في البدء.. لم يكن عداء.. ربما كان خلافا طفيفا.. يخدش لكنه لا يجرح.. بينما كان ثمة طرف ثالث يحدث بمعوله الضربة الأولى في إحتفار الفجوة الآخذة في الإتساع.. بفعل القبضات المكورة الطافحة بالحقد؟‼ .. كان أحد الغريمين.. يبدي شيئا من المرونة.. في حين كان الآخر مفتونا باستدراج الهتاف وإيقاع الأيدي المصفقة.. .. لم تكن ثمة مواجهة بينهما.. لم يقف أحدهما قبالة الآخر طوال خلافهما.. بل كان كلما يقال ويفعل.. ينقل إليهما عبر وسائط فائقة التوصيل.. وقبل أن يستوعب تماما.. وتدرك مراميه.. يجد رد فعل جاهز.. ينطلق كالسهام النافذة.. إذا لم يصب يثير لغطاً.. ويخلف مستنقعات من لغو الحديث.. يصبح من العسير تجفيفها.. حتى حينما يصفو الجو حين اً- خلال فترة هدنة موقوتة- تظل راكدة.. لكنها تطفح زبداً؟‼ .. أكان أرضاً؟.. أكان جاهاً؟.. أهو عقار.. أم نقود؟.. أيا كان سبب الخلاف الذي أخذ في التفاقم متواتراً حتى استحال إلى صراع.. فإن الغريمين بلعا الطعم.. ووجدا نفسيهما.. ضالعين في الصراع.. فلم يعد ثمة خط رجعة.. يلوح في الأفق.. كانت كل المسالك قد أغلقت تماماً في وجهيهما.. فلم يبق سوى التصادم.. .. كان صداما طويلاً.. يبدو للمراقب بلا نهاية.. ألأنه سجال؟!.. أم لأن الحسم يتباعد.. كلما ظن أن كفة أحدهما سوف ترجح على الأخرى؟‼.. من يجرؤ على التكهن.. كمن يرمي شباكه في البحر الميت.. ويأمل صيد سمين؟‼.. كيف يرجم بالغيب.. من لا يرى غير العتمة؟‼.. خيوط الصراع تتداخل متشابكة.. فيبدو التنجيم أكذوبة كبرى وسط هذه الأحابيل المعقدة؟‼.. * * * .. (حامد محمود) و(عامر عمران).. كانا صديقين لدودين.. يتفقان أحيانا.. ويختلفان في كل الأحايين.. الأول كان مسكوناً بامتلاك الطين والبقر.. والآخر كان مولعاً بالجاه والنفوذ.. .. ثمة بقعة أرض.. لصيقة بأرضه.. تتشاسع طولاً وعرضاً.. وتترامى على مدى البصر أطرافها المحفوفة بأشجار السيسبان التي تتباسق طولاً واعتدالاً.. بينما أشجار الموالح والمانجو والجوافة تغزل مجمل المساحة في خطوط تتوازى في تقاطع.. فتبدو من أعلى الربوة ... ساحرة وأخاذة !!... يناصف البستان معظم محيط الوادي.. وتكاد ثماره الناضجة الدانية القطوف أن تقسر أفنان أشجاره على الانحناء.. فتتقاصر المسافة بينها وبين سطح الأرض لدرجة التلامس. .. كل هذا الإفتتان.. أذهل (حامد محمود) وأسال لعابه.. وجعله يتلمظ متلذذا كأنه جرذ جبلي يقضم في (قندول ذرة شامية) متمهلاً.. كانت الفرادة التي يتميز بها هذا البستان بزهارته الطاغية.. قد ضاعفت من توهج رغبته العارمة في الإمتلاك.. فشرع ذهنه كآلة ماضية يعمل مزيحاً بذكائه الخبيث كل منافسيه في الحظوة بهذه الجنان الوريفة.. كان لكل منافس ثمن إلا (عامر عمران) فهو لا يثمن؟‼ [ أين المشكلة إذا كان صاحب الشأن يعرض بستانه طواعية للبيع.. وليس هناك موانع شرعية أو قانونية تحجر عليه ذلك؟