الإعيسر: قادة المليشيا المتمردة ومنتسبوها والدول التي دعمتها سينالون أشد العقاب    "قطعة أرض بمدينة دنقلا ومبلغ مالي".. تكريم النابغة إسراء أحمد حيدر الأولى في الشهادة السودانية    د. عبد اللطيف البوني يكتب: لا هذا ولا ذاك    الرئاسة السورية: القصف الإسرائيلي قرب القصر الرئاسي تصعيد خطير    الدعم السريع يعلن السيطرة على النهود    المرِّيخ يَخسر (سُوء تَغذية).. الهِلال يَخسر (تَواطؤاً)!!    سقطت مدينة النهود .. استباحتها مليشيات وعصابات التمرد    الهلال يواجه اسنيم في لقاء مؤجل    تكوين روابط محبي ومشجعي هلال كوستي بالخارج    عثمان ميرغني يكتب: هل رئيس الوزراء "كوز"؟    كم تبلغ ثروة لامين جمال؟    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء الشاشة نورهان نجيب تحتفل بزفافها على أنغام الفنان عثمان بشة وتدخل في وصلة رقص مؤثرة مع والدها    حين يُجيد العازف التطبيل... ينكسر اللحن    شاهد بالفيديو.. في مشهد نال إعجاب الجمهور والمتابعون.. شباب سعوديون يقفون لحظة رفع العلم السوداني بإحدى الفعاليات    أبوعركي البخيت الفَنان الذي يَحتفظ بشبابه في (حنجرته)    من رئاسة المحلية.. الناطق الرسمي باسم قوات الدعم السريع يعلن تحرير النهود (فيديو)    شاهد بالصور والفيديو.. بوصلة رقص مثيرة.. الفنانة هدى عربي تشعل حفل غنائي بالدوحة    تتسلل إلى الكبد.. "الملاريا الحبشية" ترعب السودانيين    إعلان نتيجة الشهادة السودانية الدفعة المؤجلة 2023 بنسبة نجاح عامة 69%    والد لامين يامال: لم تشاهدوا 10% من قدراته    الحسم يتأجل.. 6 أهداف ترسم قمة مجنونة بين برشلونة وإنتر    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    هل أصبح أنشيلوتي قريباً من الهلال السعودي؟    جديد الإيجارات في مصر.. خبراء يكشفون مصير المستأجرين    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    إيقاف مدافع ريال مدريد روديغر 6 مباريات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    خبير الزلازل الهولندي يعلّق على زلزال تركيا    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    ارتفاع التضخم في السودان    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    بيان مجمع الفقه الإسلامي حول القدر الواجب إخراجه في زكاة الفطر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ذو القرنين والفصل بين الدين والدولة (2)..فأتبع سببا..
نشر في الراكوبة يوم 05 - 07 - 2013

الحمد لله..والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وصحبه الكرام ومن والاه..
كما ذكرت لك في الحلقة السابقة أن الله سبحانه وتعالى يريد أن يقوي ملاحظتنا ويحرك عقولنا ويعودنا على التفكير المنطقي والمنهج العلمي في تدبر آياته. وخلصنا على ان ذي القرنين أقرب إلى أن يكون هو نبي الله سليمان عليه السلام وذلك بعد ربط بعض من آيات القرآن بعضها ببعض.
وعلى كل سيظل الجدل محتدم بشأن شخصية ذو القرنين. ولكن المهم هو ليس شخصيته بقدر ما هو الدرس الذي يمكن أن نستفيد منه وهذا ما نحن بصدده. وتوضيح الشخصيات والأزمان هي ليست مهمة القرآن الكريم لأنه ليس كتاب تأريخ في المقام الأول بل كتاب عظة وعبر لمن يعقل.
يجمع المفسرون على أن ذو القرنين كان ملك مؤمن بالله وعبد صالح، سواء كان نبي أم لم يكن، فهو النموذج المثالي للحكم العادل الذي مكن له الله في الأرض غربا وشرقا ولم يفتتن بفتنة الحكم وحكم بالعدل للإنسان وعمل بإتباع الأسباب البشرية.
