في إطار اليوم العالمي لمكافحة التصحر مكافحة التصحر..إلى متى؟ توفيرالإرادة السياسية والتزام النهج الديمقراطي أساسيان لمكافحة التصحر وفق نظام تصنيف الأممالمتحدة، أصبحت كل أراضي السودان (1.881 كم2)، بعد انفصال الجنوب، جافة و موزعة تقريباً كالآتي: 41.2% صحراء و 33.5% أراضي قاحلة و 25.3% أراضي شبه قاحلة. مما يدل على أن كل الولايات متأثرة بدرجات متفاوتة بعمليات التصحر. كما أن الشريحة الضيقة التي تمتد علي جانبي نهر النيل معرضة لزحف الرمال (Sand encroachment) خاصة في شمال السودان، مما يضع نهر النيل في دائرة الخطر، خاصة لأجيال المستقبل في وادي النيل. و هنالك قناعة تامة أن التصحر هو المشكلة البيئية الأولى الماثلة في السودان لكل من يرى و يسمع و يحس. و هو المهدد الأساسي للتنمية الحيوية المستدامة. ففي الدول النامية الفقيرة كالسودان يسبب التصحر الفقر والمرض والنزوح، و يدخل المجتمعات المحلية المتأثرة في حلقة الفقر المفرغة. لذلك يجب مكافحته بالطرق العلمية السليمة و فق الاستراتيجية الحديثة التي بلورت من معظم تجارب وأبحاث الدول المتأثرة، و أجمع عليها المجتمع العالمي بعد نقاش مثمر في مؤتمر الأممالمتحدة للبيئة والتنمية (قمة الأرض)، الذي عقد في ريو دي جانيرو بالبرازيل في يوليو 1992، و تم تضمينها في اتفاقية الأممالمتحدة لمكافحة التصحر(الاتفاقية)، ثم تطورت في مؤتمرات الأطراف المتعاقبة. إن مكافحة التصحر عملية لازمة ليس بغرض رفع إنتاجية مواردنا الأرضية ومن ثم تعظيم الإنتاج الزراعي والغابي والرعوي والحيواني، فحسب بل أيضاً حفاظاً على حضارة الأمة عبر الأجيال. حيث إن المحفاظة على الموارد الطبيعية عامة و الأرضية خاصة التزام أخلاقي وقومي لتامين مستقبلنا ومستقبل الأجيال القادمة. علماً بأن عدم التصدي الجاد للتصحر أدى لإندثار بعض الحضارات القديمة في أمريكا والصين و الشرق الأوسط. أمران حفزاني لكتابة هذا المقال: أولاً الاحتفال السنوي باعتماد الجمعية العمومية للأمم المتحدة لاتفاقية مكافحة التصحر وذلك في يوم 17 يونيو 1995، وثانياً البيان الختامي لاجتماع الاتحاد الافريقي في يوم 27 مايو 2013 ب"أديس أبابا" الذي وجه الدول الأعضاء لاعتبار مكافحة التصحر ودرء آثار الجفاف من أهداف التنمية المستدامة، و وضعهما ضمن أولويات المشاريع القومية للتنمية المستدامة، وفي صدارة جدول أعمال التنمية مابعد 2015. و حث الدول الأعضاء على المشاركة بفعالية في المؤتمر الذي سوف تنظمه الاتفاقية في ناميبيا في سبتمبر 2013. كما ناشد الاتحاد السكرتير العام للأمم المتحدة ليحافظ على القيادة الأفريقية لسكرتارية الاتفاقية. لقد قرات هذا البند في البيان الختامي للاتحاد و تعجبت لأن أحداً من أعضاء الوفد السوداني الذي شارك في المؤتمر بما في ذلك الصحفيين لم يشر لهذه الدعوة المهمة. على كلٍ أقول صح النوم ياأفريقيا!!. لقد جاء هذا النداء متأخراً جداً؛ لأن التصحر في المقام الأول قضية الدول الأفريقية الأقل نمواً، و برز كمشكلة عالمية في دول الساحل والصحراء في أفريقيا (1968-1972)، وأول مؤتمر عالمي للتصحر نظم في أفريقيا (نيروبي 1977) و كان من أهم مخرجاته خطة عمل لمكافحة التصحر، فشلت أفريقيا في تنفيذها بامتياز لأن الدول الأفريقية لم توليها الأهتمام والدعم السياسي والمالي اللازمين. و في قمة الأرض بادرت المجموعة الأفريقية (African Caucus) بتقديم