والكاسيت. ولعله كان لنا قصب السبق في استخدام تلك الأدوات من ناتج التقنية الحديثة, وعلى مستوي الدنيا بأجمعها. وبعد ذلك طوّعها الخمينيُّ في الثورة الإيرانيّة وانتصر. وهل كان حال الخميني يماثل حالنا" هل كانت كاسيتاته لا تصل للمواطن البسيط ويكتفي أصحاب المصالح بتوزيعها على النُخب التي لم تكن محتاجة للتبشير من "أساسو؟". والنخب كثير منها مضغوط ومحتار مضغوط بصفوف الرغيف والبنزين ومراقبة رجال الأمن, ولأول مرة في تاريخ السودان بدأ الفرد يحسب ألفاظه في الأماكن العامة ما عدا فئات الشباب في الجامعات والنقابات, أمثال الإسلامي الفذ ذلك النحيل الصميم أحمد عثمان مكي (وكنت أخط معه جريدة الحائط , آخر لحظة لأن همنا مشترك) ولاحقا ينقلب النميري ونحالف اليسار ونحبه, وترتبط العلائق مع الخاتم عدلان (الخاتم أحمد رجب) وأحمد قُوَيْ وبخيت الكامل وأبو الجاز ومصطفى آدم ,,,,,. علاقاتنا النضالية مع هذه المؤسسات المتنافرة كان يمكن استغلالها لجلب مصالح خاصة, حاول الإخوان استمالتنا لجانبهم لا تجنيداً ولكن حُسْنَ ظنٍّ بنا وقدموا العروض التي إن قبلناها لأصبح بيننا وبين العَوَزِ مفازة, فشكرنا وسلكنا الطريق الشاق من أجل الناس كلّ الناس وسيأتي ذكر النوايا الحسنة لما نلتقي بالشاب "العجوز حِنْكةً" محمود أحمد جحا. والخاتم أدرك مع صحبه أننا منهم لسنا بأغراب ونشأت علاقات ملأى بالأمل والطموح وحظيت ببعثة لدراسة الطب في رومانيا حوّلتها طائعا مختارا لمهاهر اسكندر, لم أكن أعرفه ولكن أشفقت على شاب سودانيٍّ لا يعرفه أحد ولم يوصِ عليه أحد, كان ذلك في براغ في معيّة أفاضل من الشباب المؤثر, فتحي محمد فضل وحسن البكري الكيلاني وآخرون. ولم نسلم من سياط الهتيفة من الجانبين, ناس لا يفقهون في علم السياسة شيئا. ويتحدثون عن العلمية, وأول دليل علمية المرء نوعية طرح الأسئلة التي تتجاوز الوصف والكيف إلى " لماذا". لم يسألوا أنفسهم لِمَ هذا الودُّ الذي يرونه غريبا. فها هو بهاء الدين حنفي من بعد الصداقة والقربى صار لا يبتدر بالسلام ولا يرد التحيّة. لا شك أنه كفّرني في دخيلة نفسه, ونبهني الزميل الأديب الأخواني علي جريقندي نعيم بأن صحبتي اليساريين في مقهى النشاط محسوبة عليَّ. شكرته وسكّت. ومامون الباقر – أبادماك وما أباداماك – يرجمك بالرجعية ويستهزيء ولما يقابلك بعد زمن في دار اتحاد الطلاب العالمي في براغ يندهش ويسلم عليك بالأحضان ويسألك " كيف صاحبك عبدالله الطيب؟" كأن صحبة استاذي العلامة منقصة يريد لفت الحضور لها بغرض دقّ مسمار في مهمتي. ولن أنسى كيف استطاعت قيادتنا اقناع الَّد ساسة الجنوب ببرنامج كان سيسهم في استقرار السودان دون انفصال. زعيم الأنانيا تو العم غوردون مورتات كان لصيقا بالقيادة يبشر برد ظلامة الجنوب لاتفاقاتٍ وقناعات اكتملت . ولكن النصر الذي يلوح في الأفق ضيعته عجلة المستعجلين التصالح, وأمدوا النميري بقوة استبد بها لدرجة نقض العهود والمواثيق. وهكذا, وبقصدٍ أو دون قصدٍ زرعوا في فكّ مايو أضراسا اصطناعية, ولكنها تلوكُ. ولا يعلم هؤلاء الطوّافون على السطح (يساراً ويميناَ) أن قيادتي في المهاجر ما كانت لتقطع في أمر دون مشورة إخوتهم في النضال عزالدين على عامر و ربما شريف التهامي ناهيك عن الاحتفاء بالشهيد الكاروري جنباّ إلي جنبٍ بالشهيد المغدور الإمام الهادي المهدي ناهيك عن أدني حدود العدالة في تقديم السياسيين لمحاكمات عادلة (او على الأقَلِّ) أقلّ صوريّة, كيف يُقَتِّل الناس بتفيذ أحكام مسبّقة ويتشفي باستكثار الرصاص عليهم ويعلقّهم كما القتلة واللصوص. ويقولون "شجاع". فلماذا يندسُّ في قصب السكّر, إذن, أو كما انتشرت الأخبار؟ الشجاعة خصلة مستمرة لا تتبدى أحيانا وتختفي أحيانا أخرى. ولا أنفي عنه بعض الصفات الاجتماعية الحسنة, ولكن الكِبْر والطغيان يمسحان كل سجيّة, وكان تقديمه للمحاكمة أوجب ولكن من عقبوه في الكرسيّ يخافون وضع سابقة, خوفاَ على مصائرهم. ويعكس عدم ثقةٍ في النفس. أما جماعتنا فمنهم من يضربك تحت الحزام كلما غفلت , ثم يهرع لنجدتك! قلت للحسين لمّا التقينا به آخر الليل في شقة لعلها في ايلْرْزْكورت. " أنت يا مولانا, شاطر في كل شيئ, الحساب والسياسة والاقتصاد وماك شاطر في معرفة الرجال؟!" قال لي : "أخوانا ديل وفرنا ليهم كل ما يكفي لمحاربة النظام". فقلت له "لا شيئ, فنحن كلما احتجنا لقليل من المال لتسيير العمل الطلابي , لأنه كان من مسئولياتي, من أوراق وملصقات وأحبار, لا نجد شيئا وعندما نقصد حسن حمد أو مجي الدين عثمان وفي ما بعد التجاني محمد ابراهيم كان نشعر وكأننا أطفال مدارس يسألون والديهم حق الفطور, فأعرضنا عنهم" غير أن محي الدين عثمان لم يكن يتاجر, وكان بمفرده وقبل أن يعرف الشريف كلّف النظام خسارة كبيرة لأنه كان يؤمن بجدوى الحرب الاقتصادية, أحرق القطن المجهز للتصدير في الجزيرة قبل أن يعود سالما لبيته البسيط في الشعبية. والمأخذ عليه أنه كان يُحابي من الطلاب الشباب من يضمن ولاءهم , كان حسن سعدالدين ومحمد الدقير ومبارك حامد يذرعون الطريق لبيته يوميا وتبدو عليهم نعمّ لا تعهد في الطلاب, وكان الحاج مضوي لا يقطع في أمر دون مشورته, إلا أن محي الدين انسحب من الساحة نهائيا في ما بعد, ولا نعلم قرِف أم اختلف مع الحاج ومن ثمة الشريف, وفي كل الأحوال فإن انزواء محي الدين خسارة, لأنه كان يفهم . ولم أقل للحسين أننا اضطررنا لصرف حلي زوجاتنا لشراء الأوراق وماكينات الرونيو ودفع الأجر لذلك الكاتب الي كان يقوم بالطباعة على وجه سريع وجذاب. كان ذلك الشاب يجازف لأنه يشاركنا الأمل ولأنه يحفظ جميلا شخصيا للحسين الذي سمع به ولم يره. كانت جذوره من أقصى الغرب ولا ينسى تدخل الشريف لوقف النزاع بين أهله الهبانية والتعايشة. ومن بين الحضور فتح الرحمن البدوي, وآخر (ح. الق.), جاء يصطحب عروسه من آل البيت, ما جاء لأمر سياسي أبدا. جاء به النسب, وأمل في تلقي صلاحيات يدخل بها عالم السياسة, وعرفت أن الحسين انتهره ثم أجزل له العطاء. وجندي مجهول, أحمد نمر, جاء يمثل عمال ود مدني ̧ود سيف الذي ظل صامتا لأنه سيواجه في ما بعد منفرداَ, جملة ما أنجز وجملة ما لاقى من عنت. وانصبت الشكوى في نقص الدعم, وأجلنا الحديث في ما يتعلق بالسلاح لأن من بيننا من لا يعرف الصمت ويسبب له حفظ السر أكلانا في اللسان وحكّةُ لا يُبرئها إلا الكشف. وكان الحسين أوصي د. سيف (مخزن أسرار الشريف ومحل ثقته بجانب الرأس الحاج مضوي) بأن لا يحدّث زين العابدين لأن " لسانه خفيف". ولكني أرى أن السبب آخر وأن الحسين كان يتستر على شيء من طبع أخيه. أعلم أن الشريف الزين كانت نشأته بعيدا من بري. كانت معظم نشأته الأولى مع خاله الاستاذ المحامي النابه أحمد خير. وكان أحمد خير من أوائل الداعين لمؤتمر الخريجين (ومعه الأستاذ اسماعيل العتباني). وبعد صيحتهم تحققت الفكرة التي نبتت في مدني ونجحت. لكن انتهى المؤتمر في قبضة آخرين, لا سيما بعدما امتدت عضويته لناس من طينة المناضلين اللامثقفين (ناس القروش) واتحاديون عروبيين فيلاب وهاشماب ... و(نُسِيَ نُجباءُ أولاد أم