وبما أن العدل ليس له علاقة بالكفر، فقد يكون الكافر عادلا ويكون أحدهم يدعي إنتماءه للمؤمنين ظالما. فأعتقد ليس لأنه بمجرد إنتماءه للمؤمنين كان عادلا، بل لأنه فهم الإيمان حقيقة ولما أمر الله بالعدل. وفهم حقيقة الإيمان بأن الله خلق الإنسان والبشر مختلفين ورزقهم الله بعدله حتى من كفر به وهذه سنته. فآمن بعدم إكراه الناس ((أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين)) [يونس: 99]، وآمن بتكريم الإنسان وعدم إهانته ((ولقد كرمنا بني آدم)) [الإسراء: 70]. طبق كل معاني الإيمان في نفسه، ففكر بعقله فأتبع سببا. ولم يدخل مملكته في حروب وإنفصال بل توحيدها وعمل بالأسباب ليعطي لكل شئ نصاب فأصبح عادلا بين مؤمنين وكفار ومشركين ولا دينيين.
أساس مملكة ذو القرنين..
وبحسب فرضيتنا أن نبي الله سليمان عليه السلام هو ذو القرنين دعونا نحدد أين مركز مملكته.
يزعم الإسرائليون أن مملكته كانت في فلسطين بالحفريات التي يقومون بها تحت المسجد الأقصى ولكن هناك إحتمال ان يكون المركز في منطقة أخرى. القرآن الكريم يقول: ((واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت)) [البقرة: 102]. فهناك إحتمال أن يكون مركز ملكه ببابل. وإذا رجعنا قليلا نجد أن أبوه داوود عليه السلام قاتل مع طالوت ضد جالوت. وهو الذي قتل جالوت وفتح القدس وأتاه الله الملك. وهذا يعني أنهم كانوا في منطقة أخرى غير فلسطين الحالية. وكما أرجح انها كانت في العراق.
وورث سليمان عليه السلام النبوة و مملكة أبوه داوود عليه السلام والحكم بالعدل. فيقول الله تعالى: ((ياداوود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب)) [ص: 26]. أي حكم بين الناس بالعدل. كل من يريد أن يتشرف بأن يكون خليفة لله في الأرض مطالب بإتباع الحق والعدل ومراعاة ذلك في أبسط الأشياء. كمثال بسيط إتقان عمله.
ويضيف الله تعالى لداوود: ((وشددنا ملكه وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب)) [ص: 20]. وللأسف يفسر البعض شددنا ملكه بأن الله سخر له ثلاثون ألف رجل يحرسونه صباحا ومساءا. وتامل أخي واختي لهذا التشويه و هذا الضعف في الظن الخاطئ بعباد الله الصالحين. الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه حكم بالعدل فكان ينوم قرير العين آمنا بلا حراسة. وكذلك نظن بكل من يعدل. فشددنا ملكه معناها هو تعضيد حكمه بإبنه سليمان عليه السلام كما سأل الله موسي عليه السلام الله تعالى مساعدة أخيه هارون عليه السلام له: ((أشدد به أزري وأشركه في أمري)) [طه: 31]. وأجابه الله تعالى فقال: ((قال سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا فلا يصلون إليكما بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون)) [القصص: 35]. فالله قادر على أن يجعل له سلطانا. وكيف يكون له 30 ألف رجل يحرسونه والقرآن يقول ((وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب إذ دخلوا على داود ففزع منهم قالوا لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط واهدنا إلى سواء الصراط)) [ص: 21]. فيا سبحان الله. كيف يكون له هذا العدد الهائل من الحراس ويقفز عليه المتخاصمون فجاءة وهو لا يعلم. إذن شددنا ملكه بإبنه سليمان عليهما السلام.
وتعلم سليمان عليه السلام الحكمة وفصل الخطاب وكتاب الزبور. وشارك سليمان عليه السلام في شد أزر ملك أبيه ببسط العدل بل وتفوق عليه. ((وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين (78) ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما..)) [الأنبياء: 78]. فقد دخلوا جماعة يشتكون إلى نبي الله داوود بخراب مزرعتهم بسبب جماعة أخرى. فحكم داوود عليه السلام بدفع جميع الغنم لأصحاب المزرعة. ولكن سليمان عليه السلام إستوقفه وقال له: ما هكذا يا نبي الله. ينبغي أن تدفع الغنم إلى صاحب الحرث فينتفع بألبانها وسمونها وأصوافها، وتدفع الحرث إلى صاحب الغنم ليقوم عليه، فإذا عاد الزرع إلى حال التي أصابته الغنم في السنة المقبلة، رد كل واحد منهما ماله إلى صاحبه.