‼.. بمحض إرادته قرر الارتحال من هذه البقعة.. والإنتقال إلى أرض جديدة نبتت له فيها بذور.. وأنا الآخر أريد أن أغرس جذوري هنا في باطن هذه الأرض الطيبة.. ولن أدع أحداً يحبط مخططي أو يعمل على إفشال مشروعي.. أياً كان.. حتى لو كان (عامر عمران)‼]. كان (حامد محمود) يتحرك وفق خطة مرسومة بدقة.. ومحسوبة الخطوات.. تترابط حلقاتها موصولة في تتابع بحيث لو فقدت حلقة.. إنهار الترابط انهياراً تاماً.. بينما كان (عامر عمران) يراقب من على البعد خارطة تحركاته.. بل يرصد كل نأمة تصدر من جانبه.. ويسترجع أحداثاً طواهاً الزمن وأسدل عليها النسيان أستاره الغامقة إلا أن ما طرأ من المستجدات.. يستوجب إعادتها وتحليلها من جديد على ضوء هذه الطارئات (كيف لي أن أثق في نوايا (حامد محمود).. وأركن إلى ما يصدر عنه بعد التجارب المريرة التي تجرعت كؤوسها العلقمية بسببه؟‼] .. جمع (عامر عمران) أوراقه مرتبة.. ووضعها داخل مظروف كبير.. ثم أخفاها في حرز أمين [إنها وثائق إدانته الدامغة.. لن أستخدمها إلا حينما يظن أنه قد أفلت تماما من بين براثني‼.. كيف لذبابة حقيرة.. تحط على فتات الموائد.. أن تقوى على الصمود.. أمام شباك عنكبوتية.. بالغة اللزوجة وأن تفلت من من يحذق نسج الخيوط المتداخلة ؟؟.. يستحيل على فرائسه الإفلات؟‼] .. كان (حامد) يجمع خيوط اللعبة بيده.. ويحفظ عن ظهر قلب شروطها كلاعب الدمى الحاذق؟‼.. كلاهما كان يظن أن الحذق هو رهانه الذي لا يخيب.. من يمتطي صهوته فلن يكبو.. لذلك كان (عامر) يبدو ساكناً.. كأن ما يدبره (حامد) لا يعنيه في شيء‼. .. .. التخفي والدهاء إحدى وسائطه النافذة لعجم قناة الغريم.. فلماذا لا تظل أبوابه مشرعة (للغاشي والماشي) دون تصدي..؟؟!.. .. بينما كان (حامد) يتحرك متلولباً في خفة.. هنا.. وهناك يستميل هذا ويزغلل عيون تلك ويستقطب هؤلاء مسنوداً ببريق أصفر خاطف يقهر الرجال ويذل النساء‼؟ * * * .. جاء إلى الوادي غريباً.. لم يكن (حامد) زائرًا.. بل جاء يبحث عن مأوى.. بدا لهم من خلال ظاهر الحال.. ومجرى العادة التي درج عليها أهل الوادي في إحتضان عابري السبيل وأكرامهم. .. ولم تمض سنوات.. حتى كاد (حامد) يمتلك بضعة (حبال) من الأرض وعدداً من رؤوس الماشية وكعادة أهل الوادي في إستقبال الغريب (المقطوع).. وجد (حامد محمود) بالغ الحفاوة والترحاب.. ومدت له أيادي العون والمساعدة من كل الأطراف.. ولا سيما من كبيرهم (عامر عمران). .. إلا أن أطماع (حامد) الخبيثة.. لم تلبث أن أخذت تظهر.. ثم تتوارى‼.. وحينما بدأ الشك يساور (عامر) في حقيقة مراميه.. كان (حامد) قد تمكن تماما من مواقعه وقد صلبت الأرض التي وطد عليها أقدامه.. وصار له أتباع وأعوان يحمون أرضه.. ويدفعون عنه أي اعتداء.. بل يمكن أن يغيروا على من يستضعفه.. ويرى فيه منافساً خطيراً لمشاريعه المرصودة على المدى البعيد بإشارة من بنانه.. .. ثمة رجل وحيد.. في كل الوادي.. كان يحذره ويتجنب أن يدوس له على طرف.. بل أعلم أعوانه أن يعملوا له ألف حساب.. لذلك لم يجد (عامر عمران) فرصة سانحة لمجابهته ووقف زحفه الكاسح. * * * - جاء غريباً بلا جذور.. فأنبتنا له جذوراً !!... - والآن جذوره ضربت عميقاً في باطن الأرض‼.. - ماذا تظن؟.. أكنا سذجاً ؟؟!... - أنظر.. كيف كانت العاقبة ؟؟!!... - لقد حسب أننا لقمته السائغة.. فابتلعنا في نهم !!.. - لكن فاته.. أننا سنكون عسيري الهضم !!.. - لا تستهين به إن معدته قادرة على هضم الحجارة.. فشهيته لإمتلاك لا يردعها رادع؟