درمان من ذوي العروق الجنوبية, محمد عشري الصديق وأخوه الأستاذ عبدالله عشري, ولم تسعفهم الشلوخ المطارق|. وخرج من دائرة التأثير أحمد خير وبعض رفاقه. وانتظر أحمد خير حتى ما أزاح عبودً الحكومة المنتخبة بحث عن وطنيين في الظل فاختار من بينهم أحمد خير, ورُميَ بالأزهري وصحبه في الرجَّاف. هذا الشعور تلبّس زين العابدين وكان باستمرار يحاول شق طريقه ولو بماشققة الأزهري نفسه. وكان ركب رأسه مرّةَ ورشّح نفسه إلى جانب المرشح الرسمي للحزب فرسب الاثنان وصارت لِآخر. لا مضاضة شخصية لي مع الزين, ولن أنسى أنه ضدّر كتابه بالإهداء للمناضل د. سيف, بعد مماته. غلّفت الكتاب وحفظته لأولاده عسى يقهرون به – من بين ما أسلّحهم به – بعض أحاسيس مُرّة ستلاحق أولاد السودانيين الذين وجدوا أنفسهم في أوروبا ( بلاك هوايت بلاك هوايت, آفريكان, أراب, جهاد,, جهاد وداروين كافر والغنا حرام ولا ما حرام يا عمّو, ولم أسمع وصيته, وأنشأتهم في لندن غير أسِف) و"صعلوك لندن ولا شاب سوداني نشأ على تقديس السلطان, الحُرِّيييييييييّة". ومن الذين يلِمّون إلماما جيدا بأحوال الشريف الزين أخونا مضوي الترابي (أخذت عنه تأثّر الزين ب"مغَسَة" الخال البطل أحمد خير) ومضوي يعرف الكثير ومنذ كان طالبا نشطا في 66 – ولم أكن أنذاك نشطا, ونشط من صحبتي دلدوم الختيم و سيف الدولة ثم تعرفت على طه حسن طه وكمال الزين من أوائل الصف الثاني سياسة. وبعض هؤلاء انغمر وبعضهم رحل وبعد زمن طويل يكتشف مضوي الترابي أنه كمن كان في غيبوبة زَيْنيِّةٍ. وفيه جذوةُ نَفَس, لو شاء. و في الشقة التي تعودنا فيها الانتظار من المغرب إلى قبيل مطلع الفجر يعلّقنا الشريف لدرجة التململ وأخيرا يدوس على زر الجرس ولا يرفع اصبعه حتى نفتح الباب ويدخل الرجل في هيئة مُخبر خاص سترته رمادية وعلى رأسه قُبُّعة أطرافها ليست عريضة كما هي الحال قبعة سلفاكير. ولم نكن نعرف سلفاكير ونقرأ تقديم منصور خالد ل "جون قرىق" ولا نأبه به إلا لأن المُبشَر كان منصور خالد (جلبطه النميري), ولكننا نعرف غوردون مورتات ونسمع ب "قاي توت" من داخل أبراجنا العربوسودانيّة, وفي ما بعد ندرك أن منصورا كان ثاقب النظر وأنه اكتشف الكوكب الذي سيضيء ساطعا ثم لا يلبث فينا كافياَ, وينطفىْ. " الجماعة ديل خذلوني يا عبدالماجد, أعمامك ديل". وأين بقية إخوتك من مثقفين استدرجتهم للحزب؟". " خذلوني, أيضا, الرشيد الطاهر, مامون سنادة وعزالدين السيّد, كلهم ابتلعتهم مايو". قلت له "إذن إنت إنسان عاطفي, في الحالتين, حالة أهلك الجلابة وأصحابك المثقفين". لا بد أني تطاولت وقسوت. ويرد علىّ الحسين" وإنت انفعالي" وانتهى الحوار في هذا الشأن. إلا أن الحسين ظهر كمن يريد توريطي أو امتحاني. " هسع أخوانك ديل قالوا عايزين ليهم 40 الفاَ يشتروا بها طلمبة بنزين (أولاد يوسف) رايك شنو؟ نديهم ولا نعتذر؟" وجاء ردي سريعا ومفاجئا: " يا مولانا, إنت القروش دي حقتك إنتَ ولا حقّتي أنا؟" .. "قروشي أنا" ... طيّب " قروشك في في جيبك , تِتْجوَّد بيها, تبخل بيها على كيفك. أنا ما بتْجوّد بمالك ولا أمنعه من أحد". لو وافقته على تمويلهم أكون أهدرت مالاَ أحقَ به الموثوقون, وأثرت الصديق على البلد الحبيب, ولو كنت أشرت عليه بمنعهم لكان وضعني مع "قُطَّاعْ الأرزاق" وربما البخل, وأنا أعلم أن الرجل كان لا يعرف المنع طبيعةَ فيه, واستغلّ هذا أناس كثيرون ومن أحزاب أخري اشتروا في لندن بيوتا كبيوت اللوردات وأثرياء الهنود. عبدالماجد محمد عبدالماجد الفكي [email protected]