مقترح تأسيس اتفاقية لمكافحة التصحر و مارست ضغطاً شديداً حتي تمت الموافقة عليه، وتم تكوين سكرتارية لبلورة الاتفاقية؛ كان أول سكرتير لها "ديالو" وهو أفريقي. يتضح من هذا، أن الاتفاقية تم أقتراحها وتأسيسها بقوة دفع قوية من المجموعة الأفريقية. لذلك كان من المتوقع أن تقود أفريقيا عملية مكافحة التصحر منذ تدشين الاتفاقية. وعلى كلٍ نداء متأخر خير من عدمه. ليس من شأني انتقاد الدول الأفريقية لعدم اهتمامها بمكافحة التصحر، و لكن من واجبي التعليق على عدم اهتمام حكومتنا بها. وحتى لا يكون حديثي مرسلاً وتجنياً على الحكومة اضع أمام القاريء مؤشرات عدم الاهتمام الآتية: 1. تهميش وزارة الزراعة والغابات (الزراعة حالياً) للوحدة القومية لتنسيق برامج مكافحة التصحر ودرء آثار الجفاف التي أنشئت في 1978، فهي الآن قسم في إدارة استخدامات الأراضي التابعة للإدارة العامة للموارد الطبيعية في وزارة الزراعة. علماً بأن الوحدة هي النقطة المحورية (Focal point) أو المرجعية القومية للاتفاقية، 2. عجز الوزارة عن استثمار قدرات الوحدة المتاحة، خاصة الموارد البشرية من حملة الماجستير المتخصصة في المجال، و تجارب وخبرات الوحدة التي تراكمت عبر السنين. 3. عدم وفاء الدولة بالتزاماتها المحددة في البند الخامس للاتفاقية. 4. عدم اهتمام الوزارة بالندوات والمنتديات العلمية التي نظمتها المؤسسات العلمية ومنظمات المجتمع المدني المتخصصة في المجال، بما في ذلك تلك التي نظمت في قاعة وزارة الزراعة ذاتها. 5. عدم اهتمام الدولة بتنفيذ توصيات "المنتدى القومي لتنفيذ البرنامج الوطني لمكافحة التصحر (البرنامج) " الذي نظمته الوحدة في 26-28 أكتوبر 1998. علماً بأن هذا المنتدى يعتبر معلماً تاريخياًً في مجال دعم المجهود القومي لمكافحة التصحر؛ لأن البرنامج، وفق الاتفاقية، هو الآلية العملية لمكافحة التصحر. لقد نشر كرسي اليونسكو لدراسات التصحر إصدارة هذا المنتدى في أكتوبر 2010. 6. عدم دعم الوزارة للوحدة لإجازة البرنامج، ولكن بمبادرة وشراكة الكرسي و لجنة الشئون الزراعية والحيوانية بالمجلس الوطني تمت إجازة وتصديق البرنامج ومن بعده قانون مكافحة التصحر. وإلى الآن ظل كل من البرنامج والقانون في أدراج الوزارة ولم يفعّلا. و فوق كل هذا وذاك الموقف المثير للدهشة حقاً وهو عدم تلبية النقطة المحورية للاتفاقية و ممثل السودان في لجنة العلوم والتكنلوجيا لدعوة سكرتارية الاتفاقية و بتمويل منها لحضور مؤتمر الأطراف التاسع للاتفاقية بالبرازيل، خاصة وكان من المفترض أن يترأس السودان مجموعة السبعة و سبعين والصين، وأذكر أن السكرتير العام للاتفاقية في اجتماع لجنة متابعة تنفيذ الاتفاقية (CRIC) ولجنة العلوم والتكنلوجيا (CST) اللذين عقدا في اسطنبول بتركيا في نوفمبر 2008، نبه السيد/ صلاح العبيد المدير والمرجعية القومية للوحدة حينذاك، أن السودان سيترأس مجموعة السبعة وسبعين والصين، وكأنه توقع ما حدث من ارتباك في هذا الأمر. لقد أدى هذا الموقف لتساؤل بعض أعضاء الدول الأفريقية عندما رأت ضخامة الوفد السوداني في مؤتمرالأطراف لتغير المناخ!!. كان السؤال الساخر الذي وجه لوفدنا: هل لا يوجد تصحر في السودان؟ كان هذا الموقف مثيراً للدهشة لعدة اسباب من أهمها: أولاً أهمية رئاسة السودان لهذه المجموعة، فهي فرصة نادرة اضاعها السودان بلا مبرر. وثانياً من المفترض أن يكون السودان من أكثر الدول حماساً لهذه الاتفاقية لأنه من أكثر الدول الأفريقية تأثراً بالتصحر. و ثالثاً كان السودان الدولة السادسة عشر التي وقعت على الاتفاقية (أكتوبر 1994) وصادق عليها المجلس الوطني ومجلس الوزراء في نوفمبر 1995. ورابعاً أن تغير المناخ الذي يوليه السودان أهمية أكثر من التصحر، لم يتسبب فيه إلا بقدر 0.05% و مهما بذل من مجهود، لن يسهم في مكافحته بشي يذكر. والغريب في الأمر أن السودان قد قطع شوطاً كبيرا في التجهيزات اللازمة للبدء في مكافحة التصحر، حيث تمكن السودان بقوة دفع الإداريين و الأساتذة والباحثين والخبراء عامة من توفير البنيات التعليمية والبحثية والإدارية والموارد البشرية المتخصصة، كما نجحوا في تحضير و اجازة و تصديق برنامج العمل الوطني لمكافحة التصحر، و قانون مكافحة التصحر الذي يتضمن مجلس أعلى وصندوق قومي لمكافحة التصحر لتوفير التمويل اللازم. و لكن وللأسف لم تستثمر الدولة و الوزارة المعنية كل هذه الانجازات و ظلت رافضة تماما للنداءت المتكررة من كل الأطراف لتفعيل برنامج العمل الوطني و قانون مكافحة التصحر الذين تم تصديقهما من المجلس الوطنى. و ظني ( وإن بعض الظن إثم) أن المعنيين بالأمر لأيدركون أهمية ومنهجية و ضرورة مكافحة التصحر في تخفيف حدة الفقر و تحقيق التنمية المستدامة. و ليس ذلك من قلة أدبيات التصحر الوطنية والعالمية، فلقد وفر علماء وخبراء السودان عامة ومعهد دراسات التصحر واستزراع الصحراء وكرسي اليونسكو لدراسات التصحر بجامعة الخرطوم ما يكفي لتوعية وتثقيف كل شرائح المجتمع حول التصحر. ولكن المشكلة أن الكثيرين من صناع القرار لهم أولويات أخرى. والمشكلة الثانية الجهوية. يا تجي منهم ..يا "بلاش"، و لعل ذلك تطبيقاً لنهج تمايز الصفوف!! والله أعلم. والدولة الآن تنفذ برنامج النهضة الزراعية بامتياز! و شتان بين منهجية بلورة برنامج العمل الوطني لمكافحة التصحر و برنامج النهضة الزراعية، حيث أن منهجية وضع برنامج العمل الوطني قومية ديمقراطية ومنهجية وضع برنامج النهضة الزراعية حزبية اقصائية كما سيتضح مما يلي. التزاما بالنهج الديمقراطي تم وضع برنامج العمل الوطني بمشاركة كل الأطراف الرسمية والشعبية والفئوية ومنظمات المجتمع المدني، وذلك بقيادة الوحدة إدارياً و بدعم من برنامج الأممالمتحدة الإنمائي (UNDP) ومكتب الساحل السوداني (UNSO) ومشاركة خبراء وطنيين وعالميين. و التزاماً بمبدأ الانطلاق من القاعدة إلي القمة تم اشراك المجتمعات المحلية المتأثرة بالتصحر، إلى ذلك شكلت عدة فرق لزيارة الولايات المتأثرة و نظمت فيها ندوات لتوعية الجهات الرسمية و المجتمعات المحلية وبقية الأطراف بالاتفاقية، و تمت معرفة رؤيتهم لمعالجة المشاكل الناجمة عن التصحر في الولاية، وعقدت لقاءات مع المجتمعات المحلية في بعض القرى تم فيها ملء استبانات لجمع قاعدة بيانات ومعلومات اقتصادية اجتماعية، و تم اعداد تقرير عن كل ولاية ووضع خطة عمل لمعالجة المشاكل. بعد الانتهاء من الزيارات الميدانية أعدت المسودة الأولى للبرنامج على أساس ولائي، و نظمت ورش عمل متخصصة لصناع القرار ومنظمات المجتمع المدني والتنفيذيين والجهات الأكاديمية والبحثية. تبع ذلك تنظيم "المنتدى القومي لتنفيذ برنامج العمل الوطني" الذي أفتتحه السيد نائب الرئيس، الدكتور نافع على نافع، وترأس جلساته الدكتور التاج فضل الله عبد الرحيم والدكتور حسن عثمان