‼ .. يصمت لهنيهات.. ثم يواصل منحنياً باللائمة على (عامر عمران): - أنت أول من فتح له الأبواب على سعتها. - نحن رفدنا.. ما شرعت أنت في فعله !!.. - إذن كلنا شركاء في الجرم. - ما حدث منا.. أهو جرم؟ - في هذا العصر.. يعد جرماً !!؟.. - كيف؟ - بغفلتنا.. فرطنا في أرضنا. - كيف يكون موقفنا إذا أفلح في ضم هذا البستان الذي يناصف معظم محيط الوادي إلى بقية أملاكه ؟؟!.. - سنفجر الموقف !؟.. * * * إلتف (حامد) حول صاحب البستان.. ونسج فخاخه بخيوط من ذهب ولم يستغرق.. كل هذا وقتاً طويلاً.. فسرعان ما تم له الإيقاع به.. .. وكانت لحظات توقيع عقد البيع بمثابة مأتم لأهل الوادي.. بينما كان عرساً متواصلاً ل(حامد محمود) وعصابته.. حتى بتر تواصله.. وقوع حادث الحريق الذي شب في أطراف البستان.. وإلتهم بعضاً من أشجاره المثمرة.. وكاد أن يسري متوغلاً.. نحو الداخل.. لولا مسارعة أعوان (حامد) في إخماده.. وقد قيد الحادث في سجلات الشرطة ضد مجهول وكان ذلك الحريق ضربة البداية لإنفجار الموقف.. فلم تنقض أيام.. حتى إنهار جدار إعتاد (حامد) الجلوس بجانبه خلال ساعات الأصيل.. وقد حجبه من الخروج في ذلك اليوم وعكة خفيفة ألمت به فأعجزته عن ممارسة عادته اليومية.. الأثيرة إلى نفسه.. كان صدى انهيار الجدار بين صفوف أتباع (عامر عمران) داو.. مماجعلهم يعجلون بنصب كمين على مقربة من البستان الذي درج (حامد محمود) على تفقده برفقة رفاقه المقربين.. صبيحة كل يوم. .. ومنذ اللحظات الأولى التي تعقب بزوغ الفجر.. هل موكبه.. يحث الخطى نحو مداخل البستان.. بينما كان الكامنون يترصدون الفرصة السانحة للإنقضاض على موكبه.. والإجهاز عليه.. إلا أن أحد أعوانه المندسين بين تجمعات أهل الوادي.. كان بمكره البالغ وأذنيه المشرأبتين دوماً.. قد كشف سر هذا الكمين فأعلم سيده.. الذي احتاط للأمر من أجل إفشال مرامي غريمه. .. لدهشتهم.. وجد أتباع (عامر) أن سياجاً من الهراوات يحيط بهم.. إحاطة السوار بالمعصم.. لحظتها.. لم يكن ثمة خيار سوى الصدام حد الإقتتال !!؟... .. ومع مرور الأيام وتكرار الصدام اتسعت الفجوة وغارت مهاويها .. وتقطعت سبل الإلتقاء.. ولم يعد ثمة خط للرجعة موصولاً بأحدهما. .. وعندئذ تطورت وسائل الصدام وارتقت.. وبلغت مرحلة فائقة من التقنية.. فسالت الدماء.. حتى إرتوت من السيل أرض الوادي !!؟... .. ولكن الغريمين.. لم يكتفيا بذلك.. بل واصلا صراعهما.. فتوالت الإنفجارات.. هنا وهناك.. وشبت الحرائق ملتهمة كل شيء حتى البستان.. أصبح كالصريم.. .. ولم يبق في الوادي سوى الغريمين يقفان متواجهين وسط أعمدة الدخان المتصاعدة إلى عنان السماء !!؟... فيصل مصطفى [email protected]