وهكذا ورث نبي الله سليمان الحكمة والعدل الراسخ وإتسع ملكه الذي لا ينبغي لأحد من بعده.
زيارات ذو القرنين الثلاث في مملكته..
ذكر الثلاث زيارات لملكه لا تعني ان هذه هي الوحيدة التي قام بها. ولكن الله تعالى أعطى ثلاث أمثلة ويوضح ماذا عالجت هذه الرحلات. قصة ذو القرنين عموما تذكرنا بإتقاء فتنة الحكم وذلك بإتخاذ الأسباب قبل التحرك وصية الله له فأتبع سببا. أي الأسباب البشرية للحكم بين الناس والعدل بينهم وهم مختلفين. ففي طوافه لأرجاء ملكه عالج ذو القرنين ثلاث مشاكل: الظلم والفقر والجهل. وقام ضمنيا في الأخيرة بمعالجة مشكلة رابعة وهي الفساد.
ذهب أولا غربا. ((حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة، ووجد عندها قوما، قلنا: يا ذا القرنين إما إن تعذب، وإما أن تتخذ فيهم حسنا)) [الكهف: 86].
أي إتجه غربا إلى أن بلغ مكان ما وقت الغروب وليس مكان غروب الشمس، لأن أي مكان على وجه الأرض هو مكان تغرب فيه الشمس حيث وجدها تغرب في عين حمئة. والعين الحمئة ربما عين حارة تخرج حرارة مافي باطن الأرض. ولعل هذه العين الحمئة تدل على ثورة الأرض بما عليها من ظلم هؤلاء القوم. وقد ذكر علماء الجغرافية Land use Geography ان المنطقة الواقعة في بحر إيجة ويدخل فيها خليج إزمير ب 120 كم تقريبا شكلها من أعلى يشبه العين وكل هذه المنطقة تغطى بالطمي وقديما تتعتبر منطقة ذات نشاط بركاني. وقيل ان هذه المنطقة تابعة لنفس المملكة التي كان بها أصحاب الكهف أو كهف إيفيسوس بتركيا. فكان أصحاب هذه المنطقة قوما مؤمنين ولكنهم أشركوا بإتخاذ عبادة الأوثان فقهروا الناس وظلموهم وأجبروهم على إتباعها. ((هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة لولا يأتون عليهم بسلطان بين فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا)) [الكهف: 15]. فقد ظلموا وطغوا على العباد بإجبارهم إتباع الأوثان. فحارب ذو القرنين هنا الظلم والطغيان الديني لأولئك القوم.
((لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم)) [البقرة: 256].
وعاقب ذو القرنين الطاغوت أو الطواغيت تجار الدين الذين يفرضون على الناس عبادة دينهم وبسط الحرية الفكرية. ((قال أما من ظلم فسوف نعذبه ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذابا نكرا 87 وأما من آمن وعمل صالحا فله جزاء الحسنى وسنقول له من أمرنا يسرا)) [الكهف: 88]. فمن شاء أن يؤمن ومن شاء فاليكفر ولكن أما من آمن – بإختياره- وعمل صالحا فسنستزيده بالقول اليسير بما يسهل عليه الإهتداء للحق و له جزاء الحسنى في الآخرة.
ثم ذهب بعدها بإتجاه مطلع الشمس إلى أن بلغ مكان ما وقت طلوع الشمس. فهل هذا الإتجاه شرقا أم غربا أم شمالا أم جنوبا لأن أي نقطة يمكن أن تكون نقطة طلوع الشمس. وإذا قلنا إتجه شرقا فمن أي نقطة؟، من مركز المملكة بابل أم من النقطة التي بلغها غربا؟. وهذه النقطة يمكن ان تبحث فيها.