نور وحضرتة ممثلة برنامج الأممالمتحدة الإنمائي. بعد ذلك تم وضع برنامج العمل الوطني وهو عبارة عن مشاريع تنموية مستدامة على المستوى الولائي. بعدها ظل في الأدراج "محلك سرك" . و في عام 2008 نفذت الحكومة برنامج النهضة الزراعية الذي تم وضعه بوساطة لجنة خبراء وطنيين وقدمه المؤتمر الوطني لحكومته للتنفيذ. حيث تم تكوين الهيكل الإداري للنهضة الزراعية من مجلس أعلى للنهضة الزراعية برئاسة نائب الرئيس و مجالس تنمية السلع المختلفة برئاسة و زراء، وأمانة. وو فرت لهذا البرنامج كل عناصر النجاح من إرادة سياسية بامتياز و بنيات تحتية وتمويل. من الناحية النظرية تطابقت مبررات و رسالة و أهداف برنامج النهضة الزراعية مع برنامج العمل الوطني لمكافحة التصحر. فمن المؤكد أن المجموعة التي وضعت برنامج النهضة الزراعية استفادت من برنامج العمل الوطني لمكافحة التصحر. وبالرغم من بعض النجاحات تدل بعض بيانات أمين عام النهضة المتضاربة على تعثر البرنامج. و بالتحليل الموضوعي لكل هذه المعطيات ندرك أن السودان لم يبدأ جديا" مكافحة التصحر وأهمل كل المجهود القومي والعالمي الذي بذل، نتيجة لعدم توفر الإرادة السياسية والنهج الديمقراطي اللازمين لذلك. مما يدل على عدم اقتناع الدولة بالاتفاقية وبنودها وملحقاتها، و بأهمية وضع السياسات المناسبة والتشريعات اللازمة لتنفيذها. حيث أنها لم توف باستحقاقات الاتفاقية ومن أهمها البند الخامس الذي يتضمن الالتزامات الآتية: اعطاء الأولوية لمشاريع مكافحة التصحر ودرء آثار الجفاف مع تحديد موارد كافية وفقا لظروف الدولة وقدراتها. توفير بيئة تمكينية حيثما كان مناسبا بتعزيز التشريعات القائمة ذات الصلة. و في حالة عدم وجودها، تسن قوانين و سياسات جديدة وبرامج عمل طويلة المدى. وضع برنامج العمل الوطني واعلانه وتنفيذه وربطه بالخطة الوطنية للتنمية المستدامة علي المستوي المحلي. والآن بعد توجيه الاتحاد الأفريقي للدول الأعضاء للاهتمام بقضية مكافحة التصحر وبكل ماورد ذكره في المقدمة، لا بد أن تتحرك الدولة وتوفر الدعم السياسي اللازم لمكافحة التصحر. لأنه من الأفضل اقتصاديا التصدي للمشكلة الآن وليس لاحقا نسبة لزيادة السكان واتساع دائرة الفقر و ارتفاع نسبة الهجرة والنزوح وتنامي المشاكل الاجتماعية والاثنية بمرور الزمن، ومن ثم تعقد المشكلة وارتفاع تكلفة المكافحة. على أن تبدأ الدولة بوضع التشريعات اللازمة لتفعيل قانون مكافحة التصحر بتشكيل المجلس الأعلى و إنشاء الصندوق القومي لمكافحة التصحر ورفده بميزانية كافية من الدولة. وعبر المجلس الأعلى و أمانته يمكن اتباع النهج الديمقراطي والالتزام بمبدأ الانطلاق من القاعدة إلي القمة في تفصيل وتنفيذ ومتابعة ورصد وتقويم برنامج العمل الوطني لمكافحة التصحر. إن الهدف الأساسي للبرنامج الوطني هو الأستخدام المستدام للموارد الطبيعية و المحافظة عليها بمكافحة عمليات التصحر على المدى الطويل، لتحقيق النهضة الزراعية والغابية والرعوية والحيوانية لأجيال الحاضر والمستقبل. إن برنامج العمل الوطني لمكافحة التصحر يحقق بطريقة مؤسسية و علمية و ديمقراطية النهضة الزراعية بشقيها و أكثر. وعملياً يمكن دمج برنامج النهضة في البرنامج الوطني لمكافحة التصحر. ففي الأراضي الجافة لن تحقق نهضة زراعية بدون إدارة ومكافحة عمليات التصحر. بروفسير مختار أحمد مصطفى رئيس الجمعية السودانية لمكافحة التصحر.