المهم في زيارته هذه لم يحدثنا الحق سبحانه عن ظلم هؤلاء القوم الذين تطلع عليهم الشمس ولا عن شركهم وما كانوا يعبدون. ((ثم أتبع سببا 89 حتى إذا بلغ مطلع الشمس وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها سترا 90 كذلك وقد أحطنا بما لديه خبرا)) [الكهف: 91]. وكما ذكر المفسرون بأنهم ليس لهم بناء ولا أشجار تظلهم وتسترهم من حر الشمس . أي انهم كانوا يسكنون في أرض جرداء ليس لهم بيوت ولا مهنة. قال سعيد بن جبير : كانوا حمرا قصارا ، مساكنهم الغيران ، أكثر معيشتهم من السمك . علمهم ذو القرنين بناء البيوت وإستغلال طاقاتهم البشرية ليكونوا أناس صالحين.
وقيل انه لقَّنهم أساليب الزراعة وكيفية الري ومواعيده، وفلاحة الأرض ومواقيت استزراع المحاصيل ، وانتقاء التقاوي، وأساليب التخزين وطرق حماية المحاصيل بإنشاء وبناء مخازن خاصة لحمايتها من الآفات والحشرات والطيور والقوارض. وعلمهم و دربهم على صنع بعض الأدوات البدائية التي تسهل عليهم أعمالهم في البيئة الزراعية. كما رسَّخ فيهم قواعد وأعراف وسن لهم قوانين لحل المشاكل الناجمة في مجتمعهم بسبب هذا النشاط. وبإختصار أنار لهم الطريق لإنشاء مجتمع زراعي متكامل صحي وصحيح. مما يؤكد أن العمل الصالح هو المقصود لعمارة الأرض واستخلاف الإنسان.
وبالتالي حارب ذو القرنين الفقر وانشأ مجتمع صالح بالتصرف اللائق به كداعية للوحدانية والسلام والعدل وكرامة الإنسان.
أوليس حري بهؤلاء القوم ان يؤمنوا بدين هذا الإنسان الذي أخرجهم من غياهب الفقر بالبيان بالعمل وجعل منهم بشر يعرفون قيمة انفسهم.
وهنا أيضا يجب أن نذكر بأن الإيمان لا يكون إيمانا صحيحا الا عندما يكون متلازما مع العمل الصالح. وهذا ما تجده في معظم كتاب الله ((الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن مآب)) [ الرعد: 29].
ومن ثم نأتي إلى رحلة بين السدين. وكما ذكرنا إذا كانت الآيات تدل على أنه تحرك غربا ثم شرقا لماذا لم يذكر شمالا او جنوبا وذكر فقط بعدها بين السدين. إذا الراجح والله أعلم ان مغرب ومطلع الشمس هما الوقت المكاني الذي صاحب وصول ذو القرنين إلى تلك المناطق. فكما قصة نبي الله الخضر –التي في نفس سورة الكهف- الذي إنطلق مع موسى عليه السلام إلى ثلاثة اماكن مختلفة في هذه البسيطة. ففي قصة نبي الله الخضر عليه السلام ((فأنطلقا حتى إذا)) والفعل يأتي بعد إذا مباشرة (ركبا، لقيا، أتيا). كرر الله تعالى "فأنطلقا" مما توحي بالسرعة و الوصول للمكان بفجأة. أما مع ذي القرنين ((حتى إذا بلغ))، فكرر الحق تعالى "بلغ" بعد حتى في كل مكان مغرب الشمس، مطلع الشمس ثم بين سدين. وهنا توحي بأنه سار إلى أن وصل وأدرك المكان.
ثم وصل ذو القرنين إلى منطقة بين سدين التي وجد فيها قوما لا يكادون يفقهون قولا. ((حتى إذا بلغ بين السدين وجد من دونهما قوما لا يكادون يفقهون قولا، قالوا يا ذا القرنين ان يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك خرجا على ان تجعل بيننا وبينهم سدا)) [الكهف: 93]. أي وجد قوما ما يقطنون دون السدين أو جبلين، أي تحتهما. حسب التفسير فهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون قولا. أي بطيئ الفهم و لإستعجام كلامهم وبعدهم عن الناس.
ولكن يمكن أن يكون هؤلاء القوم إما أناس ليسوا مؤمنين أو منافقين أيضا والله أعلم. ففقه القول ترد في القرآن الكريم بهذين المعنيين. ((قالو يا شعب ما نفقه كثير مما تقول)) [هود: 91]. ((فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا)) [النساء: 78]. ((يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون)) [الأنفال: 65]، ((ولكن المنافقين لا يفقهون)) [المنافقون: 7].
ولكن برغم ذلك لم يقهرهم ذو القرنين بل أعانهم لحل مشكلتهم. فقد إشتكوا من قوم مفسدين في الأرض. والفساد هو خروج الشيء عن الاعتدال، قليلا كان الخروج عنه أو كثيرا.
لا يوجد أدلة قاطعة تعين موقع يأجوج ومأجوج المفسدين، إلا أنه ذهب بعض المهتمين بمراجعة المصادر غير الإسلامية إلى أن السدين المائيين هما بحر قزوين والبحر الأسود، ومنطقة بين السدين هي تحديداً الحدود الفاصلة بين ما يعرف حالياً بأوسيتيا الجنوبية (التابعة لجورجيا) وأوسيتيا الشمالية (التابعة لروسيا)، حيث أن بينهما مضيق جبلي يعرف حالياً ب (مضيق دار يالDarial George ).
ويأجوج ماجوج عرفا بگوگ وماگوگ في الكتب والتقاليد الدينية اليهودية والمسيحية. وقد قيل الكثير عن يأجوج ومأجوج. ويعتقد أن بادئة "ما" في ماجوج تعني "في" أو "من بلاد" باللغة العبرية فتصبح العبارة "جوج من بلاد جوج". ويعتقد أن "جوج" هو الاسم العبري لملك ليديا المدعو غيغس، والذي حول مملكته إلى دولة قوية في أوائل القرن السابع قبل الميلاد. وهناك نظرية أخرى تعيد لفظة ماجوج العبرية بعد حذف الواو إلى بابل غير أن كلا التفسيرين تعرضا لانتقادات واسعة.
وقيل أنها عبارة صينية تعني قارة شعب الخيل وهم من المغول والدول المجاورة للصين. كما قيل: هما اسمان أعجميان منعا من الصرف للعلمية والعجمة، وعلى هذا فليس لهما اشتقاق؛ لأن الأعجمية لا تشتق من العربية.
وقيل: بل هما عربيان، واختلف في اشتقاقهما. فقيل: أُشتقا من أجيج النار وهو التهابها، أو أُشتقا من الأجاج وهو الماء الشديد الملوحة، أو أُشتقا من الأج وهو سرعة العدو، أو أُشتقا من الأجة بالتشديد وهي الإختلاط والإضطراب.
فهل يمكن أن يكون يأجوج ومأجوج نوع من الجن المؤذي الذي يمكن لنبي الله سليمان عليه السلام أن يوقفهم عند حدهم بسهولة. فحبسهم، إلى أن يأتي يوم يموج بعضهم في بعض.
المهم هؤلاء القوم، الجاهلين، يتعرضون للإفساد من يأجوج ومأجوج. وهنا يمكن أن نستشف أن الفساد يمكن أن يعرفه ويشعر به الجاهل ناهيك عن غير الواعي.
وبما أن فسد معناها نتن أو أعطب ففي حالة يأجوج وماجوج ب "مفسدون في الأرض" تعني عدة معاني منها القتل، والسرقة، والتخريب، والظلم، والجور، والإبتزاز، والإستغلال، والإحتقار ..إلخ، وهو فعل كل ما هو عكس الإصلاح للأرض.
فلم يبتزهم ذو القرنين، ويستغل جهلهم لأن يصيروا مؤمنين ليصنع لهم الردم. فكان من واجبه وهو ملك لكل هذه الأرض أن يساوي بينهم كرعية ولا يطلب منهم خراجا لذلك ولا جزية. فقد طلبوا أن يجعلوا له خرجا ولكنه رفض. ولم يذهب ليقاتل ويجتاح ويقهر يأجوج وماجوج ليدينوا بدينه ولكنه بحكمة فصلهم بردم منيع لكي لا يتعدوا على القوم الذين لا يكادون يفقهون قولا.
وهذا يوضح خطورة إختلاط القوم المفسدين بالجاهلين. فمن الأولى عزل المفسدين عن أي ناس لكي لا يفسدوا معهم البقية.
وقد ذكرنا في الحلقة السابقة أنه بنى الردم بين السدين من زبر الحديد وعين القطر أو النحاس المسال الذي أساله له الله تعالى. وإذ انه لم يتجبر ويسيطر عليهم فقد قدم لهم خدمات مملكته بكل إتقان وضمن لهم الإستقرار والأمان ليعيشوا بسلام.
أليست هذه عبرة وعظة لهؤلاء القوم أن يهتدوا لنور الإيمان بهذا الرجل الصالح للبشرية و القدوة للناس جميعا.
ألم توضح لك هذه العبرة والعظة أن الدين ليس لقهر الناس ولا العباد والسيطرة والتجبر عليهم. الدين لتصلح به نفسك وإذا صلحت به نفسك، حري بك ان تكون أمة ونسيج وحدك. أما بالنسبة للدولة، فهي لكل الناس والبشر وبالعدل للإنسان وإتباع الأسباب البشرية. والتصرف بحكمة حسب الظروف ستكون بتصرفاتك حقا داعية إلى الله بدون إقامة دولة دينية. لأن الغرض في النهاية هو ليس إقامة دولة دينية بل لتؤمن كل البشرية ورحمة للعالمين وليس للمؤمنين فقط.
وفي الأساس أنه لا يوجد شئ إسمه دولة دينية. ولكن التي وجدت لأي دين أثبتت عبر التاريخ أنها دولة تفرق البشر و تكون معزولة ولا تمنى إلا بالإنفصالات. ومن الغريب أن الأستاذ سيّد قطب (رحمه الله) وهو أكبر دعاة الدولة الدينية تحدث عن ذي القرنين في كتاب في ظلال القرآن: "وبذلك تنتهي هذه الحلقة من سيرة ذي القرنين. النموذج الطيب للحاكم الصالح. يمكنه الله في الأرض، وييسر له الأسباب، فيجتاح الأرض شرقا وغربا؛ ولكنه لا يتجبر ولا يتكبر، ولا يطغى ولا يتبطر، ولا يتخذ من الفتوح وسيلة للغنم المادي، واستغلال الأفراد والجماعات والأوطان، ولا يعامل البلاد المفتوحة معاملة الرقيق؛ ولا يسخر أهلها في أغراضه وأطماعه.. إنما ينشر العدل في كل مكان يحل به، ويساعد المتخلفين، ويدرأ عنهم العدوان دون مقابل؛ ويستخدم القوة التي يسرها الله له في التعمير والإصلاح، ودفع العدوان وإحقاق الحق. ثم يرجع كل خير يحققه الله على يديه إلى رحمة الله وفضل الله، ولا ينسى وهو في إبان سطوته قدرة الله وجبروته، وأنه راجع إلى الله."
فأنا أتفق مع سيد قطب في ما قاله عن ذي القرنين ولكن أختلف معه في كلمة إجتياح وإقامة أي دولة دينية. بل بالعكس تماما فإنه لم يدخل الدين أساسا في حكمه بل عمل بإتباع الأسباب البشرية وإقامة العدل بين الناس بمختلف معتقداتهم.
فبرغم صلاح ونبوة هذا العبد الصالح أو النبي لم يلقبه الله في هذا المقام بأكثر من لقبه الأرضي الذي يتحدث به الناس معه وأنه إنسان عادي (ذو القرنين). ولكن أساسه كان العدل، ثم أتبع سببا، والعمل بالأسباب البشرية في الحكم وليس الوحي بالرغم من منزلته لدى الله سبحانه، ثم أتبع سببا، فقام بتوحيد الناس وإعطائهم أمثلة بيانية بعمله لهم وإرساء قواعد وقوانين ليحافظوا على مجتمعاتهم. وهو ما يتفق مع قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (أنتم أعلم بشئون دنياكم..).. فأتبعوا سببا يا أولي الألباب.
فما لذي القرنين لذي القرنين وما لنبي الله سليمان لنبي الله سليمان وما لله لله.
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.